الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَذْمُومٌ أَنْ يَفْعَل الإِْنْسَانُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} (1) وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ؛ لِقُبْحِ مَدْحِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ عَقْلاً وَشَرْعًا، وَلِهَذَا قِيل لِحَكِيمٍ: مَا الَّذِي لَا يَحْسُنُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا؟ فَقَال: مَدْحُ الرَّجُل نَفْسَهُ. (2)
وَالْفُقَهَاءُ يُعَبِّرُونَ عَنِ النِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاحِ بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ التَّعْدِيل فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ. (3)
وَيُعَرِّفُونَ التَّزْكِيَةَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِأَنَّهَا: تَعْدِيل الشُّهُودِ.
وَتَزْكِيَةُ الرَّجُل مَالَهُ: أَنْ يُخْرِجَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهِ.
وَالْجَرْحُ ضِدُّ التَّزْكِيَةِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ فِي الْجِسْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَرَحَهُ بِلِسَانِهِ جَرْحًا: إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ: جَرَحْتُ الشَّاهِدَ أَوِ الرَّاوِيَ: إِذَا أَظْهَرْتَ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ أَوْ رِوَايَتُهُ (4) .
وَقَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْ يُبْعَثُ إِلَيْهِ لِلتَّحَرِّي عَنِ الشُّهُودِ (الْمُزَكِّي) وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يُزَكِّي وَيَجْرَحُ، وَلَكِنْ وُصِفَ بِأَحْسَنِ الْوَصْفَيْنِ.
(1) سورة النجم / 32.
(2)
المفردات في غريب القرآن ص 213 ط دار المعرفة ببيروت.
(3)
تبصرة الحكام هامش فتح العلي المالك 1 / 256، والبدائع 6 / 270.
(4)
معين الحكام 104، 105، والمصباح.
حُكْمُ التَّزْكِيَةِ:
2 -
ذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، إِلَاّ إِذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فِي عَدَالَةِ مَنْ شَهِدَ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَأَوْجَبَ فِيهِمَا التَّزْكِيَةَ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَال.
وَقَال الإِْمَامُ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ: إِنَّ التَّزْكِيَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُل الأُْمُورِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْقَاضِي حَال الشُّهُودِ، فَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُمْ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّزْكِيَةِ. وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمْ مَجْرُوحُونَ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ، وَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
3 -
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الْقَوْل الأَْوَّل عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ بِقَوْل عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَبِأَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَال، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَشْهَدُ أَلَاّ إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ؟ فَقَال: نَعَمْ. فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: نَعَمْ. فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ (1) .
(1) حديث: " أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال. . . " أخرجه الترمذي (3 / 74 - 75 - ط الحلبي) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحكم الترمذي والنسائي عليه بالإرسال.
وَلأَِنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ سَبَبُهَا الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيل ذَلِكَ الإِْسْلَامُ، فَإِذَا وُجِدَ فَلْيُكْتَفَ بِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ.
وَاسْتُدِل لأَِبِي حَنِيفَةَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلُزُومِ التَّحَرِّي فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ: بِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا وَتَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّزْكِيَةِ فِي كُل الأُْمُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَرْضِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَهُ.
وَبِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَوَجَبَ الْعِلْمُ بِهَا كَالإِْسْلَامِ، كَمَا لَوْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ.
أَمَّا الأَْعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ بِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فِي زَمَنِ رَسُول اللَّهِ إِيثَارًا لِدِينِ الإِْسْلَامِ وَصُحْبَةِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ. وَلِلأَْثَرِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أُتِيَ بِشَاهِدَيْنِ، فَقَال لَهُمَا عُمَرُ: لَسْتُ أَعْرِفُكُمَا وَلَا يَضُرُّكُمَا إِنْ لَمْ أَعْرِفْكُمَا، جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا، فَأَتَيَا بِرَجُلٍ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: تَعْرِفُهُمَا؟ فَقَال: نَعَمْ. فَقَال عُمَرُ: صَحِبْتُهُمَا فِي السَّفَرِ الَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ جَوَاهِرُ النَّاسِ؟ قَال: لَا
(1) سورة البقرة / 282.
قَال: عَامَلْتُهُمَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الرَّحِمُ؟ قَال: لَا. قَال: كُنْتُ جَارًا لَهُمَا تَعْرِفُ صَبَاحَهُمَا وَمَسَاءَهُمَا؟ قَال: لَا. قَال: يَا ابْنَ أَخِي لَسْت تَعْرِفُهُمَا. جِيئَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا بَحْثٌ يَدُل عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِدُونِهِ. (1)
4 -
هَذَا، وَقَدْ قَال عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الإِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ لَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا، بَل هُوَ اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَهْدِهِ كَانُوا أَهْل خَيْرٍ وَصَلَاحٍ؛ لأَِنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ (2) فَكَانَ الْغَالِبُ فِي أَهْل زَمَانِهِ الصَّلَاحَ وَالسَّدَادَ، فَوَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنِ السُّؤَال عَنْ حَالِهِمْ فِي السِّرِّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي قَرْنِهِمَا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى السُّؤَال عَنِ الْعَدَالَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَقَّقَ الاِخْتِلَافَ. (3)
(1) البدائع 6 / 270، وابن عابدين 4 / 57، وتبصرة الحكام 1 / 256، وقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 63 - 64.
(2)
حديث: " خير القرون قرني. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 244 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
البدائع 6 / 270، والمغني 9 / 64، ومعين الحكام ص 103.