الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علائقه مع إسبانيا
كان سبب نشوء العلائق بين المترجم ودولة إسبانيا وجود أسارى المسلمين في بلادها، وقد علمت رغبته رحمه الله في افتدائهم من أى بلاد كانوا، وتقرر أمرها واشتهر، فاتفق أن وردت إليه عدة رسائل من أولئك الأسارى وفيهم بعض الطلبة وعلماء الدين يعلمونه بما هم فيه من الشدة والضيق، فلما اتصل بها تمكنت منه ضراعتهم فأمر لهم بصلة حسنة، حسبما هى عادته معهم في كل سنة.
وكتب في الحال لملك الأسبان (كارلوس الثالث) يقول له: إننا في ديننا لا يسعنا إهمال الأسارى وإبقاؤهم في قيد الأسر، ولا حجة للتغافل عنهم ممن ولاه الله التصرف والأمر، وفيما نظن أن في دينكم لا يسوغ لكم ترك أساراكم في الأسر مع الإمكان والاستطاعة ووجود ما يفتدون به من أسارى المسلمين واتساع البضاعة، فما للتغافل من الجهتين وجه يعتبر، ولا أمر ينتظر، والحرب سجال، في المبارزة والنزال.
ومسألة هى من أعظم هذا كله، هى إغفالكم عن البحث في أسارى المسلمين حتى يتبين لكم العالم بعلمه، والجاهل بجهله، ثم تجعلون لأهل حرمة ومكانة، وعزة وصيانة، بحيث تجعلون لهم كعلامة يميزون بها عن الغير، حتى لا يقع أحد فيهم بشتم ولا بهضم حرمة في مقامهم والسير، مثل ما نفعله نحن بأساراكم من الفرايلية، إن قدر الله بأسرهم لا نكلفهم بخدمة، ولا نخفر لهم ذمة، فعلام تحترمون الرؤساء من الأسارى؛ ولا تعبئون بحامل كتاب الله، على أنهم أفضل منهم عند الله، ومطلق أساراكم لا نحملهم ما لا يطيقون، ولا نلزمهم ما لا عليه يقدرون، نترك مريضهم لمرضه، ونسمع ضراعتهم وننصت لما يقولون، فتأمل ذلك في نفسك، واعمل بمقتضاه وأمر به أبناء جنسك.
فلما وصل هذا الكتاب للملك سر به وأمر في الحين بإطلاق الأسارى الذين بحضرته وبعث بهم للمترجم، وأخذ يبحث عمن بقى من أسارى المغرب متفرقا في بلاده، وأجاب بتلطف وتودد وتحبب ورغب في المهادنة مثل ما وقع لمن تقدمه من الدول.
فلما وصل كتابه للمترجم بذلك وقع منه موقعا حسنا، وأمر على الفور بمقابلة الجميل بمثله، فأطلق لملك الأسبان سراح جميع الأسارى الإسبان، وقدم له اثنين من رجال الدين عندهم كانا أسيرين منذ مدة، وبعث له بعدة من الأسود هدية، وكتب له كتابا بذلك ووعده بالمهادنة وسراح أسارى من غير جنسه، لتكون له بذلك مزية على غيره من الدول، وإشارة لما ينبغى من عدم التفرقة بين أسارى المغرب وأسارى غيره من بلاد الإسلام.
ووجه الجميع على يد حاكم سبتة، فلما وصل ذلك للملك سر بذلك كل السرور وشمر عن ساعد الجد، وهيا هدية بالغ فيها غاية الجهد، وبعثها مع كبير الرهبان وبعض الضباط، وأصحبهم كتابه مع السفن لحمل الأسارى الذين سرحوا، والفرقة الموعود بها وطلب من المترجم أن يبعث له ببعض رجال دولته لتكمل بذلك المواصلة ويشتهر أمرها، فأسعفه بذلك وبعث إليه خاليه عمارة بن موسى الأودى، ومحمد بن ناصر الأودى، وأحد كتابه أبا العباس أحمد الغزال، ووجه معهم عدة من الإبل وعتاق الخيل، هدية للملك لما له في ذلك من المحبة والميل.
ولما حان وقت التشييع لقن الكاتب المذكور ما يكون عليه عمله، وأوصاه بتفقد حال بقية الأسارى واختبار أمورهم، وأعطاه صلة أنعم بها عليهم، وأمره أن يحصى كل واحد باسمه ولقبه، واسم رئيسه ومركبه، وتمييز الحامل لكتاب الله من غيره ومواعدة الجميع بخير، وأمره بتقييد ما يلقى في رحلته، ووصف ما يرى في وجهته، وأحضر سفراء الملك ودفع لهم الأسارى الطاعنين في السن من غير
جنسهم، وخرج الجميع من مكناسة لطنجة، ومنها كان ركوبهم لإسبانيا، ودخلوا في طريقهم لسبتة منتصف ذى الحجة سنة 1179، وأطلقت لأجل حلولهم بها المدافع، وتلقوا فيها بكل ترحيب، وأقاموا فيها ستة أيام، في رعاية وإكرام.
وطلب منهم حاكم المدينة أن يكلموا له المجاهدين المرابطين على أبواب سبتة وحدودها ليتركوا مواشى المدينة ترعى قرب رباطهم بقليل، فأجيب إلى ذلك.
وفى الواحد والعشرين من ذى الحجة ركبت السفارة منها البحر للجزيرة الخضراء، وشيعت بالمدافع كما تلقيت بمثل ذلك في الجزيرة، وأقيمت فيها حفلة رقص تكريما لها، حضرها حاكم المدينة وغيره، ومن الغد اتصل الحاكم بكتاب ملكه يخبره أنه بعث خمس مراكب لمرسى سبتة لعبور السفارة عليها، وأمره إذا كانت قد عبرت قبل وصول الكتاب أن يبقيها في ضيافته ثلاثة أيام حتى تجئ الخيل التي بعثها للسفارة، فإذا مرت الأيام دون مجيئها فليبعثها مع ثلانين فارسا مما عنده.
ومن الجزيرة ساروا لمدينة طريف فدخلوها في ازدحام عظيم واحتفال كبير كما خرجوا منها في مثل ذلك إلى مدينة (حراثة) حيث التقوا بالخيل المبعوثة من الملك مع الفسيان المكلف بمصاحبتهم، وقد ذكر لهم اعتناء الملك بهم وتشوفه لملاقاتهم، وأقيمت للسفارة في هذه المدينة حفلة رقص وشاهدت مصارعة الثيران، المعروفة عن الإسبان، ثم ساروا لمدينة (حريز) ومنها لـ (الابريخة) فـ (بلاصيوص وبلا فرنكة) فإشبيلية، حيث نزلوا منها بقصر فخم للملك وشاهدوا جامعها الأعظم ومصنع المدافع والمدرسة البحرية، ومنها ساروا لمدينة قرطبة على طريق قرمونة (فالفوينصى) فـ (أيسخا) فـ (الراملة) فزاروا جامعها الشهير ورأى فيه الغزال لوحتين كتبت فيهما البسملة والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم موضوعتين بعتبة بعض
الأماكن المخصصة لسكنى الرهبان، فاقترح عليهم رفعهما لأعلى سور المسجد تكرمة لما فيهما، فأجابوه لذلك بعد أن راجوا وماجوا واعتذروا، ثم ساروا منها يخترقون البلاد إلى عاصمة مدريد، ومنذ خرجوا من قرطبة ورسل الملك تتردد عليهم بالترحيب والسلام من قبله، ثم يرجعون إليه.
ولما دنوا من مدريد وكان هو في بعض ضواحيها أرسل إليهم أحد أعيان رجاله مصاحبا لكتابه مضمنه التهنئة بالقدوم وأمر الفسيان المكلف بمرافقتهم بالذهاب بهم إلى مدريد، كما أمر بالاستعداد لدخولهم إليها، وأن يكون اليوم مشهودا، وأن يذهب بهم إلى أماكن خاصة ليروها، وقد كانت السفارة تقابل في المدن التي مرت عليها في طريقها لمدريد بالحفاوة العظيمة ويحتشد الناس لرؤيتها من أطراف البلاد وتحيا بالمدافع والموسيقى والسواريخ، وتذهب في خفارة الجنود المصلتة السيوف إلى الدور المعدة لنزولها، وتقام لها حفلات الاقتبال والرقص والغناء لأعيان المدينة، وتدعى للحفلات والمشاهد.
ولما وصوا لمدريد نزلوا فيها بالقصر المخصص لنزولهم، وهو قصر بديع بناه فيليب الرابع، ولم تزل أعيان الدولة الاسبانية تتوارد إليهم بقصد السلام والترحيب حتى إنهم لم يجدوا استراحة مقدار لحظة، ثم ورد خبر موت أم الملك فأعلن الحداد عليها في البلاط الملوكى وتأخرت بسبب ذلك مقابلة الملك حسبما أفصح بذلك وزيره في رسائله للسفارة، وقد أقاموا بمدريد ما يزيد على الشهر بأيام قلائل، زاروا في أثنائه بعض مشاهدها ومنتزهاتها وقصورها.
وكان الجمهور الإسباني يجتمع كل عشية حول القصر الذى نزلوا فيه رغبة في مشاهدتهم فكانوا يشرفون عليهم مشيرين إليهم بالتحية فيضجون بالدعاء للسلطان المترجم ويتفرقون مسرورين، ثم يجتمع مثل ذلك في الغد، وهكذا وفى مدريد تقدمت إليهم شكوى من أربع وعشرين من أسارى المسلمين فوجهت لهم بالمستشفى صلة ووعدوا خيرا.
ثم بعث لهم الملك بأكداش ليركبوها ويذهبوا إليه للمدينة التي هو بها، فخرجوا من مدريد عاشر ربيع الأول سنة 1180 ومروا على الطريق الجارى العمل بتمهيدها قرب قرية (ورامة)، وكان أسارى المسلمين يعملون هناك في شق الجبال وهد الشواهق بالبارود، وكانوا يصابون في ذلك ولم يتيسر للسفارة لقاءهم لأنها كانت تسرى ليلا فلم تشعر إلا وقد جاوزت محل قرارهم الذى واعدتهم باللقاء عنده، فكتبت لهم إنها ستلاقيهم عند الأوبة.
ولما أشرفوا على (لا كرنخة) مقر الملك ومصيفه خرج لاستقبالهم أعيان الدولة ووزراؤها مرحبين مهنئين بالنيابة عن ملكهم، وقدموا لهم أكداشا ركبوها، وساروا في جمع عظيم إلى محل النزول، ومن الغد استدعاهم الوزير لمحله فذهبوا إليه، وجرى بينهم الحديث في علائق الدولتين ومحبة الملك للسلطان وأنه مسرور من إيصاء السلطان على الإسبان، الواردين على المراسى المغربية بالإحسان، ثم أخبرهم بأن لقاء الملك يكون من الغد.
وفى الغد أتاهم الوزير بكدش يركبه الملك، وأخبرهم أنه يريد رؤيتهم،
فركبوا إليه والتقى بهم عند الباب خلق كثير من رجال الحكومة وسفراء سائر الدول وغيرهم من الخاصة والعامة مسلمين بعكس الرءوس ونزع غطاءها، ولما دخلوا على الملك وجدوه قائما وعن يمينه الراهب الملازم له وعن يساره أربعة من الوزراء، فلما دنوا نزع ما على رأسه وطأطأه شيئا ما، وبعد السلام هناهم بالسلامة وسألهم عن تعب الطريق وعما لقوا في المدن التي مروا عليها، فأجابه الغزال بما يناسب، وأنهم لقوا في المدن المبرة والإكرام، وأن الكتب بذلك سارت للسلطان، وتحققت عنده محبتكم ثم أخذ يسألهم عن السلطان، وكما ذكره نزع ما على رأسه فأجابه إنه بخير، وإنك عنده بمنزلة لم تكن لغيرك من الملوك المصالحين مراعاة لما صدر منكم في قضية الأسارى.
وكان لا يزال واقفا وقد طال وقوفه بما يزيد على ربع ساعة فاستأذنه الغزال بواسطة الترجمان في الانصراف إشفاقا عليه من طول الوقوف طالبا منه المسامحة على ما يحصل له من التعب الناشئ عن اقتباله لهم الموجب لوقوفه، ذاكرًا أن نفوس الولاة ليست كنفوس الناس، فانشرح لهذا الخطاب وجعل يضحك وينظر للأعيان الحاضرين متعجبا وشكره على كلامه، ثم طلب منه الإذن لوزيره في المفاوضة معهم في أمور منها ما أمرهم به السلطان، ومنها ما اقتضاه الحال، فأجابه إلى ذلك، وأمر وزيره بتعاهدهم ومباشرة أمورهم، وفوض له في ذلك، ثم انصرفوا عنه وقد أوصى أعيان دولته بكثرة التردد على السفارة صباح مساء، وكتب السفراء لدولهم يصفون حالة هذا الاقتبال الذى بهتوا له ولم يحصل لأحد مثله.
ومن الغد ذهبوا للسلام على الأمراء أولاد الملك الأربعة وأختهم بأمر من الملك، حيث طلبوا منه ذلك، ثم ساروا إلى أخ الملك لزيارته فتلقاهم بالرحب والسعة وأراهم بعض النفائس التي عنده، ثم انصرفوا من عنده، وفى آخر اليوم استدعاهم الملك لزيارة حدائق قصره ومشاهدة ما أعد فيه مما صنعه المهندسون في جريان المياه على صفة غريبة، وكانوا ينتزهون بتلك الحدائق كثيرا بأمر الملك، كلما ذهبوا إليها تلقاهم أخوه وأولاده وبنته بالبشاشة والترحيب، كما أمر أن يروا معمل الزجاج والبلور.
ثم جاء للسفارة إعلام بلقاء الملك خارج المدينة صحبة الهدية السلطانية، فلما كان الوقت صارت للمحل فوجدت القوم قد اصطفوا هناك وتلقاها الوزراء الأربعة، ثم لم تلبث إلا والملك مقبل هو وأخوه في كدش تتبعه أكداش أخرى حاملة أولاده، فنزل من كدشية وأخذ بيد الغزال وهش وبش، وقال: إن هذا اليوم عنده أعظم عيد، وقدم إليهم اثنين من أولاده الصغار فنزعا قبعتهما وأعلنا بالدعاء للسلطان وبالحياة للسفير، فضمهما الغزال إليه فرحا بهما، ثم قدمت إليه الخيل
فجعل يمسح على كفل كل فرس ثم يستره بجلاله ويقبله بين عينيه، وقال إن هذه الخيل أريد أن تنسل منها خيلا حرائر، وكلذلك الجمال سر بها سرورا عظيما.
ولما حان الانصراف أمر بإحضار الكدش الذى يركبه الغزال، فقدم إليه ثم أراد من الغزال أن يركبه قبل ركوبه هو زيادة في الاعتناء والإكبار، فامتنع الغزال من ذلك فحتم عليه، ففعل بمرأى من جماعة سفراء الدول الذين كتبوا بذلك لدولهم.
ثم أراد الملك أن يبعثهم لمدريد لأن هواء المدينة لم يوافقهم ومنها يكون انصرافهم بعد صحبة سفيره الذى يريد إرساله للسلطان مع هديته، فأرسل وزيره إليهم يخبرهم بذلك، ولكن الغزال ذكر لهم أن السفارة مأمورة بالذهاب لقرطجنة لملاقاة الأسرى والنظر في شئونهم وتفريق المال عليهم، وكذلك ستذهب لغرناطة ومالقة وقالص لاستصحاب العالم الأسير بها، وفى مدة ذلك يتمون هم أغراضهم وأعلن مع ذلك استعداده لقبول رأيهم فوقع العمل برأيه.
ثم أخذ يكلم الوزير في المطلب التي جاء بها، منها تسريح الأسارى الطاعنين في السن والبصراء والمصابين بفقد بعض أعضائهم ومن في معناهم من أى بلاد كانوا ثم ما قد تجده السفارة من أسارى المغرب عند استعراض جميعهم واستيعاب أسمائهم وألقابهم، ثم إطلاق رجلين من الجزائر أحدهما طالب علم وهو الفقيه السيد مصطفى بن على البابادغى، والآخر ذو مروة.
وقد كتب للسلطان طالبا منه إنقاذه من الأسر، ثم أمور اشتكى منها الكثير من الأسارى، منها أنه إذا مات أحدهم يتولى دفنه إخوانه ومتروكه لهم وألا يولى عليهم أحد من المتنصرة حال الخدمة لأنهم أضر عليهم من مطلق النصارى، وأن لا يمنعوا من كتب رسائلهم بالعربية، وأن يرفق بهم في الخدمة ولا يكلفون ما لا
يطيقون، وأن يعالج مريضهم بالمستشفى كغيره، وأن لا يلزموا بالعمل وقت صلاتهم، وأن لا يهملوا فيما لابد منه من الكسوة والمأكول.
وذكر للوزير أن هذه الأمور لا تكبر على الملك، ولا يأمر بخلافها ولكن المكلفون بهم يجحفون بها ويؤذونهم، فوافق الوزير على جميع ذلك وأمضى عليه بعد إعلام ملكه به، وفى الحال أمر لجميعهم بالكسوة وأوصى بالرفق بهم.
وسأل الوزير نيابة عن ملكه هل لكم من حاجة أخرى نفور بقضائها، فشكروه على تحقيق أملهم في شأن الأسرى وأنهم لم يبق لهم إلا ما وعد به الملك على لسان الراهب الملازم له من كتب الإسلام، وتمييز حملة القرآن من الأسرى بعلامة يعرفون بها.
ثم ذهبوا لمدينة (شغوبية) لرؤية الرؤساء الأربعة عشر الأسرى المسجونين بها إجابة لطلبهم، فأنسوا غربتهم وواعدهم خيرا، وبقوا معهم، من الصباح للعصر، وأحضر الغزال المكلف بهم وأوصى بهم وواعده بقضاء غرض له عند الوزير في مقابلة ذلك، ولما أرادوا الرجوع لـ (الاكرانخة) وجدوا بباب مدينة (شغوبية) تمرينا على الرمى بالمدافع أقيم لهم هناك، وبعد أربعة أيام من ذلك خرجوا من (الاكرانخة) للاسكوريال بعد الوداع، ومنها لمدريد.
وفى أثناء الطريق التقوا بالأسارى فأنسوهم وواعدوهم، ودفعوا لهم الصلة السلطانية الجارية عليهم عادة كل سنة، ووجدوا الكثير منهم مثقلا بالسلاسل لتكرار فرارهم، فكتب الغزال للملك متشفعا في إزالة قيودهم وراغبا في إطلاق رجل أعماه البارود فأجابه إلى ذلك، وكان عدد أولئك الأسرى العاملين في الطريق التي بين المدينتين مائتى أسير وأربعة، وكانوا ثلاثمائة فر بعضهم ومات الآخر، وجلهم من الجزائر وبعضهم أتراك ولما دخلوا مدريد توجهوا للمستشفى لزيارة بعض الأسرى المرضى المعالجين به وإعطائهم صلتهم وإيصاء كبير المستشفى
عليهم بزيارة الاعتناء بهم، ومكثوا في هذه المرة ما يقرب من الشهر في انتظار ما وعدوا به من كتب الإسلام التي كانت بمدريد، ثم أضافوا لها كتبا أخرى من غرناطة ثم أخرى بعثت لهم لقالص.
وفى الثامن والعشرين من جمادى الأول بارحوا مدريد إلى (ارخويس) إحدى مصايف الملك، فمكثوا بها يومين، وراروا القصر الملوكى، ثم ساروا إلى طليطلة فزاروا مسجدها الأعظم، وركب الغزال مع الحاكم للطواف على الآثار الإسلامية بها، ومكثوا هناك ثلاثة أيام ثم ساروا متنقلين في القرى والبلاد إلى قرطاجنة، فلما أشرفوا برز للقائهم جماعة من المسلمين رجالا ونساء وصبيانا معلنين بالهيللة ثم يتبعونها بالدعاء للسلطان ولهم ضجة، وكانوا مسرحين وحكمهم حكم الأسير لا يستطيعون الخروج من البلاد إلا بعد أداء ما أوجبوه عليهم وواعدوهم وبشروهم بأداء ما يطلبون به وحملهم لبلادهم، فأخذت نساؤهم في الزغاريت وصبيانهم يرقصون والرجال يشكرون الله ويدعون للسلطان الذى أنقذهم.
وقد خرج للقائهم حاكم المدينة وأمراء البحر وغيرهم ودخلوا على العادة في ازدحام عظيم، ثم بعد ذلك ذهبوا لرؤية الأسرى بحضرة المكلف بهم فتلقوهم بالإعلان بالشهادة والدعاء للسلطان، وأخبروهم بما أتوا لأجله، وجعل الغزال يكتب اسم كل واحد ولقبه والشيوخ الذين يقع الاختلاف في قوتهم طلب الغزال أن يحكم فيهم الأطباء، فأحضروا فكان المسرحون من الشيوخ اثنين وستين نسمة، ومن أهل المغرب أربعين وجدت أسماؤهم مكتوبة على أنهم مغاربة، ثم ألحق بهم عند الاستعراض واحد وعشرون ثبتت مغربيتهم، والمنتسبون الذين لم تثبت نسبتهم أخروا للاستفسار.
ثم بعد ذلك فرقت عليهم الأموال المنعم بها عليهم، ثم أخذت السفارة في مخاطبة الحاكم في الأسرى المرهونين في الأداء فأحضرت رسوم فكاكهم فوجدت صحيحة، فأدت السفارة عنهم الواجب وكان بينهم امرأة لها بنتان وأبوهما لا يزال أسيرا ففدى منه.
ثم أخذ الغزال يبحث عن الأسرى الذين بيد أفراد الناس ليعطيهم صلتهم، فكان من جملتهم بنت من ناحية تلمسان قد بلغت الحلم يملكها جيار منعها من الذهاب للسفارة حتى سمع أن ذلك إنما هو لأخذ الصلة، فلما جاءت أخذت تبكى وتطلب العتق وذكرت أنهم يريدون بيعها ببلدة بعيدة، وأن ربتها تدعوها لدينها، وأنها لا تريد بالإسلام بديلا، فوقع فداؤها بعد توسط الحاكم عند مالكها الذى علق ذلك على مشورة زوجه، وهذه أجابت لذلك بعد المشقة الفادحة، فأضيفت للنساء وأجريت عليها النفقة.
كما وقع إنقاذ أسيرين آخرين، أحدهما كان عند "الضون اسدر كم صلص" التاجر الجميل الأخلاق الذى أنزلت بداره السفارة في إكرام بقرطجنة، وكان يريد أن يفتدى والسفارة لا ترى من المروءة أن تخاطب صاحبه في شأنه وهى في داره موضع إكرامه، فلما بلغه ذلك قدمه هدية وأبى أن يقبل عنه عوضا، فلما أبى الغزال قبوله إلا بعوضه قال: فلتكن المكافأة عند وصولى لبلادك في المسائل التي تعرض لى بالبربرية، والثانى تونسى مسن كان عند ضابط اسمه "سبيكيلطو" قدمه صاحب هدية ورجع مشكورا.
وقد حمل الأسرى من قرطجنة لقالص في مركب حربى أعد لهم حيث يذهبون مع السفارة من هناك، وذهب أصحاب النساء والأولاد في مركب اكترى لهم بمائتى ريال وخمسين ريالاً خشية حدوث ما لا يحمد من الجنود.
وبعد ذلك ذهبت السفارة لزيارة مرسى المدينة ورؤية معاملها البحرية، ثم غادرتها إلى لروقة، ثم سارت في طريقها إلى غرناطة إلى أن بلغت قالص، فخرج القوم للقائها يتقدمهم السفير الإسبانى الذى سيرافقها للمغرب، والتقت بداخل المدينة بمن فك من الأسرى القادمين من قرطجنة، وقد انضم إليه من ورد من "برطونة" و"الكراكة" فصارت جملتهم ثلاثمائة إلا عشرة، وبعد انتظار هدية الملك التي يذهب بها سفيره، أبحر الجميع إلى تطوان فوصلوها بعد أربع وعشرين ساعة.
وقد ضمن الغزال أخبار هذه الرحلة كتابه (نتيجة الاجتهاد، في المهادنة والجهاد) وصف فيه المدن التي مر عليها، والقصور والمشاهد التي رآها وبقية آثار الإسلام التي هناك امتثالا للأمر المولوى.
وفى سنة 1182 كتب ملك الإسبان للسلطان يطلب توسطه بين صاحب الجزائر وبينه في شأن مبادلة أسرى الفريقين، فكاتب المترجم والى الجزائر يعرض عليه المفاداة فامتنع، فكرر الكتب إليه ثانيا وثالثا في الحض على فكاك أسرى المسلمين فأجاب لذلك بعد الوعظ والتحذير، فكتب المترجم حينئذ للملك أن تبعث أولئك الأسرى في مركب للجزائر وينتظر هناك وصول السفير الذى سيرسله من قبله ليتولى المفاداة بنفسه، وكان هذا السفير هو الغزال مع صاحبيه، فلما وصلوا للجزائر أرسى مركب الإسبان بظاهر مرساها، وأنزل من فيه من الأسرى، فأخرج أهل الجزائر مثل عدهم من الإسبان وانقلب الغزال راجعا إلى الحضرة السلطانية.
وذكر الكاتب ابن عثمان في آخر رحلته إحراز المعلى والرقيب أنه لما قدم من سفارته للمغرب سنة 1202 أمره المترجم بالورود عليه لمخيمه بالحياينة قال: فتلاقينا معه أدام الله تعالى عزه فبقينا مخيمين هناك ثلاثة أيام، وقد كان ورد عليه
جمع من أسارى المسلمين بعثهم إليه عظيم الإصبنيول على سبيل الإهداء والإكرام لكونه لما عمل الصلح مع أهل الجزائر ووقع فداء الأسرى بينهما من الجانبين على ما تقتضيه قوانين الصلح امتنع أمير الجزائر من إعطاء المال في هؤلاء الأسارى كما فعل النصارى في إخوانهم، ولم يقبل أن يفديهم بالنصارى، بل قبض المال في أسارى الإصبنيول الذين عنده، ولم يرد بهم بدلا بأسير مسلم، وأهمل هؤلاء المسلمين وأبقاهم بأيدى الكافرين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فلما سمع ذلك عظيم الإصبنيول اغتاظ من ذلك وأعطاه ما أراد من المال في النصارى إخوانه، وجمع هؤلاء الأسرى من المسلمين وبعثهم مجانا إلى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين على سبيل الإهداء والإكرام لما يعلم من حرصه أيده الله تعالى على إنقاذ المسلمين، وأن هدية الأسارى عنده لا يعادلها شئ من هدايا الدنيا وقد كان عند هذا الجنس من الأسارى الآلاف فأنفذهم جميعا لسيدنا أدام الله علاه، وأبقاه وتولاه، منذ عمل معه الصلح، وهو أيده الله في كل حين يخرج منهم حصة، فكان آخر من بقى من المسلمين بأيدى الأصبنيول هذه الجماعة.
ثم ذكر أن المترجم كلفه بإيصالهم إلى بلادهم ناظرا إليهم في ركوبهم وأكلهم وشربهم حتى يوصلهم لتلمسان ويدفعهم إلى عاملها ويفرق عليهم الصلة هناك عشرة مثاقيل لكل واحد، ففعل ما أمر به وتوجه بهم إلى تلمسان وقضى الغرض.
وقد ذكر ابن عثمان في الرحلة المذكورة أنه رحل لبلاد الأندلس عام 1193 كما أشار في رحلته البدر السافر إلى ذلك وإلى سابق معرفته بملكها كارلوس الثالث، وإلى وصفه لمدينة قادس في رحلته المسماة (بالإكسير، في فكاك الأسير) وغير ذلك مما يفيد أنه تولى السفارة للمترجم إلى إسبانيا وقد صرح بذلك أخيرا وذكر أنه عقد معها معاهدة صلح من شروطها عقد صلح مع ملك نابولى الذى هو