الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ: إِنَّ رَوَثَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ طَاهِرٌ، وَكَذَا بَوْلُهُ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُمَا لِلاِسْتِقْذَارِ. فَالْقَذَارَةُ لَا تُنَافِي الطَّهَارَةَ إِذْ لَيْسَ كُل طَاهِرٍ يَجُوزُ أَكْلُهُ. (1)
السَّبَبُ الْخَامِسُ: عَدَمُ الإِْذْنِ شَرْعًا لِحَقِّ الْغَيْرِ:
13 -
مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِمَنْ يُرِيدُ أَكْلَهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ مَالِكُهُ وَلَا الشَّارِعُ، وَذَلِكَ الْمَغْصُوبُ أَوِ الْمَسْرُوقُ أَوِ الْمَأْخُوذُ بِالْقِمَارِ أَوْ بِالْبِغَاءِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ، كَأَكْل الْوَلِيِّ مَال مُوَلِّيهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَكْل نَاظِرِ الْوَقْفِ مِنْ مَال الْوَقْفِ. وَأَكْل الْمُضْطَرِّ مِنْ مَال غَيْرِهِ، فَإِنَّهُمْ مَأْذُونُونَ مِنَ الشَّارِعِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَنْ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ. وَفِي قَضِيَّةِ عَدَمِ الإِْذْنِ الشَّرْعِيِّ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يَحِل أَكْلُهُ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ صِحَّةِ التَّذْكِيَةِ وَحُرْمَةِ الْفِعْل غَيْرِ الْمَأْذُونِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِل.
فَإِذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ شَاةً مَثَلاً، أَوْ سَرَقَهَا فَذَبَحَهَا بِصُورَةٍ مُسْتَوْفِيَةٍ شَرَائِطَهَا، فَإِنَّ الذَّبِيحَةَ تَكُونُ لَحْمًا طَاهِرًا مَأْكُولاً، وَلَكِنَّ الذَّابِحَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِذَبْحِهَا دُونَ إِذْنٍ مِنْ صَاحِبِهَا وَلَا إِذْنِ الشَّرْعِ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا. وَكَذَلِكَ لَا يَحِل لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ أَكْل شَيْءٍ مِنْ لَحْمِهَا دُونَ إِذْنٍ أَيْضًا لِمَانِعِ حَقِّ الْغَيْرِ. (2) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي:(غَصْبٌ)(وَذَبَائِحُ) .
(1) المرجع السابق.
(2)
بداية المجتهد 1 / 452.
مَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ لأَِسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ:
14 -
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ (1) أَمْثِلَةً لِلأَْطْعِمَةِ الْمَكْرُوهَةِ، مِنْهَا الأَْمْثِلَةُ التَّالِيَةُ:
أ - الْبَصَل وَالثُّومُ وَالْكُرَّاثُ وَنَحْوُهَا مِنْ ذَوَاتِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، فَيُكْرَهُ أَكْل ذَلِكَ، لِخُبْثِ رَائِحَتِهِ مَا لَمْ يُطْبَخْ، فَإِنْ أَكَلَهُ كُرِهَ دُخُولُهُ الْمَسْجِدَ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكَل ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ لِيَعْتَزِل مَسْجِدَنَا - وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ (2) وَصَرَّحَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ الْكَرَاهَةَ لأَِجْل الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ.
ب - الْحَبُّ الَّذِي دَاسَتْهُ الْحُمُرُ الأَْهْلِيَّةُ أَوِ الْبِغَال، وَيَنْبَغِي أَنْ يُغْسَل.
ج - مَاءُ الْبِئْرِ الَّتِي بَيْنَ الْقُبُورِ وَبَقْلِهَا، لِقُوَّةِ احْتِمَال تَسَرُّبِ التَّلَوُّثِ إِلَيْهَا.
د - اللَّحْمُ النِّيءُ وَاللَّحْمُ الْمُنْتِنُ، قَال صَاحِبُ " الإِْقْنَاعِ " مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَتِهِمَا، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. (3)
الْحَيَوَانُ الْمَائِيُّ: حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ:
15 -
الْمَقْصُودُ بِالْحَيَوَانِ الْمَائِيِّ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ،
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 136 و 139 و 5 / 217، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 1 / 19 و 322 - 325، وشرح الخرشي على خليل 1 / 88، ونهاية المحتاج 8 / 148 - 149، ومطالب أولي النهى 6 / 308 - 309 و 315 و 317.
(2)
حديث: " من أكل ثوما أو بصلا. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 575 - ط السلفية) ومسلم (1 / 394 - ط الحلبي) واللفظ له.
(3)
الظاهر بالنسبة للمنتن بأن يقيد بأنه يكون تغيرا طفيفا، أما إذا اشتد نتنه حتى خيف ضرره فإن أكله عندئذ يجب أن يخضع لقاعدة الضرر التي تقتضي التحريم. (اللجنة) .
مِلْحًا كَانَ أَوْ عَذْبًا، مِنَ الْبِحَارِ أَوِ الأَْنْهَارِ أَوِ الْبُحَيْرَاتِ أَوِ الْعُيُونِ أَوِ الْغُدْرَانِ أَوِ الآْبَارِ أَوِ الْمُسْتَنْقَعَاتِ أَوْ سِوَاهَا. وَلَا يَحِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَائِيِّ شَيْءٌ سِوَى السَّمَكِ فَيَحِل أَكْلُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَا فُلُوسٍ (قُشِّرَ) أَمْ لَا.
وَهُنَاكَ صِنْفَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَائِيِّ اخْتَلَفَ فِيهِمَا الْحَنَفِيَّةُ، لِلاِخْتِلَافِ فِي كَوْنِهِمَا مِنَ السَّمَكِ أَوْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَائِيَّةِ الأُْخْرَى، وَهُمَا الْجِرِّيثُ، وَالْمَارْمَاهِيُّ. (1) فَقَال الإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِعَدَمِ حِل أَكْلِهِمَا، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحِل فِيهِمَا، لأَِنَّهُمَا مِنَ السَّمَكِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنَ السَّمَكِ مَا كَانَ طَافِيًا، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَل عِنْدَهُمْ. وَالطَّافِي: هُوَ الَّذِي مَاتَ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ، بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ، سَوَاءٌ أَعَلَا فَوْقَ وَجْهِ الْمَاءِ أَمْ لَمْ يَعْل، وَهُوَ الصَّحِيحُ. (وَإِنَّمَا يُسَمَّى طَافِيًا إِذَا مَاتَ بِلَا سَبَبٍ وَلَوْ لَمْ يَعْل فَوْقَ سَطْحِ الْمَاءِ نَظَرًا إِلَى الأَْغْلَبِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ إِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَنْ يَعْلُوَ) . (2)
وَإِنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الطَّافِي احْتِمَال فَسَادِهِ وَخُبْثِهِ حِينَمَا يَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهِ وَيُرَى طَافِيًا لَا يُدْرَى كَيْفَ
(1) الجريث - بكسر وتشديد الراء - سمك أسود، وقيل: نوع من السمك مدور كالترس. والمارماهي: سمك في صورة الحية. كذا في الدر المختار على تنوير الأبصار من كتب الحنفية، وحاشية " رد المحتار " لابن عابدين (5 / 195) والمارماهي ضبط بالشكل في لسان العرب (مادة جريث
(2)
البدائع 5 / 35 - 36، وحاشية ابن عابدين 5 / 195، والخانية 3 / 356 بهامش الهندية.
وَمَتَى مَاتَ؟ فَأَمَّا الَّذِي قُتِل فِي الْمَاءِ قَتْلاً بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صِيدَ بِالشَّبَكَةِ وَأُخْرِجَ حَتَّى مَاتَ فِي الْهَوَاءِ.
وَإِذَا ابْتَلَعَتْ سَمَكَةٌ سَمَكَةً أُخْرَى فَإِنَّ السَّمَكَةَ الدَّاخِلَةَ تُؤْكَل، لأَِنَّهَا مَاتَتْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ هُوَ ابْتِلَاعُهَا.
وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ مِنَ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ أَوْ كَدَرِ الْمَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
(إِحْدَاهُمَا) : أَنَّهُ لَا يُؤْكَل، لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ غَالِبًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّمَكَ فِيهَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَيُعْتَبَرُ طَافِيًا.
(وَالثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ يُؤْكَل، لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ الثَّلَاثَةَ أَسْبَابٌ لِلْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مَيِّتًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَا يُعْتَبَرُ طَافِيًا، وَهَذَا هُوَ الأَْظْهَرُ، وَبِهِ يُفْتَى. وَإِذَا أُخِذَ السَّمَكُ حَيًّا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُمَاتَ.
وَاسْتَدَل مَنْ حَرَّمَ الطَّافِيَ بِالأَْدِلَّةِ التَّالِيَةِ:
أ - بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ. (1) وَرَوَى نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا.
ب - بِآثَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: أَنَّهُمْ
(1) حديث: " ما ألقى البحر. . . . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1081 - ط الحلبي)، وأبو داود (4 / 166 ط عزت عبيد دعاس) وصوب أبو داود وقفه. وفي التعليق على سنن ابن ماجه قال الدميري: هو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ لا يجوز الاحتجاج به.
نُهُوا عَنْ أَكْل الطَّافِي. وَلَفْظُ جَابِرٍ فِي رِوَايَةٍ: مَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَمَا كَانَ عَلَى حَافَّتَيْهِ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مَا حَسِرَ الْمَاءُ عَنْ ضِفَّتَيِ الْبَحْرِ فَكُل، وَمَا مَاتَ فِيهِ طَافِيًا فَلَا تَأْكُل.
وَلَفْظُ عَلِيٍّ: " مَا طَفَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ فَلَا تَأْكُلُوهُ.
وَلَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ: " لَا تَأْكُل مِنْهُ - أَيْ مِنْ سَمَكٍ وَفِي الْبَحْرِ - طَافِيًا (1) .
16 -
وَذَهَبَ مَنْ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ إِلَى إِبَاحَةِ كُل حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ بِلَا تَذْكِيَةٍ وَلَوْ طَافِيَةً (2) حَتَّى مَا تَطُول حَيَاتُهُ فِي الْبَرِّ، كَالتِّمْسَاحِ وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ الْبَحْرِيَّيْنِ.
(1) الآثار عن جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم في النهي عن أكل الطافي أخرجها بن حزم في المحلى (7 / 394) ، وأعلها بالضعف والانقطاع.
(2)
قد يبدو أن المذاهب التي تحظر أكل الطافي من السمك تطمئن إليها النفس من الناحية الطبية أكثر، لأن السمكة الطافية التي ماتت حتف أنفها، وطفت فوق الماء قد تكون فسدت وتفسخت لمضي زمن على موتها كاف لفسادها، إذ لا يدرى متى كان موتها، فالطافي مظنة للفساد، فالتحرز عنه أليق بقواعد الشريعةالتي حرمت الخبائث. وقد نص الفقهاء على عدم جواز أكل اللحم إذا فسد وقالوا: إن الحظر هنا لسبب طبي نظرا لضرره.
وقد يقال: إنه عند تعارض الأدلة من النصوص في حل الطافي وعدمه يحكّم الأصل، وهو الإباحة، من جهة الدليل الشرعي، ومجرد الطفو لا يستلزم الفساد، ولحالة الفساد حكمها الخاص وهو المنع للفساد لا لموتها وطفوها. وعندئذ يجب أن يلحظ في موضوع الطافي عند من يقول بحله قد
عام تفرضه قواعد الشريعة ولا مجال للخلاف فيه، وهو ألا تكون السمكة الطافية قد بدت عليها آثار الفساد والتفسخ.
وهذا عندئذ معنى ما روي عن ابن عباس (كما في نيل الأوطار 8/ 147) في بعض الروايات: "طعامه - أى البحر - ميتته إلا ما قذرت منها" أى استقذرت، فإن الاستقذار لحيوان تحل في الأصل ميته إنما يكون لفساده وتفسخه بالمكث فتأمل. (اللجنة) .
وَلَا يَعُدُّ الْفُقَهَاءُ طَيْرَ الْمَاءِ بَحْرِيًّا، لأَِنَّهُ لَا يَسْكُنُ تَحْتَ سَطْحِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَوْقَهُ وَيَنْغَمِسُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ثُمَّ يَطِيرُ، وَلِهَذَا لَا يَحِل عِنْدَهُمْ إِلَاّ بِالتَّذْكِيَةِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي كَلْبِ الْبَحْرِ وَخِنْزِيرِهِ قَوْلٌ بِالإِْبَاحَةِ، وَآخَرُ بِالْكَرَاهَةِ، وَالرَّاجِحُ فِي كَلْبِ الْمَاءِ الإِْبَاحَةُ، وَفِي خِنْزِيرِهِ الْكَرَاهَةُ، (أَيِ الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي إِنْسَانِ الْمَاءِ (1) ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ قَلْيِ السَّمَكِ وَشَيِّهِ مِنْ غَيْرِ شَقِّ بَطْنِهِ وَلَوْ حَيًّا. قَالُوا: وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَعْذِيبًا، لأَِنَّ حَيَاتَهُ خَارِجَ الْمَاءِ
(1) إن المراجع العلمية الحديثة التي بين أيدينا يستفاد منها أن إنسان الماء (ويسمي بالفرنسية: سيرين (Sirene)) هو حيوان أسطوري يوصف في القصص الخيالية بأن نصفه الأعلى امرأة ونصفه الأسفل سمكة (ر: معجم وموسوعة لا روس الفرنسية في كلمة (Sirene)) . وقد نقلنا كلام فقهاء المذاهب في حكم إنسان الماء كما ورد في مصادره، حرصا على أمانة نقل الفقه في هذه الموسوعة، ورأينا أن نثبت هنا هذ. الملاحظة حوله. على أننا نرى أن صنيع الفقهاء القدامى في ذكر هذه الأنواع وتقرير الحكم الفقهي فيها لا محل لنقده بأنهم يذكرون أحكام أنواع من الحيوان أسطورية، ذلك لأن الفقهاء وقفوا أمام أخبار ووقائع يرويها الصيادون وغيرهم
من الناس والرحالين لا يمكن تكذيبها، لأنها محتملة، كما لا يمكن الجزم بصحتها. فواجبهم أن يقرروا لها أحكاما على نقدير صحتها الاحتمالية، ولا سيما أن الشائع من القديم أن عجائب البحر وحيوانه أكثر وأكبر من عجائب البر اليابس، وأنه لا يوجد في البر نوع من الحيوان إلا وله نظير في البحر. وهذا قد كده الاستاذ العلامة محمد فريد وجدى في دائرة معارفه نقلا عن المصادر العلمية الحديثة الأجنبية (ر: دائرة معارف القرن العشرين للعلامة محمد فريد وجدى كلمة: بحر- البحر حيويا) .
كَحَيَاةِ الْمَذْبُوحِ. (1)
17 -
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ذَبْحُ مَا تَطُول حَيَاتُهُ كَسَمَكَةٍ كَبِيرَةٍ. وَيَكُونُ الذَّبْحُ مِنْ جِهَةِ الذَّيْل فِي السَّمَكِ، وَمِنَ الْعُنُقِ فِيمَا يُشْبِهُ حَيَوَانَ الْبَرِّ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا تَطُول حَيَاتُهُ كُرِهَ ذَبْحُهُ وَقَطْعُهُ حَيًّا.
وَهَذَا التَّعْمِيمُ فِي الْحِل هُوَ أَصَحُّ الْوُجُوهِ عِنْدَهُمْ. وَهُنَاكَ سِوَاهُ وَجْهَانِ آخَرَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَا يَحِل مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ سِوَى السَّمَكِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّ مَا يُؤْكَل مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ كَاَلَّذِي عَلَى صُورَةِ الْغَنَمِ يَحِل، وَمَا لَا يُؤْكَل مِثْلُهُ فِي الْبَرِّ كَاَلَّذِي عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ وَالْحِمَارِ لَا يَحِل.
وَيَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْحَيَوَانُ (الْبَرْمَائِيُّ)(2) أَيِ الَّذِي يُمْكِنُ عَيْشُهُ دَائِمًا فِي كُلٍّ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَرِّ مَأْكُولٌ. وَقَدْ مَثَّلُوا لَهُ بِالضُّفْدَعِ، وَالسَّرَطَانِ، وَالْحَيَّةِ، وَالنَّسْنَاسِ، (3) وَالتِّمْسَاحِ، وَالسُّلَحْفَاةِ. (4) وَتَحْرِيمُ هَذَا النَّوْعِ
(1) الشرح الصغير 1 / 312 و 322 - 323، والرهوني مع كنون 3 / 42، والخرشي على مختصر خليل 1 / 83.
(2)
التسمية بالبرمائي من الموسوعة أخذا من لغة العصر.
(3)
النسناس: بفتح النون ويجوز كسرها: حيوان يوجد بجزائر الصين، يثب على رجل واحدة، وله عين واحدة، يقتل الإنسان إذا ظفر به، وينقز (أي يثب صعدا ويقفز) كنقز الطير (ر: حاشية البجيرمي على شرح المنهج 4 / 304، ومحيط المحيط مادة: نسنس) .
(4)
السلحفاة: بضم السين وكسرها مع فتح اللام وسكون الحاء، وفيها لغات أخرى: دابة برية ونهرية وبحرية، لها أربع قوائم، تختفي بين طبقتين عظميتين صقيلتين، والكبار من البحرية تبلغ مقدارا عظيما، ويقال لها: اللجأة أيضا، والذكر يقال له: الغيلم. وهي معربة عن لفظ "سولاح باي" بالفارسية (محيط المحيط)
الْبَرْمَائِيِّ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ " وَأَصْلُهَا وَاعْتَمَدَهُ الرَّمْلِيُّ. لَكِنْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي " الْمَجْمُوعِ " أَنَّ جَمِيعَ مَا يَكُونُ سَاكِنًا فِي الْبَحْرِ فِعْلاً تَحِل مَيْتَتُهُ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عَيْشُهُ فِي الْبَرِّ، إِلَاّ الضُّفْدَعُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْخَطِيبِ وَابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ، وَزَادَا عَلَى الضُّفْدَعِ كُل مَا فِيهِ سُمٌّ.
وَعَلَى هَذَا فَالسَّرَطَانُ وَالْحَيَّةُ وَالنَّسْنَاسُ وَالتِّمْسَاحُ وَالسُّلَحْفَاةُ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ سَاكِنَةَ الْبَحْرِ بِالْفِعْل تَحِل، وَلَا عِبْرَةَ بِإِمْكَانِ عَيْشِهَا فِي الْبَرِّ، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِنَةَ الْبَرِّ بِالْفِعْل تَحْرُمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّنِيلِسِ: (1) فَأَفْتَى ابْنُ عَدْلَانَ بِحِلِّهِ، وَنُقِل عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الإِْفْتَاءُ بِتَحْرِيمِهِ. (2)
وَلَا يُعْتَبَرُ الإِْوَزُّ وَالْبَطُّ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لأَِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ فِي الْبَحْرِ دَائِمًا، فَهِيَ مِنْ طُيُورِ الْبَرِّ، فَلَا تَحِل إِلَاّ بِالتَّذْكِيَةِ كَمَا يَأْتِي (ف 41) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ابْتِلَاعُ السَّمَكِ حَيًّا إِذَا لَمْ يَضُرَّ، وَكَذَا أَكْل السَّمَكِ الصَّغِيرِ بِمَا فِي جَوْفِهِ، وَيَجُوزُ قَلْيُهُ وَشَيُّهُ مِنْ غَيْرِ شَقِّ بَطْنِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ
(1) قال الدميري: " الدنيلس هو نوع من الصدف والحلزون " ويظهر من مجموع ما قالوه فيه أنه الصدف الصغير الذي يسمى في مصر: أم الخلول.
(2)
لعل الإفتاء بالتحريم مبني على ما قيل من أن الدنيلس هو أصل السرطان، فإذا كان السرطان محرما كان أصله محرما. والإفتاء بالحل مبني على أن كلا من الدنيلس والسرطان أصل برأسه، أو على أن السرطان الذي يعيش في البحر حلال، وإن أمكن عيشه في البر، كما صححه النووي في المجموع (ر: حياة الحيوان للدميري 1 / 339، وتحفة المحتاج لابن حجر مع حاشية الشرواني 8 / 175) .
إِنْ كَانَ حَيًّا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ الدُّهْنُ. (1)
18 -
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْحَيَوَانِ الْبَرْمَائِيِّ، كَكَلْبِ الْمَاءِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحِل بِالتَّذْكِيَةِ.
وَزَادُوا بِالإِْضَافَةِ لِلضُّفْدَعِ اسْتِثْنَاءَ الْحَيَّةِ وَالتِّمْسَاحِ، فَقَالُوا بِحُرْمَةِ الثَّلَاثَةِ: فَالضُّفْدَعُ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا، وَالْحَيَّةُ لاِسْتِخْبَاثِهَا، وَالتِّمْسَاحُ لأَِنَّ لَهُ نَابًا يَفْتَرِسُ بِهِ. لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَثْنُوا سَمَكَ الْقِرْشِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَابٌ يَفْتَرِسُ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقِرْشَ نَوْعٌ مِنَ السَّمَكِ لَا يَعِيشُ إِلَاّ فِي الْبَحْرِ بِخِلَافِ التِّمْسَاحِ.
وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ كَيْفِيَّةَ ذَكَاةِ السَّرَطَانِ أَنْ يُفْعَل بِهِ مَا يُمِيتُهُ، بِأَنْ يُعْقَرَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَدَنِهِ. (2)
وَإِذَا أُخِذَ السَّمَكُ حَيًّا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُمَاتَ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَيُكْرَهُ شَيُّهُ حَيًّا، لأَِنَّهُ تَعْذِيبٌ بِلَا حَاجَةٍ، فَإِنَّهُ يَمُوتُ سَرِيعًا فَيُمْكِنُ انْتِظَارُ مَوْتِهِ. (3)
19 -
وَفِي حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ مَذَاهِبُ أُخْرَى: مِنْهَا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُول: إِنَّ مَا عَدَا السَّمَكَ مِنْهَا يُؤْكَل
(1) نهاية المحتاج 8 / 143، وشرح المنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 304، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 8 / 112 - 114، 175، وأسنى المطالب 1 / 554.
(2)
المقنع لابن قدامة 3 / 529، ومطالب أولي النهى 6 / 315 و 329.
(3)
البدائع 5 / 35 - 36، وابن عابدين 5 / 195، والصاوي على الشرح الصغير 1 / 323، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 115، والخرشي على مختصر خليل 1 / 93، ونهاية المحتاج 8 / 142، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 8 / 174 - 175، وحاشية البجيرمي على المنهج 6 / 303 - 304، ومطالب أولي النهى 6 / 328.
بِشَرِيطَةِ الذَّكَاةِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقُول كَذَلِكَ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحِل عِنْدَهُ إِنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُهُ، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَحْرِيمُ مَا سِوَى السَّمَكِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَثَانِيهِمَا: الْحِل بِالذَّبْحِ كَقَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى (1) .
20 -
وَدَلِيل الْجُمْهُورِ الَّذِينَ أَحَلُّوا كُل مَا يَسْكُنُ جَوْفَ الْمَاءِ وَلَا يَعِيشُ إِلَاّ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} . (2) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} ، (3) فَلَمْ يُفَرِّقْ عز وجل بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ سَمَكًا وَمَا يُسَمُّونَهُ بِاسْمٍ آخَرَ كَخِنْزِيرِ الْمَاءِ أَوْ إِنْسَانِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لَا تَجْعَلُهُ خِنْزِيرًا أَوْ إِنْسَانًا.
وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِل عَنِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ. (4)
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حِل جَمِيعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَسْكُنُ الْبَحْرَ سَوَاءٌ أُخِذَ حَيًّا أَمْ مَيِّتًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ طَافِيًا أَمْ لَا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ دَابَّةِ الْعَنْبَرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، قَال حَدَّثَنِي جَابِرٌ، قَال: بَعَثَنَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّرَ
(1) البدائع 5 / 35، والمحلى 7 / 394.
(2)
سورة فاطر / 12.
(3)
سورة المائدة / 96.
(4)
حديث: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". أخرجه مالك (1 / 22 - ط الحلبي) وصححه البخاري وغيره، (التلخيص الحبير 1 / 9 ط الشركة الفنية المتحدة) .