المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال الصفدي - بعد نقله ذلك -: ما جرى للمأمون - أنوار الربيع في أنواع البديع

[ابن معصوم الحسني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌أنوار الربيع في أنواع البديع

- ‌حسن الابتداء وبراعة الاستهلال

- ‌الجناس المركب والمطلق

- ‌الجناس الملفق

- ‌الجناس المذيل واللاحق

- ‌الجناس التام والمطرف

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب

- ‌الجناس المعنوي

- ‌الاستطراد

- ‌الاستعارة

- ‌المقابلة

- ‌وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي

- ‌الافتنان

- ‌اللف والنشر

- ‌الالتفاف

- ‌الاستدراك

- ‌تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني

- ‌ حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر

- ‌ الجزء الثاني

- ‌الإبهام

- ‌الطباق

- ‌إرسال المثل

- ‌الأمثال السائرة

- ‌التخيير

- ‌النزاهة

- ‌الهزل المراد به الجد

- ‌التهكم

- ‌تنبيهان

- ‌القول بالموجب

- ‌التسليم

- ‌الاقتباس

- ‌المواربة

- ‌التفويف

- ‌الكلام الجامع

- ‌المراجعة

- ‌المناقصة

- ‌المغايرة

- ‌الجزء الثالث

- ‌تتمة باب المغايرة

- ‌التوشيح

- ‌التذييل

- ‌تشابه الأطراف

- ‌التتميم

- ‌الهجو في معرض المدح

- ‌الاكتفاء

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌الاستثناء

- ‌مراعاة النظير

- ‌التوجيه

- ‌التمثيل

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌القسم

- ‌حسن التخلص

- ‌الإطراد

- ‌العكس

- ‌الترديد

- ‌المناسبة

- ‌الجمع

- ‌الانسجام

- ‌تناسب الأطراف

- ‌ائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌المبالغة

- ‌ الإغراق

- ‌ الغلو

- ‌التفريق

- ‌التلميح

- ‌العنوان

- ‌التسهيم

- ‌التشريع

- ‌المذهب الكلامي

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌الرجوع

- ‌تنبيهات

- ‌تجاهل العارف

- ‌الاعتراض

- ‌حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

- ‌التهذيب والتأديب

- ‌الاتفاق

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌المماثلة

- ‌التوشيع

- ‌التكميل

- ‌شجاعة الفصاحة

- ‌التشبيه

- ‌الفصل الأول في الطرفين

- ‌الفصل الثاني في الوجه

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الثالث في الغرض

- ‌الفصل الرابع في الأحوال

- ‌الفصل الخامس في الأداة

- ‌الفرائد

- ‌التصريع

- ‌الاشتقاق

- ‌السلب والإيجاب

- ‌المشاكلة

- ‌ما لا يستحيل بالانعكاس

- ‌التقسيم

- ‌الإشارة

- ‌تشبيه شيئين بشيئين

- ‌الكناية

- ‌الترتيب

- ‌المشاركة

- ‌التوليد

- ‌الإبداع

- ‌الإيغال

- ‌النوادر

- ‌التطريز

- ‌التكرار

- ‌التنكيت

- ‌حسن الإتباع

- ‌الطاعة والعصيان

- ‌البسط

- ‌المدح في معرض الذم

- ‌الإيضاح

- ‌التوهيم

- ‌الألغاز

- ‌الإرداف

- ‌الاتساع

- ‌التعريض

- ‌جمع المؤتلف والمختلف

- ‌الإيداع

- ‌تنبيهات

- ‌المواردة

- ‌الالتزام

- ‌المزاوجة

- ‌المجاز

- ‌التفريع

- ‌التدبيج

- ‌التفسير

- ‌التعديد

- ‌حسن النسق

- ‌حسن التعليل

- ‌التعطف

- ‌الاستتباع

- ‌التمكين

- ‌التجريد

- ‌إيهام التوكيد

- ‌الترصيع

- ‌التفصيل

- ‌الترشيح

- ‌الحذف

- ‌التوزيع

- ‌التسميط

- ‌التجزئة

- ‌سلامة الاختراع

- ‌تضمين المزدوج

- ‌ائتلاف اللفظ مع المعنى

- ‌الموازنة

- ‌ائتلاف اللفظ مع الوزن

- ‌ائتلاف الوزن مع المعنى

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ

- ‌الإيجاز

- ‌التسجيع

- ‌تنبيهات

- ‌التسهيل

- ‌الإدماج

- ‌الاحتراس

- ‌حسن البيان

- ‌العقد

- ‌تنبيهات

- ‌التشطير

- ‌المساواة

- ‌براعة الطلب

- ‌حسن الختام

- ‌كلمة الختام للمؤلف

الفصل: قال الصفدي - بعد نقله ذلك -: ما جرى للمأمون

قال الصفدي - بعد نقله ذلك -: ما جرى للمأمون عفا الله عنه مع هذا القاضي المسكين على خلاف المعهود من حلمه ومن مكارم أخلاقه، وكان غير هذا الفعل أولى به، ولكنه صان منصب القضاء ووفره وأجله فعفا الله عنه. وأما هذا القاضي الخليجي، فقد اختلج في خاطرة من الوشاة ما أضر به عند محبوبته وعند الخليفة، وهذا من كهانة الشعر، ومما يتفق وقوعه للشاعر بعد مدة مديدة. وأما علوية فاعله الله، ولا أعلى له كعبا فقد أضر بحاله، وعطله من حلي القضاء. انتهى.

وقد مر مثل هذا القسم في نوع الجناس التام، وهو قول العلامة السيّد ماجد البحراني رحمه الله:

وذو هيف ما البدر يوما ببالغ

مدى وجنتيه في احمرار ولا نشر

برئنا من الإسلام إن سيم وصله

علينا بما فوق النفوس ولا نشري

وأما أرباب البديعيات فبنوا أبياتهم على النوع الأول من أنواعه، وهو المبني على الفخر والتعاظم وعلو الهمة.

فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله قوله:

لا لقبتني المعالي بابن بجدتها

يوم الفخار ولا بر التقى قسمي

يقال: هو ابن بجدتها - بفتح الباب الموحدة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة - للعالم بالشيء، وللدليل الهادي، ولمن لا يبرح عن قوله (قاله في القاموس) . وقال الجوهري: يقال (عنده بجدة ذلك) بالفتح أي علم ذلك، ومنه قيل للعالم بالشيء المتقن له: هو ابن بجدتها.

قال ابن حجة: هذا البيت فيه نقص، لأنه غير صالح للتجريد، ولم يأت ناظمه بجوابه إلا في بيت الاستعارة الذي ترتب بعده وهو:

إن لم أحث مطايا العزم مثقلة

من القوافي تؤم المجد عن أمم

وأصحاب البديعيات شرطوا أن يكون كل بيت شاهدا على نوعه بمجرده، وإذا كان البيت له تعلق بما قبله، أو بما بعده، لا يصلح أن يكون شاهدا على ذلك النوع. انتهى.

قلت: أما نقصه من حيث تعلقه بما بعده لارتباطه القسم بجوابه فصحيح وأما من حيث عدم صلاحيته لكونه شاهدا على النوع المذكور فممنوع، لأن المستشهد عليه به هو القسم فقط، وهو قائم بالبيت المذكور، لا القسم وجوابه.

وبيت بديعية العز الموصلي قوله:

برئت من سلفي والشم من هممي

إن لم أدن بتقي مبرورة القسم

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

برئت من أدبي والغر من شيمي

إن لم أبر بنأي عنهم قسمي

لا يخفى أن المصراع الأول من هذا البيت من صدر بيت الشيخ عز الدين الموصلي.

ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا البيت في بديعيته.

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

لا أسفر العلم لي عن وجه مشكلة

إن لم أصغ قسما لفظي لمدحهم

تأمل قوله: إن لم أصغ قسما، ما معناه؟ فإن أراد بقوله: قسما، إنه تمييز لقوله: لا أسفر العلم لي عن وجه مشكلة، فلا أظن مثل هذا التركيب ورد في كلام العرب.

وبيت بديعيتي هو قولي - والخطاب للنفس المقدم ذكرها في باب العتاب قبله -:

لا بر صدقي وعزمي في العلى قسمي

إن لم أردك رد الخيل باللجم

والشيخ شرف الدين المقري اقتفى أثر الشيخ صفي الدين الحلي في بيته فأتى بالقسم في بيت وجوابه في البيت الذي يتلوه فقال:

لا أسفرت لي وجوه المشكلات ولا

حللت عقدة معنى غير منفهم

قوله: منفهم، اسم فاعل من أنفهم، مطاوع فهمته، لكنهم صرحوا: أن انفعل مطاوع فعل يختص بالعلاج والتأثير. قال النظام النيسابوري في شرح الكافية: كأنهم لما خصوه بالمطاوعة التزموا أن يكون من أفعال الجوارح، لتكون مطاوعته جلية عند الحس، بخلاف ما لو كان من المعاني فإن مطاوعته قد تخفى. ولهذا لا يقال علمته فانعلم. انتهى بنصه، فظهر لك أن قوله: منفهم غير صواب، لأنه كما لا يقال علمته فانعلم، كذلك لا يقال: فهمته فانفهم، إذ علة المنع فيها واحدة. وقال في القاموس: استفهمني فأفهمته وفهمته، وانفهم لحن. انتهى والله أعلم.

‌حسن التخلص

وقد هديت إلى حسن التخلص من

غي النسيب بمدحي سيد الأمم

ص: 228

حسن التخلص - هو الموضع الثاني من المواضع الأربعة التي نبه مشايخ البديع على وجوب التأنق فيها، وهو عبارة عن أن ينتقل المتكلم مما ابتدأ به الكلام من غزل، أو نسيب، أو فخر، أو وصف، أو غير ذلك إلى المقصود؛ على وجه سهل برابطة ملائمة؛ وجهة جامعة مقبولة يختلس به المقصود اختلاسا رشيقا، بحيث لا يتفطن السامع للانتقال من المعنى الأول إلا وقد رسخت ألفاظ المعنى الثاني في السمع، وقر معناه في القلب لشدة الالتئام بينهما، وأحسنه ما كان في بيت واحد، وما كان من الغزل إلى المدح، وإنما كان هذا الموضع من المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها، لأن السامع مترقب للانتقال من الافتتاح إلى المقصود كيف يكون، فإذا كان حسنا متلائم الطرفين حرك من نشاط السامع، وأعان على إصغاء ما بعده، وإلا فبالعكس، وقد تقدم الفرق بين التخلص والاستطراد في نوع الاستطراد.

ثم التخلص إنما اعتنى به المولدون ثم المتأخرون فلهجوا به كثيرا لما فيه من البراعة والدلالة على قوة عارضة الشاعر وملكته، وأما المتقدمون من الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين فهو عزيز في كلامهم، نزر الوجود وإن وقع منهم فإنما يقع على سبيل الندرة، ومذهبهم في الانتقال إلى المدح الذي جروا عليه في غالب مدائحهم إنما هو الاقتضاب الآتي بيانه: فمن المخالص الواردة في كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى، وهو من بديع التخلص:

إن البخيل ملوم حيث كان ول

كن الجواد على علاته هرم

قال ابن حجة: انظر إلى هذا العربي القديم كيف أحسن التخلص من غير اعتناء في بيت واحد، وهذا هو الغاية القصوى عند المتأخرين الذين اعتوا به، وعلى كل تقدير فمن كلام العرب استنبط كل فن، فإنهم ولاة هذا الشأن، لكنهم كانوا يؤثرون عدم التكلف؛ ولا يرتكبون من فنون البديع إلا ما خلا من التعسف. انتهى.

ومها قول حسان بن ثابت في التخلص من الغزل إلى الحماسة:

قولي لطرفك أن يكف عن الحشا

سطوات نيران الهوى ثم اهجري

وانهي جمالك أن ينال مقاتلي

فينال قومك سطوة من معشري

إني من القوم الذين جيادهم

طلعت على كسرى بريح صرصر

غير أن هذا المعنى معيب عند سماسرة الأدب الناسلين إليه من كل حدث فإن المتغزل لا يليق به الافتخار على محبوبته، ولا أخذ الثار منها، فإن دم المحب هدر.

وهذا كما عيب على الفرزدق قوله:

يا أخت ناجية بن سامة إنني

أخشى عليك بني إن نذروا دمي

قالوا: ما للمتغزل وذكر الثأر؟.

وقول ربيعة بن مقروم أحد بني ضبة، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، يمدح مسعود بن سالم، وهو حسن التخلص أيضاً:

وجسرة أجد قدمى مناسمها

أعملتها بي حتى تقطع البيدا

كلفتها فرأت حتما تكلفها

ظهيرة كأجيج النار صيخودا

في مهمة قذف يخشى الهلاك به

أصداؤه لا تني بالليل تغريدا

لما تشكت إلي الأين قلت لها

لا تستريحين ما لم ألق مسعودا

ومن المخالص الواردة في كلام الإسلاميين قول الفرزدق وهو أحسن مخلص سمع لإسلامي:

وركب كأن الريح تطلب عندهم

لها ترة من جذبها بالعصائب

سروا يخبطون الليل وهي تلفهم

إلى شعب الأكوار من كل جانب

إذا آنسوا نارا يقولون ليتها

وقد خصرت أيديهم نار غالب

وقول المغيرة بن حبناء - بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة وبعد النون ألف ممدودة - وهي أمه - على ما في القاموس - لا أبوه كما زعم صاحب الأغاني، والحبناء الضخمة البطن، وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، يمدح المهلب بن أبي صفرة:

حال الشجا دون طعم العيش والسهر

واعتاد عينك من إدمانها الدرر

واستحقبتك أمور كنت تكرهها

لو كان ينفع منها النأي والحذر

وفي الموارد للأقوام مهلكة

إذا الموارد لم يعلم لها صدر

أمسى العباد بشر لا غياث لهم

إلا المهلب بعد الله والمطر

كلاهما طيب ترجى نوافله

مبارك سيبه يرجى وينتظر

ومن محاسن مخالص المولدين قول أبي قابوس الحميري في يحيى البرمكي:

أجدك ما تدرين أن رب ليلة

كأن دجاها من قرونك ينشر

لهوت بها حتى تجلت بغرة

كغرة يحيى حين يمدح جعفر

وقول مسلم بن الوليد:

ص: 229

يقول صحبي وقد جدوا على عجل

والخيل تستن بالركبان في اللجم

أمغرب الشمس تنوى أن تؤم بنا

فقلت كلا ولكن مطلع الكرم

قال الصفدي: وهذا في غاية الحسن التي تكبو الفحول دون بلوغها وتعجز الشعراء عن الظفر بمصونها والتحلي بمصوغها.

وقد أخذه أبو تمام فأغار على اللفظ والمعنى، وقال في مخلص قصيدة يمدح بها عبد الله بن طاهر ذي اليمينين الخزاعي:

يقول في قومسٍ صحبي وقد أخذت

منا السرى وخطا المهرية القود

أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا

فقلت كلا ولكن مطلع الجود

وأخذه أبو إسحاق الغزي أيضاً وسبكه لما قال:

تقول إذا حثثناها وظلت

تناجينا بألسنة الكلال

إلى أفق الهلال مسير ركبي

فقلنا بل إلى أفق النوال

فأين معالي الشمس ممن يحاول، وأين الثريا من يد المتناول

ومن محاسنها أيضاً قول أبي نواس:

وإذا جلست إلى المدام وشربها

فاجعل حديثك كله في الكأس

وإذا نزعت عن الغواية فليكن

لله ذاك النزع لا للناس

وإذا أردت مديح قوم لم تمن

في مدحهم فامدح بني العباس

وقوله في مخلص قصيدة يمدح بها الخصيب بن عبد الحميد صاحب الخراج بمصر، أولها:

أجارة بيتينا أبوك غيور

وميسور ما يرجى لديك عسير

فإن كنت لا خلما ولا أنت زوجة

فلا برحت دوني عليك ستور

وجاورت قوما لا تزاور بينهم

ولا وصل لا أن يكون نشور

فما أنا بالمشغوف ضربة لازب

ولا كل سلطان علي قدير

وإني لطرف العين بالعين زاجر

وقد كدت لا يخفى علي ضمير

يقول: أزجر بعيني عيون الناس فاعلم ما في ضمائرهم. وبعده:

تقول التي من بيتها خف محملي

عزيز علينا أن نراك تسير

أما دون مصر للغنى متطلب

بلى إن أسباب الغنى لكثير

فقلت لها واستعجلتها بوادر

جرت فجرى من جريهن عبير

ذريني أكثر حاسديك برحلة

إلى بلد فيه الخصيب أمير

إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا

فأي فتى بعد الخصيب تزور

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور

وهي قصيدة طويلة بليغة أحسن فيها كل الإحسان.

يروى: أنه لما قدم أبو نواس على الخصيب بمصر صادر في مجلسه جماعة من الشعراء ينشدون مدائح لهم فيه، فلما فرغوا قال الخصيب: ألا تنشدنا أبا علي؟ فقال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصى موسى تلقف ما يأفكون. فأنشده هذه القصيدة، فلما فرغ من إنشادها أمر أن يملأ فمه جوهرا.

وفي كتاب آداب الغرباء: أن أبا نواس كان عائدا من الشام إلى بغداد قال: فإني على ظهر فرسي إذ ترتمت بهذه الأبيات (تقول التي من بيتها خف محملي- الأبيات) قال: فسمعت من ورائي شهقة، فالتفت فإذا شيخ عليه أطمار رثة يقود فرسا أعجف، فقال لي: أعد يا أبا نواس هذه الأبيات، فأعدتها، قال: فيمن هذه؟ قلت امتدحت بها الخصيب أمير مصر، قال: ما أرفدك؟ قلت أنه ملأ فمي جوهرا بعته بمائة ألف درهم، قال: أتعرفه؟ قلت: نعم، قال: إني والله الخصيب. فلما عرفته نزلت عن دابتي وقبلت يده ورجله، فقال: لا تفعل. ثم سألته عن سبب تغير أمره فقال لي: قولك (الدائرات تدور) . قال: فدفعت إليه جميع ما معي من مركوب ونفقة وثياب، وسألته قبولها، فأبى وقال: والله لا أخذت من يد أرفدتها. ثم ركب دابته وتركني ومضى. انتهى.

ومن محاسن التخلص للمولدين أيضاً قول ابن المعتز:

قايست بين جمالها وفعالها

فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي

والله لا كلمتها ولو أنها

كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي

وقول علي بن الجهم:

وليلة كحلت بالنفس مقلتها

ألقت قناع الدجى في كل أخدود

قد كاد يغرقني أمواج ظلمتها

لولا اقتباسي سنىً من وجه داود

وقوله أيضاً يذكر سحابة:

أتتنا بها ريح الصبا فكأنها

فتاة تزجيها عجوز تقودها

فما برحت بغداد حتى تفجرت

بأودية ما تستفيق مدودها

فلما قضت حق العراق وأهله

أتاها من الريح الشمال بريدها

فمرت تفوت الطرف سعيا كأنها

جنود عبيد الله ولت بنودها

ص: 230

يريد انصراف عبد الله بن خاقان عن الجعفري إلى سر من رأى عند قتل المتوكل.

وقول ديك الجن وهو من معاصري أبي نواس:

وغرير يقضي بحكمين في ال

راح بجور وفي الهوى بمحال

للنقا ردفه وللخوط ما حم

ل لينا وجيده للغزال

فعلت مقلتاه بالصب ما تف

عل جدوى يديك بالأموال

وقول أبي تمام: ت

خلق أظل من الربيع كأنه

خلق الإمام وهدية المتيسر

وقوله أيضاً:

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسيل حرب للمكان العالي

وتنظري خبب الركاب ينصها

محي القريض إلى مميت المال

هذه المطابقة في هذا المخلص زادته رونقا وبهجة، وسلكت به من كمال الحسن نهجه.

وقوله يمدح إسحاق بن إبراهيم:

صب الفراق علينا صب من كثب

عليه إسحاق يوم الروع منتقما

وقوله:

ودع فؤادك توديع الفراق فما

أراه من سفر التوديع منصرفا

يجاهد الشوق طورا ثم يجذبه

جهاده للقوافي في أبي دلفا

قوله:

فالأرض معروف السماء قرى لها

وبنو الرجاء لهم بنوا العباس

وقول أبي عبادة البحتري:

كأن سناها بالعشي لصحبها

تبسم عيسى حين يلفظ بالوعد

وأحسن من هذا قول محمد بن وهيب الحميري من قصيدة يمدح بها المأمون:

ما زال يلثمني مراشفه

ويعلني الإبريق والقدح

حتى استرد الليل خلعته

وفشا خلال سواده وضح

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح

وقول أبى الطيب المتنبي:

نودعهم والبين فينا كأنه

قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق

وقوله أيضاً:

مرت بنا بين تربيها فقلت لها

من أين جانس هذا الشادن العربا

فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى

ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا

وقوله أيضاً:

ومقانب بمقانب غادرتها

أقوات وحش كن من أقواتها

أقبلتها غرر الجياد كأنما

أيدي بني عمران في جبهاتها

وقوله أيضاً:

إذا صلت لم أترك مصالا لفاتك

وإن قلت لم أترك مقالا لعالم

وإلا فخانتني القوافي وعاقني

عن ابن عبيد الله ضعف العزائم

وقوله أيضاً:

ولو كنت في أسر غير الهوى

ضمنت ضمان أبي وائل

فدى نفسه بضمان النضار

وأعطى صدور القنا الذابل

وقوله أيضاً:

خليلي إني لا أرى غير شاعر

فلم منهم الدعوى ومني القصائد

فلا تعجبا إن السيوف كثيرة

ولكن سيف الدولة اليوم واحد

وقوله من قصيدة يمدح بها علي بن أحمد بن عامر الإنطاكي، وتخلص إلى المدح بذكر جده عامر. وغلط ابن حجة إذ قال (يمدح علي بن عامر، ويعرض بذكر أبيه عامر ويمدحه بعد وفاته) :

ويوم وصلناه بليل كأنما

على أفقه من برقه حلل حمر

وليل وصلناه بيوم كأنما

على متنه من دجنه حلل خضر

وغيث ظننا تحته أن عامرا

علا لم يمت أو في السحاب له قبر

أو ابن ابنه الباقي علي بن أحمد

يجود به لو لم أجز ويدي صفر

يقول: لو لم أجز هذا الغيث ويدي خالية، لقلت أن الممدوح هو الذي يجود به، ولكن لما جزت ويدي صفر علمت أنه جود لا جود.

وقوله أيضاً:

حدق لاحسان من الغواني هجن لي

يوم الفراق صبابة وغليلا

حدق يذم من القواتل غيرها

بدر بن عمار بن إسماعيلا

يذم، أي يعطي الذمام، بمعنى يجير. يقول: إن الممدوح يجير من كل ما يقتل الناس سوى هذه الأحداق.

وقول السري الرفاء، وهو من معاصري المتنبي:

عصر مزجت شمائلي بشموله

وظلاله ممزوجة بشماله

حتى حسبت الورد من أشجاره

يجنى أو الريحان من آصاله

وكأنني لما ارتديت ظلاله

جار الوزير المرتدي بظلاله

وقوله من أخرى:

أكني عن البلد الحبيب بغيره

وأرد عنه عنان قلب مائل

وأود لو فعل الحيا بسهوله

وحزونه فعل الأمير بآمل

وقوله من أخرى:

وركائب يخرجن من غلس الدجى

مثل السهام إذ مرقن مروقا

والفجر مصقول الرداء كأنه

جلباب خود أشربته خلوقا

أغمامة بالشام شمن بروقها

أم شمن من شيم الأمير بروقا

ص: 231

وقول أبي الفرج الببغا في الوزير أبي نصر سابور بن أردشير:

لمت الزمان على تأخير مطلبي

فقال ما وجه لومي وهو محظور

فقلت لو شئت ما فات الغنى أملي

فقال أخطأت بل لو شاء سابور

وقول السلامي من قصيدة فيه:

ما حق هذا الربع إذ فيه الهوى

أن يستضام بوقفة المستعجل

كل إن حصرت إلى الدموع سؤاله

فالدمع أفصح من سؤال المنزل

يا هذه إن لم يكن لك نائل

فعدي وإن لم تجملي فتجملي

جودي وإن لم تحسني فتعلمي الإ

حسان من كرم الوزير المفضل

وقول أحمد بن المغلس من قصيدة فيه أيضاً:

أبروق تلألأت أم ثغور

وليال دجت لنا أم شعور

وغصون تأودت أم قدود

حاملات رمانهن الصدور

طالعات من السجوف على الرك

ب بدور أبرزنهن الخدور

مثقلات أردافهن ولكن

مرهفات من فوقهن الخصور

مطمعات في وصلهن ودون ال

وصل إن رمته دماء تمور

عز منهم ما يرام عز جناب يحل فيها لوزير

وقول أبي (عبد الله) الحسين بين حجاج من قصيدة في أبي تغلب وقد توجه من الموصل إلى بغداد أولها:

أفضض الدن واسقني يا نديمي

اسقني من رحيقه المختوم

اسقني الخمرة التي نزلت في

ها على القوم آية التحريم

اسقنيها ولا تكلني إلى النق

ل عليها ولا إلى المشموم

بادر الصبح بالصبيحة وجها

فابنة الكرم شرط كل كريم

ثم قل للشمال من أين يا ري

ح تحملت روح هذا النسيم

أترى الخضر مر لي فيك أم جزت برضوان في جنان النعيم

أم تقدمت والأمير أبو تغ

لب قد جد عزمه في القدوم

وقوله من أخرى: ت

ومهاة غريرة

غضة الحسن ناهد

فتنتني بمقلة

وبكف وساعد

وبثغر منضد

شنب الريق بارد

ونسيم كأنه اشتق من نشر صاعد

فهو طيبا كذكره

في الثنا والمحامد

وأما سائر تخلصاته التي جرى فيها على مذهبه المشهور من السخف والمجون فهو كما قيل: ما شق له فيه غبار، ولا باراه أحد في ذلك إلا وبار. بيناه يهدر سخفا، إذ به قد رفع إلى المديح سجفا، يتصل مديحه بمجونه، اتصال الزهر بغصونه، والحديث بشجونه، ويتحد منه الجد بالهزل؛ اتحاد الذل بالعزل، والجدب بالأزل، غير أننا ننزه هذا الشرح الشريف عن مثل ذلك السخف السخيف.

وأحشم ما نذكر له من ذلك قوله:

فقلت يا سيدتي

أحسنت لا فجعت بك

أحسنت يا أوسع من

فتوح مولانا الملك

ومن مخالص الشريف الرضي رضي الله عنه قوله:

يؤمل الناس أن يبقوا وما علموا

أن الفتى ليد الأقدار مولود

شغلت بالهم حتى لا يفرحني

لولا الخليفة نوروز ولا عيد

وقوله من قصيدة في صديق له:

ولأرحلن العيس مرحلة

عوجاء بين القور والوهد

علي ألاقي من أسر به

ويقل عند لقائه كدي

وأتوب من ذم الزمان إذا

علقت يداي يدي أبي سعد

وقوله من قصيدة يمدح بها الملك بهاء الدولة، أولها:

أين الغزال الماطل

بعدك يا منازل

قد بان حالي سر به

فلم أقام العاطل

من لقتيل الحب لو

رد عليه القاتل

يجرحه النبل ويه

وى أن يعود النابل

وما أحسن قوله منها:

ما ضر ذي الأيام لو

أن البياض الناصل

كل حبيب أبدا

أيامه قلائل

ظل وكم يبقى على

فوديك ظل زائل

ما أحسن تشبيه سواد الشعر بالظل، وما أبدع هذا المعنى وأبرعه، وأحلاه في النفس وأوقعه، وأعجب لهذا المعنى الطويل، في هذا اللفظ القليل، وهذه الغاية التي تكبو دونها الفحول، وترى طوامح الأبصار إليها كأنها حول.

وبعده:

لقد رأى بعارضي

ك ما يحب العاذل

واسترجعت عنك اللحاظ الخرد العقائل

وأغمدت عنك نص

ول الأعين القواتل

إلى أن قال:

سقى ليالي الداجو

ن برقة سلاسل

يخلفه على الربى ال

نوار والخمائل

تكسى العواري وتح

لى بعده العواطل

كأنما يمطره

ملك الملوك العادل

هو الحيا وفي الحيا

من جوده شمائل

ص: 232

ومن مخالصه التي ما سبق إليها، ولا زاحمه وارد عليها قوله:

عني إليك فما الوصال بنافع

من لا يعذب قلبه بغرام

ما كنت أسمح بالسلام لمعرض

وعلى أمير المؤمنين سلامي

الذي أقوله: أنه طفر من الشطر الأول إلى الثاني طفرة النظام، مع كمال التناسب البديع النظام. فإن المناسبة بين فخره، وبين السلام على أمير المؤمنين، هي الغاية القصوى في هذا العقد الثمين.

ومن مخالص تلميذه مهيار بن مرزويه الكاتب رحمه الله من قصيدة يمدح بها زعيم الملك يقول فيها:

رمى كبدي وراح وفي يديه

نضوح دمي فقيل هو الجريح

وأرسل لي مع العواد طيفا

يرى كرما ومرسله شحيح

إلى أن قال وتخلص:

فما لك يا خيال خلاك ذم

أتاحك لي على اليأس المتيح

وكيف وبيننا خبتا زرود

قربت عليك والبلد الفسيح

أعزم من زعيم الملك تسري

به أم من ندى يده تميح

وقوله من أخرى في عميد الرؤساء أبي طالب بن أيوب:

شأنك يا بن الصبوات فالتمس

غيري أخا لست لهن ولدا

مولاك من لا يخلق الشوق له

وجدا ولا طول البعاد كمدا

كان كما يشهد من عفافه

على المشيب يافعا وأمردا

موقرا متعظا شبابه

كأنه كان مشيبا أسودا

تحسبه نزاهة وكرما

ومجد نفس بابن أيوب اقتدى

وقوله من أخرى يهني فيها نقيب النقباء أبا القاسم بعقد نكاح، أولها:

طرف نجدية وظرف عراقي

أي كأس يديرها أي ساق

سنحت والقلوب مطلقة تر

عى وغابت وكلها في وثاق

لم تزل تخدع العيون إلى أن

علقت دمعة على كل ماق

ولم يزل مهيار يخدع القلوب برقة هذا التشبيب إلى أن قال:

بين آمالنا ببغداد والنج

ح مدى بين رمية وفواق

ضمنت حورها لنا العيش والصا

حب فيها الكفيل بالأرزاق

وقوله في أخرى في الصاحب أبي القاسم الحسين بن عبد الرحيم، أولها:

دمعي وإن كان دما سائلا

فما أسوم الدية القاتلا

من حكم الألحاظ قي قلبه

دل على مقتله النابلا

سل نافث السحر بنجد متى

حول نجد بعدنا بابلا

وناد لمياء سهرنا لها ال

ليل فلم نحرز به طائلا

ديني على فيك فلا تقنعي

وهو مليء أن يرى ماطلا

إلى أن قال:

لو جمع الرأي بجمع لنا

لم نرج من نعلمه باخلا

أو كان في الكرب الحسين انبرت

كفاه أو علمك النائلا

وقوله من أخرى في الوزير أبي سعد بن عبد الرحيم:

وكان يضيء لي أملي فأسري

فقد أضللت في الليل البهيم

كأني لم أنط بالنجم همي

ولم أركب إلى العلياء عزيمي

ولم أهتك دجنة كل خطب

بفجر من بني عبد الرحيم

وقوله من أخرى في المهذب أبي منصور الكاتب، منها:

ولائم ملتفت عن صبوتي

ينكرها ولو أحب لصبا

إذا نسبت بهواي ساءه

مصرحا وإن كنيت غضبا

وما عليه إن غرمت بابلا

بحاجز وفاطما بزينبا

يلومني لا مات إلا لائما

أو عاش عاش بالهوى معذبا

قال عشقت أشيبا يعدها

منقصة نعم عشقت أشيبا

هل شعر بدلته بشعر

مبدل بأرب لي أربا

إلى أن قال:

ما أكثر الناس وما أقلهم

وما أقل في القليل النجبا

ليتهم إذ لم يكونوا خلقوا

مهذبين صحبوا المهذبا

وقوله من أخرى في الوزير أبي سعد، مطلعها:

لو كان يرفق ظاعن بمشيع

ردوا فؤادي يوم كاظمة معي

قالوا النوى فخرجت وهو مصاحبي

ورجعت وهو مع الخليط مودعي

فلأيما من مهجتي تأسفي

ولأي قليب الغداة تفجعي

ولم يزل مطلقا عنان البيان، في مضمار هذا الإحسان، إلى أن أحرز قصبات السبق بقوله فيها:

إن شاء بعدهم الحيا فلينسكب

أو شاء ظل غمامة فليقلع

فمقيل جسمي في ذيول ربوعهم

كاف وشربي من فواضل أدمعي

كرمت جفوني في الديار فأخصبت

فغنيت أن أرد المياه وأرتعي

فكأن دمعي مد من أيدي بني

عبد الرحيم ومائها المتنبع

وسهرت حتى ما تميز مقلتي

فرقان مغرب كوكب من مطلع

ص: 233

فكأن ليلي من تقارب طوله

أسيافهم موصولة بالأذرع

وقوله من أخرى في فخر الملك منها:

يخوض الليل سائقهم أنيسا

بآي لا ح بين يديه نور

وكيف يخاف تيه الليل ركب

تطلع من هوادجه البدور

ومنها:

أما من قبلة في الله قالوا

متى حلت لشاربها الخمور

إلى أن قال متخلصا:

أرى كبدي وقد بردت قليلا

أمات الهم أم عاش السرور

أم الأيام خافتني لأني

بفخر الملك منها مستجير

وقوله من أخرى في سند الدولة أبي الحسن بن مزيد، مطلعها:

هب من زمانك بعض الجد للعب

واهجر إلى راحة شيئا من التعب

ومشى على ذلك سائرا في رياض المقال، إلى أن اقتطف منها أنضر زهر فقال:

ترى نداماي ما بين الرصافة فال

بيضاء رواين من خمر ومن ضرب

أو عالمين

وقد بدلت بعدهم

ما دار أنسي وما كاسي وما نخبي

فارقتهم وكأني ذاكرا لهم

نضو تلاقت عليه عصتا قتب

سقى رضاي عن الأيام بينهم

غيث وبان عليها بعدهم غضبي

إذ نسكب الماء بغضا للمزاج به

ونطعم الشهد إبقاء على العنب

يمشي السقاة علينا بين منتظر

بلوغ كأس ووثاب فمستلب

كأنما قولنا للبابلي أدر

حلاوة قولنا للمزيدي هب

ولنمسك هنا عنان اليراعة، فقد طال مجالها في مضمار هذه البراعة ومحاسن مهيار لا تنتهي حتى ينتهي عنها. وما محاسن شيء كله حسن.

وممن جاء في حسن التخلص بالبديع المطرب، أبو القاسم محمد بن هاني متنبي المغرب، فإنه سبق في ذلك إلى غاية يقصر دون مداها سوابق الأفكار، وافتض منه أبكار معان هي ألذ من افتضاض عواتق الإبكار.

فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها أبا تميم المعز لدين الله، مطلعها:

ألا طرقتنا والنجوم ركود

وفي الحي أيقاض ونحن هجود

وقد أعجل الفجر الملمع خطوها

وفي أخريات الليل منه عمود

سرت عاطلا غضبى على الدر وحده

فلم يدر نحر ما دهاه وجيد

فما برحت إلا ومن سلك أدمعي

قلائد في لباتها وعقود

إلى أن قال سائرا إلى التخلص:

ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا

وأنا بلينا والزمان جديد

فليت مشيبا لا يزال ولم أقل

بكاظمة ليت الشباب يعود

ولم أر مثلي ما له من تجلد

ولا كجفوني ما لهن جمود

ولا كالليالي ما لهن مواثق

ولا كالغواني ما لهن عهود

ولا كالمعز ابن النبي خليفة

له الله بالفضل المبين شهيد

وقوله من أخرى فيه أيضاً مطلعها:

أرياك أم ردع من المسك صائك

ولحظك أم حد من السيف باتك

وأعطاف نشوى أم قوام مهفهف

تأود غصنفيه وارتجَّ عانك

وما شق جيب الحسن إلا شقائق

بخديك مفتوك بهن فواتك

أرى بينها للعاشقين مصارعا

فقد ضرجتهن الدماء السوافك

ولم يزل يذلل صعاب هذه القوافي، ويرد منها النمير الصافي، إلى أن قال:

ألم تريا الروض الأريض كأنما

أسرة نور الشمس فيه سبائك

كأن الشقيق الغض يكحل أعينا

ويسفك في لباته الدم سافك

وما تطلع الدنيا شموسا تريكها

ولا للرياض الزهر أيد حوائك

ولكنما ضاحكننا عن محاسن

حكتهن أيام المعز الضواحك

وقوله من قصيدة يمدح بها جعفر بن علي، مطلعها:

هل آجل مما أؤمل عاجل

أرجو زمانا والزمان حلاحل

وأعز مفقود شباب عائد

من بعدها ولى وإلف واصل

ما أحسن الدنيا بشمل جامع

لكنها أم البنين الثاكل

في كل يوم استزيد تجاربا

كم عالم بالشي وهو يسائل

ومنها:

يا دار أشبهت المهافيك المها

والسرب إلا أنهن مطافل

نضحت جوانحك الرياح بلؤلؤ

للطل فيه ردع مسك جائل

وغدت بجيب فيك مشقوق لها

نفس تردده ودمع هاطل

ولم يزل ينظم هذه الدرر، وينشر هذه الحبر، إلى أن أتى ببديع التخلص فقال:

بعدا لليلات أفلن بنا ولا

بعدت ليال بالغميم قلائل

إذ عيشنا في مثل دولة جعفر

والعدل فينا ضاحك والنائل

وقوله من أخرى فيه أيضاً:

ص: 234

كأن لواء الصبح غرة جعفر

رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا

وقوله من أخرى يمدح المعز، أولها:

ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقط

ما كان أحسنه لو كان يلتقط

بين السحاب وبين الريح ملحمة

قعاقع وظبى في الجو تخترط

كأنه ساخط يرضى على عجل

فما يدوم رضى منه ولا سخط

أهدى الربيع إلينا روضة أنفا

كما تنفس عن كافوره السفط

غمائم في نواحي الجو عاكفة

جعد تحدر عنها وابل سبط

كأن تهتانها في كل ناحية

مد من البحر يعلو ثم ينهبط

والبرق يظهر في لألاء غرته

قاض من المزن في أحكامه شطط

وللجديدين من طول ومن قصر

حبلان منقبض عنا ومنبسط

والأرض تبسط في خد الثرى ورقا

كما تنشر في حافاتها البسط

والريح تبعث أنفاسا معطرة

مثل العبير بماء الورد يختلط

كأنما هي أخلاق المعز سرت

لا شبهة للورى فيها ولا غلط

وقوله من أخرى فيه أيضاً، وهي من رقيق شعره، مطلعها:

قمن في مأتم على العشاق

ولبسن الحداد في الأحداق

ومنحن الفراق رقة شكوا

هن حتى عشقت يوم الفراق

وما أحسن قوله منها:

رب يوم لنا رقيق حواشي ال

لهو حسنا جوال عقد النطاق

قد لبسناه وهو من نفحات ال

مسك ردع الجيوب ردع التراقي

والأباريق كالظباء اللواتي

أوجست نبأة الجياد العتاق

مصغيات إلى الغناء مطلا

ت عليه كثيرة الإطراق

وهي شم الأنوف يشمخن كبرا

ثم يرعفن بالدم المهراق

وما زال جانيا من رياض الافتنان، زهرات هذه المعاني والبيان، حتى قال وأبدع في المقال:

لا تسلني عن الليالي الخوالي

وأجرني من الليالي البواقي

ضربت بيننا بأبعد مما

بين راجي المعز والإملاق

هذا المخلص مما تتقاصر عند سماعه همم فرسان هذا الميدان، علما منهم بأن اللحاق به كاد أن لا يكون في حيز الإمكان. وقد تقرر أن أحسن التخلص ما كان في بيت واحد، يثب فيه الشاعر من شطره الأول إلى الثاني وثبة تدل على قدرته، وتمكنه، وانفساح خطوته في مقاصده وتفننه، ولعمري إن هذه الوثبة في هذا البيت مما لا تنفسح إلى مثلها خطى كل شاعر ولا يحدث نفسه بها إلا مصاقع القالة من غلب الشعراء المساعر.

ومثل ذلك قوله أيضاً بل هو أوفى منه لكونه من الغزل إلى المدح، وقد نبهو على أن أحسن التخلص ما كان كذلك.

وهو من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي الأندلسي، مطلعها:

فتكات طرفك أم سيوف أبيك

وكؤوس خمر أم مراشف فيك

أجلاد مرهفة وفتك محاجر

ما أنت راحمة ولا أهلوك

يا بنت ذي السيف الطويل نجاده

أكذا يجوز الحكم في ناديك

قد كان يدعوني خيالك طارقا

حتى دعاني بالقنا داعيك

عيناك أم مغناك موعدنا وفي

وادي الكرى ألقاك أم واديك

منعوك من سنة الكرى وسروا فلو

عثروا بطيف طارق ظنوك

وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة

حتى إذا احتفل الهوى حجبوك

ولوى مقبلك اللثام وما دروا

أن قد لثمت به وقبل فوك

فضعي القناع فقبل خدك ضرجت

رايات يحيى بالدم المسفوك

ولنقتصر من مخالصه على هذا المقدار، فقد كدنا أن نفضي إلى الإملال بالإكثار.

ومن بديع حسن التخلص أيضاً قول أبي العلاء المعري:

ولو أن المطي لها عقول

وجدك لم نشد بها عقالا

مواصلة بها رحلي كأني

من الدنيا أريد بها انفصالا

سألن فقلت مقصدنا سعيد

فكان اسم الأمير لهن فالا

وممن برز في هذا الميدان، فسبق إلى غاية الإحسان، أبو العباس محمد الأبيوردي، فمن بديع مخالصه قوله من قصيدة في سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس:

وقفنا بمستن الوداع وراعنا

بحزوى غراب البين لأضمه وكر

فألف ما بين التبسم والبكا

سلو ووجد عيل بينهما الصبر

فو الله ما أدري أثغرك أدمعي

غداة تفرقنا أم الأدمع الثغر

تبرمت الأجفان بعدك بالكرى

فلا تلتقي أو تلتقي ولها العذر

يغيب فلا يحلو لعيني منظر

ويكثر مني نحوه النظر الشزر

ص: 235

ويلفظ سمعي منطقا لم يفه به

على أنه كالسحر لا بل هو السحر

ففيه ولا كل الكلام بمشتهى

سوى مدح سيف الدين عن مثله وقر

وقوله من أخرى في بعض رؤساء أسرته:

يبدو لي البرق أحيانا وبي ظمأ

فلا أبالي بصوب العارض الهطل

وفي ابتسامة سعدى عنه لي عوض

فلم أشم بارقا إلا من الكلل

هيفاء تشكو إلى دمعي إذا ابتسمت

عقودها الثغر شكوى الخصر للكفل

يغضي لها الريم عينيه على خفر

ولا يمد إليها الجيد من خجل

طرقتها وسناها كاد يعذرني

لو لم يجرني زمام الفاحم الرجل

وإن سرت نم بالمسرى تبرجها

فالمسك في أرج والحلي في زجل

أشكو إلى الحجل ما يأتي الوشاح به

وألزم الريح ذنب العنبر الشمل

إذ لمتي كجناح النسر داجية

والعيش رقت حواشي روضه الخضل

واها لذلك من عصر ملكت به

على الجآذر فيه طاعة المقل

لو رمت بابن أبي الفتيان رجعته

لعادت البيض عن أيامه الأول

ففي الشبيبة عما فاتنا بدل

وليس عنها سوى نعماه من بدل

وقوله من أخرى في المقتدي بأمر الله، وقد تقدم مطلعها في حسن الابتداء:

وقد ساءني أن أرى دارها

تصوغ الحمائم فيه اللحونا

لئن ضنت السحب الغاديات

فلست بدمعي عليها ضنينا

كأن الشآبيب من صوبه

مواهب خير بني الخير فينا

وقوله من أخرى كتب بها إلى بعض إخوانه من سروات العجم لصداقة بينهما:

وحنة بت أستبكي الخلي بها

وقد بدا من حفافي توضح علم

أصبو إليه وقد جر الرياح به

ذيولها وتولت وشيه الديم

وما بي الربع لكن من يحل به

وإنما لسليمي يكرم السلم

والدهر يغري نواها بي وعن كثب

من صرفه بأبي عثمان أنتقم

قوله (من حفافي توضح) أي من جانبيه، وهو مثنى حفاف، بكسر الحاء المهملة وفتح الفاء - ككتاب - وهو الجانب.

وممن جاء بالبديع الخالص من محاسن المخالص، أبو الحسن علي بن محمد التهامي وهو كما قال فيه أبو الحسن الباخرزي في دمية القصر: له شعر أدق من دين الفاسق، وأرق من دمع العاشق كأنما روح بالشمال أو علل بالشمول، فجاء كنيل البغية أو درك المأمول. انتهى.

فمن ذلك قوله من قصيدة في الشريف محمد بن الحسين مطلعها:

حازك البين حين أصبحت بدرا

إن للبدر في التنقل عذرا

فارحلي عن أردت أو فأقيمي

عظم الله للهوى في أجرا

لا تقولي لقاؤنا بعد عشر

لست ممن يعيش بعدك عشرا

ولم يزل ينتقل في حدائق هذا الغزل حتى قال:

كلما مرت الركاب بأرض

كتبت أسطرا من الدم حمرا

ثم اتبعنها الحوافر نقطا

فغدت تقترى لمن ليس يقرا

تتبارى بكل خبث رحيب

يشبه ابن الحسين خلقا وصدرا

وقوله من أخرى يمدح الشريف القاضي بدمشق، مطلعها:

هي البدر لكن تستسر مدى الدهر

وكل سرار البدر يومان في الشهر

هلالية نيل الأهلة دونها

وكل نفيس القدر ذو مطلب وعر

ومنها:

لها ريقة استغفر الله أنها

ألذ وأشهى في النفوس من الخمر

وصارم طرف لا يزايل جفنه

ولم أر سيفا قط في جفنه يفري

أعانق منها صعدة زاغبية

ترى زجها في موضع النظر الشزر

ويقصر ليلي إن ألمت لأنها

صباح وهل لليل بقيا مع الفجر

إلى أن قال:

أقول لها والعيس تحدج للنوى

أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر

سأنفق ريعان الشبيبة آنفا

على طلب العلياء أو طلب الأجر

أليس من الخمران أن لياليا

تمر بلا نفع وتحسب من عمري

يبدل وجه الدهر من كل وجهة

لنا صدء التعبيس من رونق البشر

ألم ترني استرضع الغيث دره

لسعدى واستسقي لها سبل القطر

سقاها إذا اشتاقت من الغيث وابل

هزيم الكلى واهي المزادة ذو نهر

أجش ملث مغدق الوبل جوده

كجود علي أو كنائله الغمر

وقوله من أخرى يمدح أبا القاسم بن المغربي أجاد فيها كل الإجادة، مطلعها:

أرحت قلبي من عداة الملاح

لليأس روح مثل روح النجاح

ص: 236

وربما حكمت في مهجتي

نشوان من ماء الصبا والمراح

وكيف لا تدركه نشوة

واللحظ راح وجنى الريق راح

لو لم تكن ريقته خمرة

لما تثنى عطفه وهو صاح

يبسم عن ذي أسر مثلما

يلتقط الظبي بفيه الأقاح

ومنها:

وموقف لولا التقى لا التقى

فيه نجادي ونظام الوشاح

قلت لخلي وثغور الربى

مبتسمات وثغور الملاح

أيهما أبهى ترى منظرا

فقال لا أعلم كل أقاح

كيف رجوعي في الهوى بعدما

خلعته خلع ردائي فطاح

وإنجاب عن فودي ليل الصبا

لكل ليل مدلهم صباح

فازورت البيض وأبصارها

مطروفة عني وكانت صحاح

من كان يهواك لشيء مضى

إذا انقضى عنك تولى وراح

وخلة أظهر ما أضمرت

سيري فقالت أقلى وأطراح

فانحل سلك الدمع في ثغرها

فشجت الخمر بماء قراح

وما زال يتلاعب بهذه المعاني والألفاظ، وتغازله رقائق هذا الافتنان مغازلة الألحاظ، إلى أن قال فأغرب، وأسمع فأطرب:

ومجهل مشتبه طرقه

كأنما هن خطوط براح

يسعدني فيه وفي غيره

ذوو صدور كفلاة فساح

كأنما أشباح أنضائنا

قسي نبع وكأنا قداح

حتى اجتلينا بعد طول السرى

بغرة الكامل وجه الصباح

فقال لي صحبي أبدر السما

فقلت لا بل هو بدر السماح

وقوله من أخرى:

إن الحجاز على تنائي أرضه

ناهيك من بلد إلي محبب

فسقاه منهمر الرباب كأنه

يد جعفر بن محمد بن المغربي

وقوله من أخرى في المفرج بن دغفل الطائي، مطلعها:

بعثن غداة تقويض الخيام

منية كل صب مستهام

وما ألطف قوله منها:

وأقسم ما معتقة شمول

ثوت في الدن عاما بعد عام

بأطيب من مجاجتهن طعما

إذا استيقضن من سنة المنام

ولم أرشف لهن جنى ولكن

شهدن بذاك أعواد البشام

إلى أن قال:

وأظلمهن إن ناديت يوما

بإحداهن يا بدر التمام

كما ظلم الندى من قاس يوما

ندى كف المفرج بالغمام

فتى جبلت يداه على العطايا

كما جبل اللسان على الكلام

وقوله من أخرى فيه أيضاً، مطلعها:

ألم بمضجعي بعد الكلال

خيال من هلال بني هلال

إلى أن قال:

بمقلتها لعمر أبيك سحر

به تصطاد أفئدة الرجال

سمعنا بالعجاب وما سمعنا

بأن الليث من قنص الغزال

لقد بذل الفراق لنا رخيصا

لقاء العامرية وهو غال

وأبدى من محياها نهارا

يجاور من ذوائبها ليالي

أحن إلى الفراق لكي أراها

وإن كان الفراق علي لا لي

أشارت بالوداع وقد تلاقت

عقود الثغر والدمع المسال

وأبكاني الفراق لها فقالت

بكاء متيم ورحيل قال

فقلت لها أودع منك شمسا

إلى شمس الهدى شمس المعالي

ومن محاسن المخالص قول بديع الزمان الهمداني في قصيدة يمدح بها أبا علي بن أبي الحسين بن سيمجور، وقد قصده بمرو الروذ، ولحسن هذه القصيدة وبراعتها عن لي إيرادها هنا بجملتها وهي:

علي أن لا أريح العيس والقتبا

وألبس البيد والظلماء واليلبا

وأترك الخد معسولا مقبلها

وأهجر الكأس يعرو شربها طربا

حسبي الفلا مجلسا والبوم مطربة

والسير يسكرني من مسه تعبا

وطفلة كقضيب البان منعطفا

إذا مشت وهلال الشهر منتقبا

تظل تنثر من أجفانها حببا

دوني وتنظم من أسنانها حببا

قالت وقد علقت ذيلي تودعني

والوجد يخنقها بالدمع منسكبا

لا در در المعالي لا يزال لها

برق يشوقك لا هونا ولا كثبا

يا مشرعا للمنى عذبا موارده

بيناه مبتسم الأرجاء إذ نضبا

أطلعت لي قمرا سعدا منازله

حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غربا

كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت

وكنت كالورد أبهى ما أتى ذهبا

أستودع الله عينا تنتحي دفعا

حتى تؤوب وقلبا يرتمي لهبا

وظاعنا أخذت منه النوى وطرا

من قبل يقضى الهوى من حكمه أربا

غطى عليك قناع الصبر أن لنا

إليك أوبة مشتاق ومنقلبا

ص: 237

أبى المقام بدار الذل لي كرم

وهمة تصل التخويد والخببا

وعزمة لا تزال الدهر ضاربة

دون الأمير وفوق المشتري طنبا

هذا المخلص مما يضرب به المثل في البراعة، ولم ينطق بمثله في الحسن لسان اليراعة، وبعده:

يا سيد الأمراء افخر فما ملك

إلا تمناك مولى واشتهاك أبا

إذا دعتك المعالي عرف هامتها

لم ترض كسرى ولا من قبله ذنبا

أين الذين أعدوا المال من ملك

يرى الذخيرة ما أعطى وما وهبا

ما الليث مقتحما والسيل مرتطما

والبحر ملتطما والليل مقتربا

أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة

أجدى يمينا وأدنى منك مطلبا

وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا

والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت

والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا

يا من تراه ملوك الأرض فوقهم

كما يرون على أبراجها الشهبا

لا تكذبن فخير القول أصدقه

ولا تهابن في أمثالها العربا

فما السموأل عهدا والخليل قرى

ولا ابن سعد ندى والشنفرى غلبا

من الأمير بمعشار إذا اقتسموا

مآثر المجد فيما أسلفوا نهبا

ولا ابن حجر ولا ذبيان يعشرني

والمازني ولا القيسي منتدبا

هذا لركبته أو ذا لرهبته

أو ذا لرغبته أو ذا إذا طربا

ومن ناصع حسن التخلص قول ابن قاضي ميلة من قصيدة يمدح بها ثقة الدولة يوسف بن عبد الله القضاعي، وقد تقدم منها جملة جيدة في نوع التفويف، وتخلصه المشار إليه قوله:

وعاذلة في بذل ما ملكت يدي

لراج رجاني دون صحبي تعنف

تقول إذا أفنيت مالك كله

وأحوجت من يعطيكه قلت يوسف

وقول الوزير الطغرائي من قصيدة يمدح بها نظام الملك، منها:

وهاجرة سجراء تأكل ظلها

ملوحة المغراء رمضى الجناوب

ترى الشمس فيها وهي ترسل خيطها

لتمتاح ريا من نطاف المذانب

سفعنا بها وجه النهار فراعنا

بنقبة مسود الخياشيم شاحب

وبات على الأكوار أشلاء جنح

خوافق فوق العيس مثل العصائب

فلما اعتسفنا ظل أخضر غاسق

على قمع الآكام جون المناكب

وردنا سحيرا بين يوم وليلة

وقد علقت بالغرب أيدي الكواكب

على حين عري منكب الشرق جذبة من الصبح واسترخى عنان الغياهب

غدير كمرآة الغريبة تلتقي

بصوحية أنفاس الرياح اللواهب

إذا ما نبال القطر تاحت له التقى

بموضونة حصداء من كل جانب

إلى أن قال:

بعيس كأطراف المداري نواحل

فرقنا بها الظلماء وحف الذوائب

نشطن به عذبا نقاخا كأنما

مشافرها يغمدن بيض القواضب

رأين جمام الماء زرقا ومثلها

مشى الصبح فارتابت عيون الركائب

فكم قامح من لجة الماء طامح

إلى الفجر ظن الفجر بعض المشارب

إلى أن بدا قرن الغزالة ماتعا

كوجه نظام الملك بين المواكب

قلت: وما زلت معجبا بقوله:

نشطن به عذبا نقاخا كأنما

مشافرها يغمدن بيض القواضب

ظنا بأنه لم يسبق إلى هذا التشبيه، ولا شاركه أحد من الشعراء فيه حتى وقفت عليه في قول ابن المعتز يصف حمار الوحش:

وأقبل نحو الماء يستل صفوه

كما غمدت أيدي الصياقل منصلا

وقوله أيضاً:

وأغمدن في الأعناق أسياف لجة

مصقلة تغري بهن المفاوز

ومن التخلص البديع قول الطغرائي أيضاً:

سروا يطردون الليل عن متبلج

من الصبح يهدي الناظر المتوسما

تجهمهم وجه الزمان فألمعوا

له بشهاب الدين حتى تبسما

أخذه القاضي الأرجاني، ومزجه بسلاف التورية، فقال من قصيدة يمدح بها شهاب الدين أحمد بن أسعد الطغرائي:

فلا تكثرن شكوى الزمان فإنما

لكل ملم جيئة وذهاب

وقد كان ليل الفضل في الدهر داجيا

إلى أن بدا للناظرين شهاب

ومنه قول جعفر بن شمس الخلافة:

وإني وإن نزهت شيبي عن الخنا

وأرضيت عذالي وأصغيت للنصح

لأهتز في الأحيان شوقا إلى الصبا

كما اهتز مولانا العزيز إلى المدح

وقوله أيضاً من قصيدة في الملك المسعود مع زيادة التورية:

ص: 238

هذبتني الأيام بالحسنات ال

بيض منها والسيئات السود

وتبخترت في السعادة لما

شملتني سعادة المسعود

وقوله أيضاً من أخرى في سراج الدين كامل مع بديع التورية أيضاً:

تولى الحمد عن قوم تولوا

عن الجود الذي بالحمد كافل

أناس قسموا أثلاث لؤم

بغدار وكذاب وباخل

سأبكي من وجود النقص فيهم

كما أبكي على عدم الفضائل

فهلا بالندى حازوا كمالا

رأوا في سراج الدين كامل

وقول الأديب أبي محمد عمارة اليمني من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين يوسف:

ترنحت من نشوات الصبا

فبت مسرورا بنشوان صاح

وفاح من عرف الدجى عنبر

أحرقه الفجر بجمر الصباح

لاموا عليها مغرما سمعه

كراحة الناصر عند السماح

وقول ابن الساعاتي في الملك المذكور أيضاً:

منعت ظباء المنحنى بأسوده

وأشد ما أشكوه فتك ظبائه

فعلت بنا وهي الصديق لحاظها

كظبي صلاح الدين في أعدائه

وقوله أيضاً:

أبكي العقيق بمثله ونهب أن

فاس الغضى بضرامه المتسعر

وجدي وإن كنت الذليل ببيضه

وجد العزيز بكل لدن أسمر

وقول أبي عبد الله السنبسي يمدح سيف الدولة صدقة ابن منصور:

ونرجس خضل تحكي أزاهره

أحداق تبر على أجفان كافور

كأنما نشره في كل باكرة

مسك تضوع أو ذكر ابن منصور

وقول القاضي الفاضل من قصيدة يمدح بها خليفة الفاطميين في عصره، مطلعها:

ترى لحنيني أو حنين الحمائم

جرت فحكت دمعي دموع الغمائم

وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا

فكل أراها دارسات المعالم

دعوا نفس المقروح تحمله الصبا

وإن كان يهفو بالغصون النواعم

تأخرن في حمل السلام عليكم

لديها لما قد حملت من شمائم

فإن فؤادي بعدكم قد فطمته

عن الشعر إلا مدحة لابن فاطم

وقول أبي الفتح محمد سبط ابن التعاويذي، من قصيدة في الخليفة الناصر لدين الله العباسي، مطلعها:

طاف يسعى بها على الجلاس

كقضيب الأراكة المياس

إلى أن قال:

يا نهار المشيب من لي وهيهات بليل الشبيبة الديماس

حال بيني وبين لهوي وأطرا

بي دهر أحال صبغة رأسي

ورأى الغانيات شيبي فاعرض

ن وقلن السواد خير لباس

كيف لا يفضل السواد وقد أضحى شعارا على بني العباس

وقوله من أخرى في المستضيء بأمر الله وهو والد الناصر لدين الله المذكور، أولها:

قل للسحاب إذا مرت

هـ يد الجنائب فارجحن

عج باللوى فاسمح بدم

عك في المعاهد والدمن

يا منزل الأنس الجميع

وملعب الحي الأغن

سكنت بك الآرام من

بعد الأحبة والسكن

أين استقلت بالحبيب

ركابه ومتى ظعن

شوقي إلى زمن الحمى

سقى الغوادي من زمن

شوق المغرب شردته يد البعاد عن الوطن

ولقد عهدتك والزما

ن لشملنا بك ما فطن

وثراك ما اغبرت مسارحه وماؤك ما أجن

وظباؤك الأتراب لي

وطر وتربك لي وطن

لام العذول وما درى

وجدي وبلبالي بمن

وجدي بمن فضح القضيب وأخجل الظبي الأغن

ما ضر من هو فتنتي

لو كان يرحم من فتن

دمعي طليق في محبته وقلبي مرتهن

يا منيتي أودى الصدود بعاشق بك ممتحن

غادرته وقفا على العبرات بعدك والحزن

كلف الفؤاد معذبا

بين الإقامة والظعن

عطفا على قرح الجفو

ن بعيد عهد بالوسن

لا تبخلي فالبخل يذهب بهجة الوجه الحسن

ولرب ليل بت فيه صريع باطية ودون

أختال من مرح واسحب فضل أذيال الردن

مع معطف لدن القوا

م إذا انثنى رخص البدن

لكنني كفرت ليلة زرته عني وعن

بمدائحي للمستضيء

أبي محمد الحسن

وقوله من أخرى فيه أيضاً أولها:

أهلا بطلعة زائر

فضح الدجى بضيائها

سمح الزمان بوصلها

فدنت على عدوائها

باتت تعاطيني المدام

وكن من أكفائها

فسكرت من ألحاظها

وغنيت عن صهبائها

ص: 239

بيضاء قتلي دأبها

في نأيها وثوائها

فإذا دنت بجفونها+وإذا نأت بجفائها

لا تلتقي أبدا مواعدها بيوم وفائها

الشمس من ضراتها

والبدر من رقبائها

والصبح فوق لثامها

والليل تحت ردائها

مضرية تنمى إذا انتسبت إلى حمرائها

باتت وأطراف الرماح

تجول حول خبائها

فالموت دون فراقها

والموت دون لقائها

ولقد مررت بربعها

بعد النوى وفنائها

والعين في الأطلال ساكنة على أطلائها

فوقفت أنشد في مطا

لعها بدور سمائها

وبكيت حتى كدت أع

طف بانتي جرعائها

يا موحش العين التي

أنست بطول بكائها

غادرت بين جوانحي

نفسا تموت بدائها

تشتاق عيني أن ترا

ك وأنت في سودائها

فإذا بخلت بنظرة

سمحت بجمة مائها

فكأنها كف الخلي

فة أسبلت بعطائها

وقول أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس من قصيدة يمدح بها أبا المنصور محمود عين الأمراء بالديار المصرية، وهي من غرر القصائد، أولها:

لا تثن عطفك إن الروض قد جيدا

ما عطل القطر من أنوائه جيدا

إذا تبسم ثغر المزن عن يقن

فانظره في وجنات الورد توريدا

وإن تناثر در منه فاجتله

بمبسم الأقحوان الغض منضودا

واستنطق العود أو فاسمع غرابته

من ساجع لحنه يسترقص العودا

يشدوا وينظر أعطافا منمقة

كأنه آخذ عنها الأغاريدا

ومنها:

ماذا على العيس لو عادت بربتها

بقدر ما يتقاضاها المواعيدا

رد الركاب لأمر عن في خلدي

وسمه في بديع الحب ترديدا

وقف أبثك ما لان الحديد له

فإن صدقت فقل هل أبت داودا

حلت عرى النوم عن أجفان ساهرة

رد الهوى هدبها بالنجم معقودا

تفجرت وعصى الجوزاء تضربها

فأذكرتني موسى والجلاميدا

وما أبدع ما قال بعده:

يا ثعلب الصبح لا سرحان أوله

كل الثريا فقد صادفت عنقودا

وما زال يتصرف في هذه الأغراض، ويقتطف أنوار هذه الرياض إلى أن قال:

سمعت بالجود مفقودا فهل أحد

يقول لي قد وجدت الجود موجودا

الحمد لله لا والله ما نظرت

عيناي بعد أبي المنصور محمودا

وقول أبي العباس أحمد القطرسي من قصيدة يمدح بها الأمير شجاع الدين جلدك، أولها:

قل للحبيب أطلت صدك

وجعلت قتلي فيه وكدك

إن شئت أن أسلو فرد علي قلبي فهو عندك

وما ألطف قوله منها:

أحرقت يا ثغر الحبيب

حشاي لما ذقت بردك

إلى أن قال:

يا قلب من لانت معاطفه علينا ما أشدك

أتظنني جلد الهوى

أو أن لي عزمات جلدك

وقول ذي الوزارتين محمد بن عمار الأندلسي من قصيدة في المعتمد بن عباد مطلعها:

أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى

والنجم قد صرف العنان عن السرى

والصبح قد أهدى لنا كافوره

لما استرد الليل منا العنبرا

والروض كالحسنا كساه زهره

وشيا وقلده نداه جوهرا

أو كالغلام زها بورد حيائه

خجلا وتاه بآسهن معذرا

روض كأن النهر فيه معصم

صاف أطل على رداء أخضرا

وتهزه ريح الصبا فتظنه

سيف ابن عباد يبدد عسكرا

وما أحسن قوله منها في المديح:

ملك إذا ازدحم الملوك بمورد

ونحاه لا يردون حتى يصدرا

أندى على الأكباد من قطر الندى

وألذ في الأجفان من سنة الكرى

قداح زند المجد لا ينفك عن

نار الوغى إلا نار القرى

يختار أن يهب الخريدة كاعبا

والطرف أجرد والحسام مجوهرا

وقول الأديب أبي البقاء صالح بن شريف الرندي من قصيدة يمدح بها بعض أكابر المغرب، وهي من غرر القصائد، مطلعها:

سلم على الحي بذات العرار

وحي من أجل الحبيب الديار

وخل من لام على حبهم

فما على العشاق في الحب عار

ولا تقصر في اغتنام المنى

فما ليالي الأنس إلا قصار

وإنما العيش لمن رامه

نفس تدارى وكؤوس تدار

ومنها:

لا صبر للشيء على ضده

والخمر والهم كماء ونار

ص: 240

مدامة مدنية للمنى

في رقة الدمع ولون النضار

مما أبوا ريق أباريقها

تنافست فيها النفوس الكبار

معلتي والبرء من علتي

ما أطيب الخمرة لولا الخمار

ومنها:

وبي وإن عذبت في حبه

ببعده على اقتراب المزار

ظبي غرير نام عن لوعتي

ولا أذوق النوم إلا غرار

ذو وجنة تحسبها روضة

قد بهر الورد بها والبهار

رجعت للصبوة في حبه

وطاعة اللهو وخلع العذار

يا قوم قولوا بذمام الهوى

أهكذا يفعل حب الصغار

وليلة نبهت أجفانها

والفجر قد فجر نهر النهار

والليل كالمهزوم يوم الوغى

والشهب مثل الشهب عند الفرار

كأنما استخفى السها خيفة

وطولب النجم بثار فثار

لذاك ما شابت نواصي الدجى

وطارح النسر أخاه فطار

إلى أن قال:

كأنما الظلماء مظلومة

تحكم الفجر عليها فجار

كأنما الصبح لمشتاقة

عز غنى من بعد ذلك افتقار

كأنما الشمس وقد أشرقت

وجه أبي عبد الإله استنار

ومن بديع حسن التخلص أيضاً قول السعيد هبة الله بن سناء الملك من قصيدة يمدح بها الملك المعظم شمس الدولة توران شاه أخ الملك صلاح الدين، مطلعها:

تقنعت لكن بالحبيب المعمم

وفارقت لكن كل عيش مذمم

وباتت يدي في طاعة الحب والهوى

وشاحا لخصر أو سوارا لمعصم

ومنها وقد أجاد ما شاء:

سعدت ببدر خده برج عقرب

فكذب عندي قول كل منجم

وأقسم ما وجه الصباح إذا بدا

بأوضح مني حجة عند لومي

ولاسيما لما مررت بمنزل

كفضلة صبر في فؤاد متيم

وما بان لي إلا بعود أراكة

تعلق في أطرافه ضوء مبسم

وقفت به أعتاض عن لثم مبسم

شهي لقلبي لثم آثار منسم

ولم ير طرفي قط شملا مبددا

فقابله إلا بدر منظم

ولم يسل قلبي أو فمي عن غزالة

وعن غزل إلا بمدح المعظم

قال ابن خلكان: لما نظم ابن سناء الملك هذه القصيدة تعصبت عليه جماعة من شعراء مصر، عابوا عليه هذا الاستفتاح، وهجوه، وكتب إليه ابن الذروي الشاعر:

قل للسعيد مقال من هو معجب

منه بكل بديعة ما أعجبا

لقصيدك الفضل المبين وإنما

شعراؤنا جهلوا به المستغربا

عابوا التقنع بالحبيب ولو رأى الطائي ما قد حكته لتعصبا

انتهى. قلت: وهذا المعنى، أعني قوله:(تقنعت لكن بالحبيب المقنع) ينظر بطرف خفي إلى قول أبي الطيب المتنبي:

فلو كان ما بي من حبيب مقنع

سلوت ولكن من حبيب معمم

ومن بديع مخالصه أيضاً قوله يمدح والده الرشيد مع زيادة التورية:

إني لأرثي لدمعي من تزاحمه

كما رثيت لشملي من تشتته

أنا الغوي بهمي والرشيد أبي

هو الرئيس على الدنيا بهمته

وقوله من أخرى:

لا يرجع الكلف الذليل عن الهوى

أو يرجع الملك العزيز عن الندى

وقوله من أخرى يمدح بها القاضي الفاضل:

ضنت بطرفه ظل بعدي سقمه

أرأيتم من ضن حتى بالضنى

يا عاذلين جهلتم فضل الهوى

وعذلتم فيه ولكني أنا

أني رأيت الشمس ثم رأيتها

ماذا علي إذا هويت الأحسنا

وسألت من أي المعادن ثغرها

فوجدت معبد الرحيم المعدنا

أبصرت جوهر ثغرها وكلامه

فعلمت حقا أن هذا من هنا

وقول شرف الدين شيخ الشيوخ بحماة عبد العزيز الأنصاري من مدحة نبوية مطلعها:

ويلاه من نومي المشرد

وآه من شملي المبدد

يا كامل الحسن ليس يطفي

ناري سوى ريقك المبرد

يا بدر تم إذا تجلى

لم يبق عذرا لمن تجلد

أبديت من حالي المورى

لما بدا خدك المورد

رفقا بولهان مستهام

أقامه وجده وأقعده

مجتهد في رضاك عنه

وأنت في أمره المقلد

ليس له منزل بأرض

عنك ولا في السماء مقعد

قيدته بالجوى فتمم

واكتب على قيده مخلد

بأن الصبا عنه والتصابي

أنشأ أطرابه وأنشد

من لي بطيب حديث سحري

بابل عن ناظريه يسند

شتت عني نظام عقلي

شتيت ثغر له منضد

ص: 241

لو اهتدى لائمي عليه

ناح على نفسه وعدد

أكسبني نشوة بطرف

سكرت من خمرة فعربد

غصن نقا حل عقد صبري

بلين خصر يكاد يعقد

فمن رأى ذلك الوشاح الصائم صلى على محمد

وعارض هذه القصيدة مجد الدين فضل الله بن الصاحب فخر الدين ابن مكانس بقصيدة نبوية أيضاً حاز بها الفخر عليه، وجاء في مخلصها ببديع التورية، ولا بأس بإيراد غزلها هنا، فإنه في غاية الحسن والرقة، وأولها:

وحق من بالجميل عود

ما لسقيم الغرام عود

كيف وقد هام في حبيب

بقتل عشاقه تعود

ظبي كحيل الجفون أحوى

غصن رشيق القوام أملد

يعزى إلى الترك في انتساب

وإنما لحظه مهند

كالشمس إن لاح والمها إن

رنا وكالغصن إن تأود

أطلق دمعي دما وقلبي

بأسره في الهوى مقيد

وأضرم النار في فؤادي

فليته بالوصال أخمد

مبجل لا يكاد عجبا

يسمح عند السلام بالرد

يصير في الحسن إن تثنى

بين جميع الملاح مفرد

نومي وصبري عليه فرا

ولم أذق ريقه المبرد

لا عيب فيه حماه ربي

إذا تأملته سوى الصد

لو عشقته جبال رضوى

كان لها بالصدود هدد

أتهمني بالمنام لكن

ومن أغاث الورى وأنجد

لم أعرف النوم مذ جفاني

وها نجوم السماء تشهد

قلت له إذ أراد شدا

بخصره يا مهفهف القد

حليت قلبي وعقد صبري

وعاطل الخصر منك بالشد

وسيف جفنيك يا حبيبي

قد زاد في حسنه عن الحد

وا عجبا فيك ضاع نسكي

وأنت عند الغناء معبد

أجارك الله قد رثت لي

مما ألاقي عدى وحسد

وعاذلي إذ رأى ضلوعي

تعد سقما بكى وعدد

يا ناعس الطرف يا غزالا

جفني بهجرانه مسهد

كم حمد العالمون وصفي

لغادة قينة وأغيد

فعدت عنه تقىً وعودي

لمدح خير الأنام أحمد

ومن حسن التخلص الغريب الذي ما اهتدى إليه في جنح الليل بشعلة فكره أريب، قول ذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب من قصيدة فريدة يمدح بها النبي الحبيب صلّى الله عليه وآهل وسلّم، ما تخلص شاعر من غزل ونسيب:

ودجنة كادت تضل بني السرى

لولا وميضا بارق وصفيح

وعشت كواكب جوها فكأنها

ورق تقلبها بنان شحيح

صابرت منها لجة مهما ارتمت

وطمت رميت عبابها بسبوح

حتى إذا الكف الخضيب بأفقها

مسحت بوجه للصباح صبيح

شمت المنى وحمدت أدلاج السرى

وزجرت للآمال كل سنيح

فكأنما ليلي نسيب قصيدتي

والصبح فيه تخلصي لمديحي

لما حططت لخير من وطئ الثرى

بعنان كل مولد وصريح

ومنه قول أبي الحسين الجزار يمدح جمال الدين موسى بن يغمور:

جسرت على لثم الشقيق بخدها

ورشف رضاب لم أزل منه في سكر

ولست أخاف السحر من لحظاتها

لأني بموسى قد أمنت من السحر

ومنه قول الشيخ أبي جعفر الموفق بن علي الكاتب من قصيدة مدح بها الوزير نظام الملك:

أمط كدر الأشجان عنا وهاتها

على رنة الأوتار صرفا مروقا

إذا مزجت فاحت فخلت نسيمها

بأخلاق مولانا الوزير تعبقا

وقوله أيضاً يمدح نصر الله بن بصاقة:

وكم ليلة قضيتها معسرا وفي

تزخرف آمالي كنوز من اليسر

أقول لقلبي كلما اشتقت للغنى

إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر

وقوله أيضاً يمدح صدر الدين من قصيدة مطلعها:

لا تسألا في الحب عن أشجانه

فشانه مخبر عن شانه

وإن يكن ما فاه بالشكوى فقد

أغنى لسان الدمع عن لسانه

إلى أن قال:

وأعجب الأشياء إن قلبه

سار وما حن إلى أوطانه

أظنه لما رأى رسما عفا

أنكر ما قد كان من عرفانه

صبا لغزلان النقا وكل من

حل النقا يصبو إلى غزلانه

ما أن له من مشبه في حسنه

ولا لصدر الدين في إحسانه

وقول الصاحب بهاء الدين زهير من قصيدة يمدح بها الأمير مجد الدين إسماعيل الملطي:

وقف السحاب على الثرى متحيرا

ومشى النسيم على الرياض مقيدا

ص: 242

ويشوقني وجه النهار ملثما

ويروقني خد الأصيل موردا

وكأن أنفاس النسيم إذا سرت

شكرت لمجد الدين مولانا يدا

وقوله من أخرى في الملك الناصر صلاح الدين، مطلعها:

عرف الحبيب مكانه فتدللا

وقنعت منه بموعد فتعللا

وأتى الرسول فلم أجد في وجهه

بشرا كما قد كنت أعهد أولا

(ومنها) :

ولقد كتمت حديثه وحفظته

فوجدت دمعي قد رواه مسلسلا

أهوى التذلل في الغرام وإنما

يأبى صلاح الدين أن أتذللا

وما ألطف ما قال بعده:

مهدت بالغزل الرقيق لمدحه

وأردت قبل الفرض أن أتنقلا

وقول الشيخ جمال الدين بن نباتة من قصيدة في الملك المؤيد صاحب حماة:

كيف الخلاص لمطوي على شجن

وقد تمالت عليه أعين سحرة

تغزو لواحظها في المسلمين كما

تغزو سيوف عماد الدين في الكفرة

وقوله من أخرى في القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود، مطلعها:

بأبي نافر كثير الدلال

إن هذا النفار شأن الغزال

حبذا منه مقلة لست أدري

أبهدب تصول أم بنبال

إلى أن قال وجاء في التخلص ببديع التورية:

من معيني على هوى زاد حتى

أهملته نصائح العذال

لو رأى عاذلي حقيقة أمري

لرثاني ولا أقول رثى لي

في جمال الحبيب مت شجونا

وبروحي أفدي تراب الجمال

ومثله قوله من أخرى يمدح تاج الدين السبكي، مطلعها:

وا حيرتي بظلام الطرة الداجي

وشقوتي بنعيم الملمس العاجي

ويا ضلال رشادي في هوى صنم

لا شيء أهتك لي من طرفه الساجي

لم أنس يوم النوى دمعا بوجنته

كما نثرت لآل فوق ديباج

يثج ماء دموعي خط عارضه

ويلاه من عارض للدمع ثجاج

ولم يزل يكرر حلاوة هذا النبات، إلى أن قال:

قد أسرج الحسن خديه فدونك ذا

سراج خد على الأكباد وهاج

وألجم العذل فاركض في محبته

طرف الهوى بعد إلجام وإسراج

وقسم الشعر فاجعل في محاسنه

شذر القلائد واهد الدر للتاج

وقول أبي عبد الله محمد بن بختيار، المعروف بالأبله البغدادي الشاعر من قصيدة في الوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، أولها:

ولع النسيم وبانة الجرعا

وصفاك إلا الحلي والردعا

يا دمية ضاقت خلاخلها

عنها وضقت بحبها ذرعا

قد كنت ذا دمع وذا جلد

فبقيت لا جلدا ولا دمعا

صيرت جسمي للضنى سكنا

وسكنت بعد بيانة الجرعا

يا من رأى أدماء سانحة

قلبي لها لا المنحنى مرعى

لاثت بمثل الدعص مئزرها

وجلت بعود أراكة طلعا

وإذا تراجعك الكلام فلا

تعلم لأيام الصبا رجعا

ولقد سعت بالكأس تصبحني

سكرى اللواحظ وعثة المسعى

في مستنير الزهر ما صنعت

أبراده عدن ولا صنعا

باكرت مفترعا تراه وما

ركب الحمام لبانة فرعا

سلت عليه البارقات ظبا

لبس الغدير لخوفها درعا

يا عاذلي إن شئت تسمعني

عذلا فشق لصخرة سمعا

طبعا جبلت على الغرام كما

جبل الوزير على الندى طبعا

وهذا الشعر فيما أقول: هو الديباج الخسرواني، واللؤلؤ البحراني. ولقد ذكرت به ما نقل إلينا: من أن شعراء العجم افتخرت يوما بحضرة ملكها السلطان عباس شاه رحمه الله تعالى بحسن شعرها، ودقة تلطفها في المعاني التي ليس لشعراء العرب إليها سبيل بزعمها، والشيخ العلامة بهاء الدين محمد العاملي حاضر ذلك المجلس السامي، فالتفت إليه السلطان وقال: ما تقول أيها الشيخ في دعوى هؤلاء الشعراء؟ فقال الشيخ أنا لا أدري ما يقولون، غير أن في شعراء العرب شاعرين، أحدهما مجنون والآخر أبله.

أما المجنون فيقول:

ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما

بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا

يجود بالطول ليلي كلما بخلت

بالطول ليلى وإن جادت به بخلا

ص: 243

وأما الأبله فيقول: وأنشد جملة من الأبيات المذكورة. فإن كان عند عقلاء شعراء العجم وأذكيائهم شيء من هذا فليقولوا ما شاؤا، فانقطع أولئك المفتخرون خجلا، واستحسن السلطان إيراد هذا الجواب عجلا. ولعمري لقد أغرب الشيخ في الجواب، وأتى منه بما بهر الألباب، غير أن البيتين اللذين نسبهما إلى المجنون جرى في نسبتهما إليه على ما هو المشهور، والصواب أنهما لأبي القاسم السلمي لا للمجنون. وللمجنون من الشعر ما هو أحسن من هذا كما يشهد بذلك كل من سمع شعره والله أعلم.

قال القاضي أحمد بن خلكان: ومخالص الأبله البغدادي من الغزل إلى المديح في نهاية الحسن، وقل من لحقه فيها.

فمن ذلك قوله من قصيدة أولها:

جنيت جني الورد من ذلك الخد

وعانقت غصن البان من ذلك القد

فلما انتهى إلى مخلصها قال:

لئن وقرت يوما بسمعي ملامة

بهند فلا عفت الملامة من هند

ولا وجدت عيني سبيلا إلى البكا

ولا بت في أسر الصبابة والوجد

وبحت بما ألقى ورحت مقابلا

سماحة مجد الدين بالكفر والجحد

وقوله من أخرى:

فأقسم أني في الصبابة واحد

وإن كمال الدين في الجود واحد

ومن بديع التخلص أيضاً قول الشيخ كمال الدين بن النبيه من قصيدة يمدح بها الملك الأشرف:

بحق الهوى يا طيف إلا حملتني

فجسمي من البلوى وجسمك سيان

أعانق جسما شابه الماء رقة

وأطفي ببرد الثغر حرقة أشجاني

عسى قلبه يعديه قلبي رقة

كما جفنه الفتان بالسقم أعداني

لئن كان ينسى عقد عهد مودتي

فلي ملك من فضله ليس ينساني

وقوله من أخرى أيضاً:

يا من حكى في الحسن صورة يوسف

آه لو أنك مثل يوسف تشترى

تعشو العيون لخده فيردها

ويقول ليست هذه نار القرى

يا قاتل الله الجمال فإنه

ما زال يصحب باخلا متجبرا

إلى أن قال:

لي مقلة مذ غاب عنها بدرها

ترعى منازله عساها أن ترى

لولا انسكاب دموعها ودمائها

ما كنت بين العاشقين مشهرا

فكأنما هي كف موسى كلما

نثر اللجين أو النضار الأحمرا

استغفر الله العظيم لأنني

شبهت بالنزر القليل الأكثرا

ويعجبني من مخالصه أيضاً قوله يمدح الملك المذكور، وقد أصطلح هو وأخوه الملك الصالح:

يا نائما والليل في غربه

والصبح من مشرقه لائح

دع كدر العيش وخذ ما صفا

تحيا ويشقى الدائر الكادح

قد كلل الطل غصون الربى

واشتجر الباغم والصادح

وجادت الدنيا على أهلها

واصطلح الأشرف والصالح

قال ابن حجة: ويعجبني من مخالصه قوله، وهو من المخالص الأشرفيات أيضاً:

يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه

قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت

وأنا أقولك عد هذا من المخالص فيه نظر، لأن الشاعر المذكور قد تخلص من النسيب إلى المدح قبل هذا البيت بقوله:

في أحسن الناس أشعاري إذا نسبت

وفي أجل ملوك الأرض إن مدحت

فالمخلص في الحقيقة إنما هو هذا لا ذاك.

ومن المخالص المحلاة بشعار التورية قول الشيخ برهان الدين القيراطي من قصيدة في الأمير سيف الدين الكريمي، أولها:

غرامي فيك يا قمري غريمي

وذكرك في دجى ليلي نديمي

وملني الحميم وصد عني

وما لي غير دمعي من حميم

وكم سأل العواذل عن حديثي

فقلت لهم على العهد القديم

وعم تساءلون ولي دموع

تخبركم عن النبأ العظيم

إلى أن قال:

فموعده وناظره وجسمي

سقيم في سقيم في سقيم

كريم مال بخلا عن وداد

فملت لمدح مخدومي الكريم

ويعجبني من مخالص الشيخ صفي الدين الحلي قوله:

أسير ومن فوقي وتحتي ووجهتي

وخلفي ويمناي الهوى وشماليا

فمالي إذا يممت في الأرض وجهة

وصرفت في أهل الزمان لحاظيا

تضيق علي الأرض حتى كأنني

أحاول فيها لابن ارتق ثانيا

ومع شهرة ديوانه فلا حاجة إلى الإكثار من شعره.

وهذا محل إيراد شيء من مخالص أهل هذا القرن.

ص: 244

فمن محاسنها قول القاضي أحمد بن عيسى المرشدي من قصيدة يمدح بها السيّد شهوان بن مسعود الحسني، وقد تقدم مطلع هذه القصيدة في حسن الابتداء، ومخلصها المشار إليه قوله:

صهباء تفعل بالألباب سورتها

فعل السخاء بشهوان بن مسعود

وقول القاضي تاج الدين المالكي من قصيدة يمدح بها سلطان الحرمين الشريفين، الشريف مسعود بن إدريس، وقد تقدم إنشاد مطلعها أيضاً وما أحسن قوله منها:

لو شام برق الثنايا والتثني من

تلك القدود انثنى عطفا لإسعادي

ولو رأى هادي الجيداء كان درى

إن اشتقاق الهدى من ذلك الهادي

كم بات عقدا عليه ساعدي ويدي

نطاق مجتمع المخفي والبادي

إلى أن قال:

وألهف نفسي على مغنى به سلفت

ساعات أنس لنا كانت كأعياد

كأنها وأدام الله مشبهها

أيام دولة صدر الدست والنادي

ذي الجود مسعود المسعود طالعه

لا زال في برج إقبال وإسعاد

وقول شيخ شيوخنا العلامة محمد بن علي الحرفوشي، من قصيدة يمدح بها بعض أفاضل عصره:

يا ليتها إذ لم تجد بوصال

سمحت بوعد أو بطيف خيال

جنحت لما رقش الوشاة ونمقوا

من أنني سال ولست بسال

كيف السلو ولي فؤاد لم يزل

لجحيم نيران الصبابة صال

ومدامع لولا زفيري لم يكد

ينجو الورى من سحها المتوالي

ومنها:

هيفاء رنحها الدلال فأخجلت

هيف الغصون بقدها الميال

في خدها الورد الجني وثغرها

يحوي لذيذ الشهد والجريال

حجبت محياها الجميل ببرقع

كرقيق غيم فوق بدر كمال

ونضت من الأجفان بيض صوارم

ففرت بهن ولم تناد نزال

إلى أن قال:

لله ليلة أقبلت بدجنة

فرقا من الواشين والعذال

ووفت كما شاء الغرام وانعمت

بالقرب بعد تبرم ودلال

وحبت فؤادي بعد نار صدودها

برد الوصال ومنتهى الآمال

فبلغت منها ما يؤمل وامق

ونهبت منها الوصل خوف زوال

حتى بدا الصبح المنير كأنه

وجه الوحيد الماجد المفضال

وقول الفاضل الأديب الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب من قصيدة يمحد بها الوالد متع الله بحياته، أولها:

تبدت لنا والبدر للغرب جانح

وكأس الكرى في راحة الطرف طافح

بحيث السها ترنو بعين كليلة

وإنسانها في لجة الجو سابح

وحيث النجوم الزاهرات كأنها

توقد منها في الظلام مصابح

كأن على الآفاق روض بنفسج

وهن الظباء العيس فيه سوانح

فلما تجلى نورها نسخ الدجى

فلا أعزل إلا غدا وهو رامح

لك الله شمس يكسف الشمس نورها

وبدر لنور البدر في التم فاضح

كأن نجوم الليل ورق حمائم

وفي كل جزء من محياك جارح

وبعدها الأبيات المذكورة في آخر القسم الأول من الالتفات، وبعدها:

لقد فتكت بي غارة منك شنها

على القلب غاد من هواك ورائح

فلا نفع إن شطت بك الدار أو دنت

وسيان عندي فيك لاح وناصح

سقى الله هاتيك المعاهد عارضا

من المزن تمريه الرياح اللواقح

ليغدوا بها نشر الخزامى كأنما

يخالطه من نشر دارين نافح

كأن خدود الورد والطل فوقها

خدود الغواني فوقها الدمع ناضح

كأن ابتسام الروض والجو عابس

محيا نظام الدين والدهر كالح

وقوله من أخرى يمدحه أيضاً، أولها:

سرت والليل محلول الوشاح

ونسر الجو مبلول الجناح

وثغر الشرق يبسم عن رياض

مكللة الجوانب بالأقاح

كأن كواكب الظلماء روم

على دهم تهب إلى الكفاح

كأن المشتري والنجم ساق

يدير على الندامى كأس راح

فوا عجباه هل يخفى سراها

وقد أرجت برياها النواحي

من البيض الحسان إذا تجلت

تخال جبينها فلق الصباح

مهفهة يغار البدر منها

ويخجل قدها هيف الرماح

أبث لطرفها شكوى غرامي

وهل يشكو الجريح إلى السلاح

وأطمع أن يزايلني هواها

ومن ينجو من القدر المتاح

فلا تأوي لكسرة ناظريها

فكم أودت بألباب صحاح

ص: 245

أحن إلى هواها وهو حتفي

كمجروح يداوى بالجراح

ولا وأبيك ليس الحب سهلا

فكم جد تولد من مزاح

خلقت من الغرام فلا أبالي

أكان به فسادي أم صلاحي

ولولا تمسك الأطمار جسمي

لطار من النحول مع الرياح

وحب الغانيات حياة روحي

وراحتها وريحاني وراحي

محبتهن ضاهت في فؤادي

محبة أحمد طرق السماح

ومن مخالصي التي فاقت سبائك الخلاص قولي من قصيدة علوية، أرجو بها التخلص في يوم القصاص، وقد مر إنشاد مطلعها وصدر منها في حسن الابتداء، ومنها بعدما تقدم:

ترمي ولا تدري بما سفكت

تلك اللواحظ من دم هدر

الله لي من حب غانية

ترمي الحشا من حيث لا تدري

بيضاء من كعب وكم منعت

كعب لها من كاعب بكر

زعمت سلوي وهي سالية

كلا ورب البيت والحجر

ما قلبها قلبي فأسلوها

يوما ولا من أمرها أمري

أبكي وتضحك إن شكوت لها

حر الصدود ولوعة الهجر

وعلى وفور ثراي لي ولها

ذل الفقير وعزة المثري

لم يبق مني حبها جلدا

إلا الحنين ولا عج الذكر

ويزيد غلي الماء ما ذكرت

والماء يثلج غلة الصدر

قد ضل طالب غادة حميت

في قومها بالبيض والسمر

ومؤنب في حبها سفها

نهنهته عن منطق الهجر

يزداد وجدي من ملامته

فكأنه بملامه يغري

لا يكذبن الحب أليق بي

وبشيمتي من سبة الغدر

هيهات يأبى الغدر لي نسب

أعزى به لعلي الطهر

وقلت في مديحها:

إن تنكر الأعداء رتبته

شهدت بها الآيات في الذكر

شكرت حنين له مساعيه

فيها وفي أحد وفي بدر

ومنه:

وأذكر مباهلة النبي به

وبزوجه وابنيه للنفر

وأقرأ وأنفسنا وأنفسكم

فكفى بها فخرا مدى الدهر

هذي المفاخر والمكارم لا

قعبان من لبن ولا خمر

ومناقب لو شئت أحصرها

لحصرت قبل أهم بالحصر

وقولي من أخرى في سيدي الوالد، وهو يستغني بتمكنه وقوته من ذكر ما قبله، وهو:

ما كنت أحسب فيه أيضاً عارضت بها قصيدة ابن منير اليائية التي تقدم إنشاد شيء منها استطرادا في نوع القسم، ومن غزل قصيدتي هذه قولي:

قامت تدير سلافا من مراشفها

حبابها لؤلؤ الثغر الجماني

في ليلة من أثيث الشعر حالكة

منها دجا حندس الليل الدجوجي

تريك إن أسفرت غراء مائسة

بدر السماء على أعطاف خطي

من أين للظبي أن يحكي ترائبها

ولو تشبه ما حاك كمحكي

كم لوعة بت أخفيها وأظهرها

فيها وسر التصابي غير مخفي

أما وصعدة قد من معاطفها

وعضب لحظ نضته هندواني

ما أن عذلت على حبي الفؤاد لها

إلا وجاء بعذر فيه عذري

وافت فأذكت هموما غير جامدة

واذكرتني عهدا غير منسي

وما زلت أحمل على كواهل الغزل ثقل هذه القافية، إلى أن قلت:

يا حبذا نظرة هام الفؤاد بها

أزرت وعينيك بالظبي الكناسي

لقد نعمت بوعد منك منتظر

ونائل من نظام الدين مقضي

هذا المخلص مما صدقت فيه التخلص وما تخرصت، ووثبت فيه من التغزل إلى المديح وما تربصت، واستوفيت فيه شروط حسن التخلص لما تخلصت.

وقولي أيضاً من أخرى تخلصت فيها من الافتخار إلى المدح:

كم قلبتني الليالي في تقلبها

فكنت قرة عين الفضل والأدب

تزيدني نوب الأيام مكرمة

كأنني الذهب الأبريز في اللهب

لا أستريب بعين الحق أدفعه

ولا أراب بعين الشك والريب

لقد طلبت العلى حتى انتهيت إلى

ما لا ينال وكانت منتهى أربي

حسبي من الشرف العليا أرومته

أن انتمي لنظام الدين في حسبي

وقد تقدم أكثر هذه القصيدة في نوع الاستعارة.

ولنكتف من محاسن التخلص بهذا المقدار، فقد أوردنا منها ما تستحليه الأسماع وتستجلبه الأفكار.

تنبيه - قد تقدم أن أحسن التخلص ما كان في بيت واحد، وأحسن منه ما كان من الغزل إلى المدح.

قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح اللامية: وقد ذم بعض المتأخرين ذلك، لكنه حسن ما قبح، فقال:

ص: 246

بينا ذوائب من يحب بكفه

حتى تعلق لحية الممدوح

انتهى. وهذا ذم ظرافة لا تحقيق، فعلى الأول المعول.

وإذ ذكرنا هذه الجملة من محاسن المخالص، تعين علينا أن ننبه على ضدها، ليتحرز المبتدي، ويتيقظ المنتهي من سنة الغفلة عن الوقوع في مثلها.

فمن قبيح التخلص قول أبي نواس من قصيدة في الفضل بن يحيى:

سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد

هواك لعل الفضل يجمع بيننا

فإنه ما زاد على أن يجعله قوادا له، ولهذا استحق به السخط من ممدوحه.

حدثت رابعة البرمكية قالت: كنت يوما وأنا وصيفة على رأس مولاي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، وبيدي مذبة أذب بها عنه، إذ استؤذن لمسلم بن الوليد الأنصاري فأذن له، فلما دخل أعظمه وأكرمه، واستنشده، ثم خلع عليه وأجازه وانصرف. فما قلت أنه جاز الستر حتى استؤذن لأبي نواس، فامتنع من الإذن له، حتى سأله بعض من كان في المجلس أن يأذن له ففعل على تكره منه، فلما دخل عليه ما علمت أنه رد عليه، ولا أمره بالجلوس، ولا رفع إليه رأسه. فلما طال عليه وقوفه قال: معي أبيات أفأنشدها؟ فقال: افعل، وهو في نهاية التكره له والتثقل منه.

فأنشده:

طرحتم من الترحال أمرا فغمنا

ولو قد فعلتم صبح الموت بعضنا

فلما بلغ إلى قوله:

سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد

هواك لعل الفضل يجمع بيننا

قطب في وجهه، وقال: امسك عليك لعنة الله، أعزب قبحك الله، وأمر بإخراجه محروما فأخرج، والتفت الفضل إلى أنس بن أبي شيخ فقال: ما رأيت مثل هذا الرجل، ولا أقل تمييزا لكلامه منه، فقال أنس: فإن اسمه كبير، فقال: عند من ويلك؟ هل هو إلا عند إسقاط مثله.

ويقال أن أبا نواس اعتذر عن ذلك وقال: ما أردت بالفضل في قولي (لعل الفضل يجمع بيننا) إلا معنى الإفضال لا الممدوح، وهو عذر غير واضح.

وتبعه المتنبي في معنى هذا المخلص وزاد عليه فجاء بالطامة الكبرى حيث قال:

عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي

إلى التي تركتني في الهوى مثلا

فأتى بما لا يحتمل التأويل والاعتذار، ولا يقال معه عثار.

وممن وقع في حبائل هذا القبح لما رام حسن التخلص، الشيخ عبد الرحمن بن المهدي العقبي من قصيدة في الشيخ عبد الرحمن المرشدي يهنئه بتقلده الإمامة والخطابة والفتوى في آخر عام تسعة عشر وألف:

أنا لم أدر ما الصبابة لولا

نظرة الريم من خلال الحجال

منية دونها المنية والآجال نيطت بأعين الآجال

لو رثت لي لألصقتني بما بين مجال القروط والأحجال

غير أن الهوى شديد محال

يفتك الريم فيه بالرئبال

لذت من حربه بسلم فما زا

د سوى تيه عزة ودلال

أشكلت قصتي وها أنا أعدد

ت لها رأي موضح الإشكال

غير أن هذا أخف من ذاك على كل حال، على أن الكل قبيح.

والأصل في هذا المعنى لقيس بن ذريح حين طلق زوجته لبنى فتزوجت غيره، ثم ندم على طلاقها وكان مشغوفا بها، فشبب بها وما زال يشكو لوعة فراقها في أشعاره حتى رحمه ابن أبي عتيق، فسعى في طلاقها من زوجها وأعادها إلى قيس، فقال يمدحه ويشكره:

جزى الرحمن أحسن ما يجازي

على الإحسان خيرا من صديق

وقد جربت إخواني جميعا

فما ألفيت كابن أبي عتيق

سعى في جمع شملي بعد صدع

ورأي حدت فيه عن الطريق

وأطفأ لوعة كانت بقلبي

أغصتني حرارتها بريقي

فلما سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس: يا حبيبي امسك عن مدحك هذا، فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا.

ومن قبيح المخالص قول المتنبي أيضاً:

غدا بك كل خلو مستهاما

وأصبح كل مستور خليعا

أحبك أو يقولوا جر نمل

ثبير أو ابن إبراهيم ريعا

فإن هذا المخلص جمع بين الثقل والبرودة وتعسف المعنى، ومعناه أنه علق انقضاء حبها على أمر مستحيل عادة، وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبير أو مستحيل ادعاء وهو خوف الممدوح. ومراده أن يقرر أن كلا من هذين الأمرين من المستحيلات.

وقوله أيضاً:

لا يجذبن ركابي نحوه أحد

ما دمت حيا وما قلقن كيرانا

لو استطعت ركبت الناس كلهم

إلى سعيد بن عبد الله بعرانا

ص: 247

قال الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى: في هذا البيت أراد أن يزيد على الشعراء في ذكر المطايا فأتى بأخزى الخزايا، ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها، وللمدوح أيضاً عصبة لا يجب أن يركبوا إليه. فهل في الأرض أفحش من هذا التسحب، وأوضع من هذا التبسط.

ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:

فالعيس أعقل من قوم رأيتهم

عما يراه من الإحسان عميانا

وإذا انتقل الشاعر مما ابتدأ به الكلام إلى المدح ونحوه من غير ملائمة سمي اقتضابا، وافتطاما، وارتجالا، وهو مذهب العرب الجاهلية والمخضرمين الذين أدركوا الإسلام؛ كلبيد؛ وحسان، وكثير من الإسلاميين ومن المولدين يتبعونهم في ذلك، ويجرون على مذهبهم فيه.

كقول أبي تمام:

لو رأى الله أن في الشيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا

ثم قال بعده من غير ملائمة:

كل يوم تبدي صروف الليالي

خلقا من أبي سعيد رغيبا

وقوله من أخرى يمدح المعتصم بالله العباسي:

وقد طوى الشوق في أحشائنا بقر

عين طوتهن في أحشائها الكلل

يخزي ركان النقا ما في مآزرها

ويفضح الكحل في أجفانها الكحل

تكاد تنتقل الأرواح لو تركت

من الجسوم إليها حيث تنتقل

طلت دماء هريقت عندهن كما

طلت دماء هدايا مكة الهمل

هانت على كل شيء فهو يسفكها

حتى المنازل والأحداج والإبل

ثم قال بعده من غير مناسبة، ولا تقريب:

بالقائم الثامن المستخلف أطأدت

قواعد الملك ممتدا لها الطول

وهو في شعره كثير.

وكقول البحتري:

تمادت عقابيل الهوى وتطاولت

لجاجة معتوب عليه وعاتب

إذا قلت قضيت الصبابة ردها

خيال ملم من حبيب مجانب

يجود وقد ضن الألى شغفي بهم

ويدنو وقد شطت ديار الحبائب

ترينيك أحلام النيام وبيننا

مفاوز يستفرغن جهد الركائب

ثم قال بعده بلا مناسبة:

لبسنا من المعتز بالله نعمة

هي الروض موليا بغزر السحائب

وقوله من أخرى في الفتح بن خاقان:

ويوم تثنت للوداع وسلمت

بعينين موصول بلحظيهما السحر

توهمتها ألوى بأجفانها الكرى

كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر

ثم قال بعده:

لعمرك ما الدنيا بنا قصة الجدا

إذا بقي الفتح بن خاقان والبحر

وهو في شعره: أكثر، حتى أن السليماني الشاعر عرض به في قوله:

يغتابني فإذا التفت أبان عن محض صحيح

وثبا كوثب البحتري

من النسيب إلى المديح

وهو في شعر الشريف الرضي كثير جدا، ولا فائدة في إيراد شيء منه هنا، لأنه خارج عن البديع وما كان الغرض من إيراد هذه الجملة منه إلا بيانه بالتمثيل، والله أعلم.

تنبيه - ذهب أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي إلى أنه لم يقع في القرآن شيء من التخلص لما فيه من التكلف، وقال: إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم وقد أنكر عليه جماعة من العلماء ذلك، وغلطوه في قوله هذا، وقالوا: إن في القرآن من التخلصات العجيبة ما يحير العقول. فانظر إلى سورة الأعراف، كيف ذكر فيها الأنبياء، والقرون الماضية، والأمم السالفة؛ ثم ذكر موسى؛ إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله:(واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله:(قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين) من صفاتهم كيت وكيت، وهم (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) ، وأخذ في صفاته الكريمة، وفضائله العظيمة. وفي سورية الكهف حكى قول ذي القرنين في السد (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا) ، فتخلص منه إلى وصف حالهم بعد دكه الذين هو من أشراط الساعة، ثم بالنفخ في الصور، ثم ذكر الحشر، ووصف مآل الكفار والمؤمنين؛ ومثل ذلك في القرآن كثير، والله أعلم.

وقد طال الكلام في هذا النوع، فلنتخلص إلى إثبات أبيات البديعيات.

فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:

من كل معربة الألفاظ معجمة

يزينها مدح خير العرب والعجم

ص: 248

هذا المخلص جار على الشرط الذي قرر في حسن التخلص، من كونه في بيت واحد، وأن يثب الشاعر من شطره الأول إلى الثاني، وهو كذلك. غير أن تمام معناه متعلق بما قبله، فهو غير صالح للتجريد. وقد مر أن أبيات البديعيات التزموا أن يكون كل بيت فيها شاهدا على نوعه بمجرد لا يتعلق بما بعده، ولا بما قبله، ومخلص الشيخ صفي الدين هذا إذا لم يذكر ما قبله كان ناقص المعنى؛ منخرم النظام، لا يظهر كمال حسنه، ولا تستحلي الأذواق طعم حلاوته؛ ما لم يؤت بمتعلقه وهو بيت القسم، وبيت الاستعارة، وبيت مراعاة النظير.

فيتعين إيرادها هنا لإيضاح ذلك، وهي:

لا لقبتني المعالي بابن بجدتها

يوم الفخار ولا بر التقى قسمي

إن لم أحث مطايا العزم مثقلة

من القوافي تؤم المجد عن أمم

تجار لفظي إلى سوق القبول بها

من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم

من كل معربة الألفاظ معجمة

يزينها مدح خير العرب والعجم

قال ابن حجة: وأين الشيخ صفي الدين من قول كمال الدين بن النبيه وقد تقدم:

يا طالب الرزق إن سدت مطالبه

قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت

هذا المخلص لحسن تجريده يستغني به عن قصيدة. انتهى.

قلت: تقدم أن ابن النبيه تخلص قبل هذا البيت بقوله:

في أحسن الناس أشعاري إذا نسبت

وفي أجل ملوك الأرض إن مدحت

فالمخلص هذا البيت لا ذاك، فلا يخفى عليك غباوة ابن حجة، وصلود زند فهمه.

ومخلص بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:

يمم بنا البحر إن الركب في ظمأ

فقلت سيروا فهذا البحر عن أمم

قد تقدم أن ابن جابر أتى في مطلعه بصريح المدح حيث قال:

بطيبة انزل ويمم سيد الأمم

وانثر له المدح وانثر طيب الكلم

فأطلق التصريح وبين المدح، ونشر الكلم، فلم يبق لحسن التخلص محل ولا موقع، لأن معنى التخلص أن يكون من غزل ونسيب ونحو ذلك إلى المديح، لا من المديح إلى المديح - قاله ابن حجة بالمعنى - وأنا أقول: هذا اعتراض في غير محله، لأن ابن جابر وإن صرح بالمدح في مطلعه فقد انتقل بعده إلى الغزل والتشبيب كما يدلك عليه أبياته السابقة في الأنواع المتقدمة، ثم تخلص إلى المدح مرة أخرى، فالتخلص في محله، وكثير من الشعراء من يفعل ذلك، فلا يلتفت إلى كلام ابن حجة فإنه ليس بحجة.

وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا

بمدح أكرم خلق الله كلهم

الشيخ عز الدين جاء بالاقتضاب وسماه حسن التخلص، فإنه قال قبل هذا البيت من غير فاصلة:

وارع النظير من القوم الآلى سلفوا

من الشباب ومن طفل ومن هرم

فليس بين بيت التخلص بزعمه وبين هذا البيت علاقة أصلا، ولا أدنى ملائمة، ولا مناسبة، بل هو استئناف كلام آخر، فهو اقتضاب قطعا.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

ومن غدا قسمه التشبيب في غزل

حسن التخلص بالمختار من قسمي

أقول: قد تقرر أن حسن التخلص من المواضع التي ينبغي للشاعر التأنق فيها لفظا ومعنى، ولا ينبغي له أن يرتكب فيه ضرورة، لأنه مناف للتأنق المشروط فيه، وابن حجة قد ارتكب في مخلصه هذا الضرورة بحذف فاء الجواب المختص بالضرورة على الصحيح، لأنه كان ينبغي أن يقول: فحسن التخلص، لكنه حذف الفاء لإقامة الوزن ضرورة، كقول الآخر:(من يفعل الحسنات الله يشكرها) . قال ابن هشام في المغني: وعن المبرد: أنه منع ذلك حتى في الشعر وزعم أن الرواية (من يفعل الخير فالرحمن يشكره) .

ومخلص بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

راعي النظير طوى نشر العلى عملا

رام التخلص بالمختار في الأمم

هذا المخلص أيضاً لا يظهر وجه المناسبة بينه وبين ما قبله، لأن قبله قوله:

خوافي الحب أورتها قوادمه

من استعارة نار الهجر مع سدم

ومعنى هذا البيت بمعزل عن معنى بيت التخلص، فكأن انتقاله إلى المدح اقتضابا لا تخلصا، وإن سماه به ادعاء.

ومخلص بديعيتي قولي:

وقد هديت إلى حسن التخلص من

غي النسيب بمدحي سيد الأمم

ص: 249