الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثَالِثٍ، وَهَكَذَا مَا تَقَرَّرَ فِيهِ مِنَ الإِْخْبَارَاتِ لَا بِحَسَبِ النَّوْعِ الأَْوَّل، إِلَاّ إِذَا سَكَتَ عَنْ بَعْضِ التَّفَاصِيل فِي بَعْضٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضٍ. وَذَلِكَ أَيْضًا لِوَجْهٍ اقْتَضَاهُ الْحَال وَالْوَقْتُ. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1)
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ لِمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْوَجْهَ الأَْخِيرَ أَنْ يُتَرْجِمَ كَلَامًا مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ بِكَلَامِ الْعَجَمِ عَلَى حَالٍ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يُتَرْجَمَ الْقُرْآنُ وَيُنْقَل إِلَى لِسَانٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ، إِلَاّ مَعَ فَرْضِ اسْتِوَاءِ اللِّسَانَيْنِ فِي اعْتِبَارِهِ عَيْنًا، كَمَا إِذَا اسْتَوَى اللِّسَانُ فِي اسْتِعْمَال مَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ وَنَحْوُهُ. فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الْمَنْقُول إِلَيْهِ مَعَ لِسَانِ الْعَرَبِ، أَمْكَنَ أَنْ يُتَرْجَمَ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ. وَإِثْبَاتُ مِثْل هَذَا بِوَجْهٍ بَيِّنٍ عَسِيرٌ جِدًّا. وَرُبَّمَا أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَهْل الْمَنْطِقِ مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَافٍ وَلَا مُغْنٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَقَدْ نَفَى ابْنُ قُتَيْبَةَ إِمْكَانَ التَّرْجَمَةِ فِي الْقُرْآنِ يَعْنِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الأَْوَّل فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَمِنْ جِهَتِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيل مَعَانِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلَامِ، فَصَارَ هَذَا الاِتِّفَاقُ حُجَّةً فِي صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْمَعْنَى الأَْصْلِيِّ (2) .
(1) سورة مريم / 64.
(2)
الموافقات 2 / 66 - 68.
4 -
هَذَا وَتَنْقَسِمُ التَّرْجَمَةُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
أ - التَّرْجَمَةُ الْحَرْفِيَّةُ: وَهِيَ النَّقْل مِنْ لُغَةٍ إِلَى أُخْرَى، مَعَ الْتِزَامِ الصُّورَةِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْكَلِمَةِ، أَوْ تَرْتِيبِ الْعِبَارَةِ. (1)
ب - التَّرْجَمَةُ لِمَعَانِي الْكَلَامِ: وَهِيَ تَعْبِيرٌ بِأَلْفَاظٍ تُبَيِّنُ مَعَانِيَ الْكَلَامِ وَأَغْرَاضَهُ، وَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ -
كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهَل تُسَمَّى قُرْآنًا
؟
5 -
ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ كِتَابَةِ آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ بِحُرُوفٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، لَا كِتَابَتِهِ كُلِّهِ، لَكِنْ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَتَفْسِيرُ كُل حَرْفٍ وَتَرْجَمَتُهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ. لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْفُرْسِ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَتَبَ لَهُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بِالْفَارِسِيَّةِ.
ب -
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
وَنَظَرُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ آرَائِهِمْ مُتَوَجِّهٌ إِلَى عَدَمِ الإِْخْلَال بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ لَا تَكُونَ مُؤَدِّيَةً إِلَى التَّهَاوُنِ بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّهَا لَا تُسَمَّى قُرْآنًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ. (2)
(1) الصحاح في اللغة والعلوم مادة: " ترجم ".
(2)
ابن عابدين 1 / 325، 326، 327، وبدائع الصنائع 1 / 112 ط دار الكتاب العربي، والقوانين / 65، ومواهب الجليل 1 / 159 ط دار الفكر، والقليوبي 1 / 151 ط عيسى البابي الحلبي، وروضة الطالبين 1 / 244 ط دار المكتب الإسلامي، ونهاية المحتاج 1 / 462 ط مصطفى البابي الحلبي.
6 -
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ قِرَاءَتَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يُحْسِنْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1) أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُنَزَّل بِلُغَةِ الْعَرَبِ، كَمَا قَال سبحانه وتعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (2) وَقَال أَيْضًا: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (3)
وَلأَِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ مِنْ قَبِيل التَّفْسِيرِ، وَلَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ الْمُنَزَّل عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَالْقُرْآنُ دَلِيل النُّبُوَّةِ وَعَلَامَةُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْمُعْجِزُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَالإِْعْجَازُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ يَزُول بِزَوَال النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، فَلَا تَكُونُ التَّرْجَمَةُ قُرْآنًا لاِنْعِدَامِ الإِْعْجَازِ، وَلِذَا لَمْ تَحْرُمْ قِرَاءَةُ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا مَنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. (4)
(1) سورة المزمل / 20.
(2)
سورة يوسف / 2.
(3)
سورة الشعراء / 195.
(4)
القوانين ص 65، ومواهب الجليل 1 / 519، والقليوبي 1 / 151، وروضة الطالبين 1 / 244، ونهاية المحتاج 1 / 462، والمجموع 3 / 299، والمغني 1 / 486، 487، كشاف القناع 1 / 340.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَجُوزُ. وَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا لِقُوَّةِ دَلِيلِهِمَا وَهُوَ: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُنَزَّل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْظُومِ هَذَا النَّظْمِ الْخَاصِّ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا. وَالأَْعْجَمِيَّةُ إِنَّمَا تُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا، وَلِذَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُتَرْجَمِ إِلَيْهَا (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ - فِيمَا يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ حَرْفِيًّا - كَمَا يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا يُحْسِنُ، فَتَجِبُ لأَِنَّهَا اعْتُبِرَتْ خَلَفًا عَنِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ، وَلَيْسَ لِكَوْنِهَا قُرْآنًا، فَهِيَ حِينَئِذٍ رُخْصَةٌ عِنْدَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَصِيرُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ (2) . وَقَدْ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى رَأْيِ صَاحِبَيْهِ كَمَا سَبَقَ.
ثُمَّ الْجَوَازُ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - الْمَرْجُوعِ عَنْهُ - مَقْصُورٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا بِالْعَبَثِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَادًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
(1) ابن عابدين 1 / 325، وبدائع الصنائع 1 / 112.
(2)
الهداية 1 / 47 ط مصطفى البابي الحلبي، وبدائع الصنائع 1 / 112 ط دار الكتاب العربي، وابن عابدين 1 / 325، 326، 327.