الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفوسهم بمنحة وكتب لهم كتابا لأبيه يستعطفه لهم، وانقلبوا من عنده مسرورين، فلما قدموا على أبيه سامحهم وأعطاهم وتم الصلح بينه وبينهم.
وفى السنة وجه المترجم لأبيه بهدية فأثنى عليه ودعا له بخير.
وفى سنة 1169 توجه لتمهيد سوس فدوخها وجبى أموالها، وولى عليها وقرر الحامية بتارودانت.
وفى سنة 1170 توجه للقبض على الطالب صالح المستولى على آكدير، المستبد بمال مرساه، فقبض عليه وسجنه ورتب الحامية بآكادير، ورجع لمراكش منصورًا، فمكث فيه قليلا ثم خرج لإصلاح ما فسد من أمر قبائل الشاوية، فقتل. منهم ووجه المقبوضين بالسلاسل لمراكش.
ثم توجه للرباط فأضافه أهلها وأهدوا له، وأغلق عبد الحق فنيش صاحب سلا أبواب المدينة في وجهه فقطع الوادى وتنكب سلا، وسار إلى القصر فتطوان وأشرف على سبتة، ثم ذهب لطنجة فالعرايش فسلا، حيث لقى من قائدها ثانيا ما لقى أولا ثم رجع لمراكش.
بيعته، وبعض حوادث أيامه:
ويعد وفاة والده رحمه الله بويع له البيعة العامة بفاس إثر الفراغ من دفن والده يوم الاثنين خامس عشرى صفر عام واحد وسبعين ومائة وألف باتفاق أهل الحل والعقد، وكان يومئذ ابن ثمان وثلاثين سنة، وإلى سنة ولايته وبيعته أشار القاضى أبو عبد الله الهوارى بقوله:
وبايع أهل الغرب في عام واحد
…
وسبعين مولانا الإمام محمدا
قال نجله المولى عبد السلام في كتابه درة السلوك. وريحانة العلماء والملوك: "وحضر بيعته جماعة من أعيان العلماء مثل قاضى الجماعة بمكناس السيد سعيد العميرى، وقاضى الجماعة بفاس السيد عبد القادر بو خريص، وشيخ الجماعة السيد محمد جسوس، والإمام المحقق صاحب المعقول والمنقول أبى حفص شيخنا سيدى عمر الفاسى، وابن عمه السيد أبى مدين الفاسى وهو الذى تولى كتابة البيعة بيده، وإمام مسجد الشرفاء الأستاذ مولاى عبد الرحمن المنجرة، وشيخنا العلامة السيد التاودى ابن سودة، وإمام المسجد الجامع الكبير بفاس الجديد السيد عبد الله السوسى، والإمام المحدث سيدى إدريس العراقى وغيرهم ممن لا يحصون كثرة" صح منه مباشرة وهو من ذخائر مكتبتنا.
ومن الغد الذى هو يوم الثلاثاء خرج الوفد الفاسى متأبطا للبيعة المحمدية، ووجهته عاصمة الجنوب حيث المترجم ينتظم ذلك الوفد من أعيان الأشراف والعلماء ووجهاء أهل البلد ورءوس القبائل والأجناد، وصار إلى أن لحق بالمترجم بنواحى مراكش يؤم الناحية الغربية، فأكرم مثواه ونزله وغمره في بحار إنعاماته الضافية، وبعد انتهاء أيام الضيافة انقلب إلى وطنه مبتهجا. وبطيب الثناء لاهجا.
وبويع له بمراكش بجامع الكتبيين. قال الضعيف: تحت شجرة أرنج بصحن المسجد بمحضر الأشراف والعلماء والأعيان وقواد الجند وأبطال القبائل، وبعد انتهاء البيعة تهافت الجميع على تقبيل راحتيه وتقديم مراسم التعزية في والده والتهنئة بالسلطنة، فقابل الجميع بصدر رحب، وواسى الضعفاء والمساكين، ووصل الأشراف والعلماء وبذل في ذلك أموالا طائلة.
ثم صارت وفود القبائل الحوزية والديرية والسوسية تفد ببيعاتها على جلالته وتقدم الهدايا اللائقة بسدته، واقتفى أثرهم على ذلك أهل الثغور والجبال والقرى
والأمصار، ولم يتخلف أحد من أهل المغرب الأقصى عن تقديم الطاعة لجلالته ولا نازع فيها، وهو يستقبل كلا بما يليق بمقامه ويهش ويبش ويحسن ويتبرع.
ولما فرغ من أمر الوفود نهض من مراكش أواخر ربيع المذكور، وفى أواخر ربيع الثانى حل برباط الفتح، فاستقبله أهل العدوتين بغاية الارتياح والانشراح، ووصل الشرفاء والعلماء وحملة القرآن والضعفاء، وزار القصبة فحيته مدافع أبراج العدوتين، وزار معمل صنع السفن، وركب سفينة قبل عومها وصار ينثر الدراهم من فوقها على المحدقين بها، وهم على اختلاف طبقاتهم يلتقطون ما ينثره عليهم.
ثم بعد ذلك نهض إلى عاصمة جده المكناسية فدخل دار الملك وفرق الراتب على العبيد ووصل الأشراف والفقهاء والطلبة، ولما اتصل بأهل فاس خبر حلول جنابه بها توجه جم غفير منهم لاستقباله فيها، وذلك في سابع ربيع الثانى من العام، فقابلهم بكل اعتناء واعتبار، وأنزلهم منزلة التجلة والإكرام، وأقاموا في ضيافته أيام ثم وصلهم وأذن لهم في الأوبة.
وفى سابع عشرى ربيع المذكور حل بالعاصمة الفاسية حلول إعزاز وإعظام، فخرج لاستقباله جميع طبقات أهل فاس، وكذا الودايا، وخيمت عساكره وجنوده بالصفصافة، ودخل هو لدار الإمارة وعزى إخوته وأخواته ووعدهم خيرًا، ثم رجع لمحلته فبات بها.
ومن الغد توجه لدار دبيبغ محل سكنى والده الخاص، فأحصى متخلفه من أثاث وفرش وخيل وسروج وسلاح ومال.
ولما أحاط علما بمقادير ذلك كله ترك الكل تحت يد من كان مكلفا به على عهد والده، وكان المكلف بالأموال الوصيف القائد علال بن مسعود وغيره مما ذكر على يد غيره والكل إلى نظر الحاجب القائد عبد الوهاب اليمورى، وكان أكثر ما خلف من المال ذهبا وإليك تفاصيل ذلك:
ألف سماط من الجلد الفيلالى تحمل على السروج بأقفالها في كل واحد ألفا دينار من سكة ضربه، أعدها للحمل على الخيل في السفر، فإذا نزل بالمحلة يدفعها المكلفون بها لمن يوصلها لخباء المترجم لتوضع فيه، وعلى هذا يستمر العمل في كل يوم ظعن وإقامة مدة السفر، ولا تسلم إلا لمن عينه السلطان من أهل الصدق والأمانة لديه.
ومائة رحى من الذهب كقرص الشمع كل رحى فيها وزن أربعة آلاف دينار تكون على البغال أربعة في الشوارى مغطاة بالخنابل مضروب عليها بالحبال تسير أمامه، فإذا وصل محل الإقامة توضع بالقبة على نحو ما ذكرنا.
وثلاثمائة ألف ريال إلا خمسة عشر ألفا، ونحو عشرين ألفا من الموزونات الرقيقة من ضربه، وهذا غير ما في بيوت الأموال من سائر العواصم المغربية.
قلت: ولم يزل العمل جاريا في حمل عدد من البغال أموالا تسير مع الملك في سائر أسفاره يسمون ذلك بـ (الصائم) إلى أن ختمت أنفاس الدولة العزيزية، وذلك من الحزم والحذر والاستعداد لمفاجأة الطوارئ.
ثم تفقد المترجم الأحوال، وأحصى بيوت الأموال، وأحسن لخدمة أبيه.
ولما كان يوم الجمعة ملأت عساكره البسائط، وحضر جميع أهل البلد للصلاة معه فاختلط بهم، وأقبلوا يقبلون أثوابه ويتمسحون بها وهو يهش ويبش في وجوههم، ثم جلس مع العلماء وحادثهم وسأل عنهم واحدًا بعد واحد حتى عرف جميعهم، وبعد أداء فريضة الجمعة توجه في موكبه لزيارة ضريح والده المقدس، ووزع الصدقات على الفقراء والمساكين ورتب الطلبة الذين يقرءون القرآن في كل صباح وعشى بذلك الضريح، ثم دخل دار الإمارة، ويعد ذلك أمر حمل مال والده ومتخلفه إلى محلته ودفعه لمن عينه لذلك من خدامه.
وأقر أهل الوظائف الذين كانوا على عهد أبيه على وظائفهم إلا ما كان من قائد تطاوين الوقاش، فإنه ولى مكانه كاتبه عبد الكريم بن زاكور الذى كان بعثه عاملا على العرائش.
وأحدث وظيفا على الأبواب والغلات والسلع بفاس وسائر أمصار المغرب، بعد أن استفتى علماء وقته فأفتوه بأنه إذا لم يكن للسلطان مال جاز أن يقبض من الرعية ما يستخدم به الجند، وكتبوا له ذلك تأليفا، منهم: الشيخ التاودى ابن سودة، وأبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس، وأبو حفص الفاسى، وأبو محمد عبد القادر بو خريص، وأبو زيد المنجرة، وأبو عبد الله محمد بن عبد الصادق الدكالى الفرجى لا الطرابلسى.
وما في الاستقصا من أنه الطرابلسى سبق قلم إذ الطرابلسى اسمه على، وهو شارح المرشد المعين، وقد باع وظيف فاس عن سنة واحدة لعاملها الحاج محمد الصفار باثنى عشر ألف مثقال، ثم باعه إياه في سنة أخرى باثنين وعشرين ألف مثقال، فكان في كل عام يزيد فيها إلى أن مات، وولى مكانه ولده العربى فزاد على ما كان أيام أبيه.
وكانت مدة مقامه بفاس شهرين على ما في الترجمان المعرب، والذى في تاريخ الضعيف أن خروجه من فاس كان يوم الاثنين الحادى عشر من جمادى الثانية، وعليه فيكون مقامه بفاس نحو شهر ونصف.
ولما حل بمكناس أقام به أياما لتأسيس أمور الخلافة العامة، ثم بعد ذلك بدا لجلالته النهوض لتفقد الأحوال وترتيب الشئون وإخماد نيران الفتن التي قام بإضرامها المدعو العربى أبو الصخور الخمسى، وقد كان له صيت بناحية غمارة يقول لمن يعتقده ويلتف حوله من البله طائشى الأحلام: إن هذا السلطان -يعنى المترجم- لا يطول ملكه، وقامت بسبب ذلك ضجة وهول بتلك الناحية، وكاد
الفساد أن يعم ما حولها، فقتله المترجم ووجه برأسه لفاس، وولى على تلك القبائل الباشا العياشى وأنزله بشفشاون.
ثم ولى وجهه نحو تطاوين، ولما حل بها وتفقد شئونها أمر ببناء البرج بها والدار على مرسى مرتيل.
وتوجه لسبتة فوقف عليها وشاهد حصانتها ومنعتها، فتيقن أن لا مطمع في قصدها.
ثم صار لطنجة فاستقبله القائد عبد الصادق بن أحمد الريفى في القبائل الريفية فجاملهم وقابلهم أحسن قبول، ووصلهم وكساهم وأمر ابن عبد الصادق المذكور بالقيام على ساق في بناء ما ذكر بمرتيل، فأجاب بالسمع والطاعة، ووجه من حينه أخاه عبد الهادى للوقوف على ذلك.
ثم توجه صاحب الترجمة للعرائش وتفقد أحوالها، فوجدها خالية ليس بها إلا نحو مائتين من أهل الريف تحت كنف قواد الغرب الحبيب والسفيانى، فوجه لها أدالة منتظمة من عبيد مكناسة، وعبيد المهدية، ورأس عليهم عبد السلام بن على وعدى ووصل المائتين من الريفيين وسلحهم وكساهم.
ثم توجه لسلا فنزل بظاهر الرباط، وأمر عبد الحق فنيش قائد سلا ببناء صقالة (1) بسلا على البحر، وأمر على مرسيل ببناء صقالة الرباط، وولى على أهل الرباط الرئيس العربى المستيرى وأمر بإنشاء مركبين واحد بسلا وواحد بالرباط.
وكان عندهم مركب كبير أنشأه أهل العدوتين مشتركا بينهما أيام الفترة، ووجه لتجار النصارى الذين بآسفى أن يأتوا إليه بكل ما تتوقف عليه المراكب من مجاديف ومخاطيف وقلع وقمن وغير ذلك.
(1) في هامش المطبوع: "برج كبير".
ثم توجه لعاصمة الجنوب مراكش، وكان وصوله إليها في أواخر المحرم فاتح عام اثنين وسبعين ومائتين وألف، ولما علم أهل فاس بحلوله الحضرة المراكشية أوفدوا إليه جماعة من أعيانهم يستعطفونه في الأوبة للعاصمة الفاسية واتخاذها محل استقراره ومقامته، فلاطفهم وقرر لهم أنه لا يمكنه المقام بأرض واحدة، وأنه يلزمه التطوف على سائر إيالته والمكث بكل عاصمة من عواصمه مدة لائقة بها ليتيسر لأهلها ملاقاته ورفع كل ما يهمهم إليه بدون أدنى مشقة تلحقهم، وردهم ردا جميلا.
وورد عليه بنو دراسن متشكين بما لحقهم من أذى جروان، وأنهم أخرجوهم من بلاهم بإعانة من الودايا، فأصدر أوامره لوالى مكناس بإنزالهم بأحواز البلد والسعى في المؤاخاة بينهم وبين آيت يمور ففعل، ولما لم تنته جروان عن إذاية المذكورين طير والى مكناس الحاج على السلوى الإعلام بذلك للمترجم، فأصدر إليه أوامره بنصرة المظلومين وتعزيز جانبهم والخروج في جيش العبيد لكسر صولة جروان، ولما التقى الجمعان بوادى ويسلن كانت الهزيمة على جروان وأشياعهم الودايا فقتل منهم آيت يدراش نحو الخمسمائة، ونهبوا حللهم، وقطعوا رءوس أعيان الودايا وعلقت بباب الجديد من مكناسة إرهابا للبغاة والمتمردين، ولما اتصل الخبر للمترجم اشتد غضبه على الودايا، وأضمر الإيقاع بهم جزاء لهم على سوء فعلهم.
ثم نهض من مراكش ووجهته مكناس، ولما وصل الرباط وجد الرئيس محمد عواد مانطة السلوى، والرئيس محمد عواد المعروف بقنديل، السلوى، والرايس العربى المستيرى الرباطى غنموا سفينة من سفن دولة السويد فأعطى لكل منهم كسوة وسيفا محلى بالذهب وخنجرا كذلك ومكحلة، ووصل من عداهم من البحرية بما أقر أعينهم، ثم سافر القائد العربى المستيرى في الحين فغنم سفينتين إحداهما للبرتقال والأخرى للسويد أيضًا.
وسار المترجم إلى العاصمة المكناسية وأقام بها إلى أن قضى أيام عيد المولد النبوى، ووفدت عليه بها الوفود من فاس والعدوتين ومراكش وما والى ذلك لأداء مراسم التهانى، فغمر الكل بإنعاماته الضافية، وأحسن وبذل، وأمر الحاج محمد الصفار عامل فاس بإصلاح قنطرة سبو، وأعطاه ما ينفقه في سبيل ذلك.
وفى يوم الاثنين ثامن عشر من ربيع الأول نهض لمراكش وفى يوم السبت خامس عشرى ذى القعدة من العام نهبت قافلة بباب الجيسة أحد أبواب فاس، ثم نهبت قافلة أخرى، ثم أغار البربر على سرح أهل فاس.
وفى أواخر ذى القعدة من العامة ورد كتاب من صاحب الترجمة على أهل فاس يعلمهم فيه بمبارحته لمراكش بقصد رتق ما انفتق من أمور الرعية.
وفى عام ثلاثة وسبعين ومائة وألف عزل القاضى أبا فارس عبد العزيز العبدلى لسلوكه في خطته غير الجادة، كما سنوضحه بعد، وكان كلما عزل قاضيا عن مصر ألزمه الخدمة ببابه، والوقوف مع كتابه، ويوجههم مع الشكاة لعمال القبائل كل واحد يتوجه بشكايات قبيلة لعاملها هذه خدمتهم كما قال الزيانى.
وفى صفر عام أربعة وسبعين ومائة وألف نهض من مراكش قاصدًا مكناس، ولما حل به وجه الودايا جماعة من عجائزهم يتشفعن لهم عند جلالته، فلقيهن بسايس وجهته لفاس، ولما مثلن بين يديه بكين وناشدنه الرحم، فرق لهن ووصلهن وأمر بإركابهن إلى أن يصلن لأهلهن.
وسار إلى أن خيم بالصفصافة فخرج لاستقباله أهل فاس على اختلاف طبقاتهم، وكذلك الودايا، فقابلهم بالبشر، ولم يظهر للودايا ما يشعرهم بما يكنه صدره نحوهم، ومن الغد أخرج أهل فاس طعام الضيافة على العادة المألوفة لديهم، فأمر المترجم بتعمير المشور بدار دبيبغ، وأمر بإدخال ذلك الطعام إليها،
وأمر العبيد والودايا بالدخول للإطعام، فلما دخلوا غلقت الأبواب عليهم واستؤصلوا قبضا وأصدر الأمر للعساكر بالغارة على حللهم فلم تغرب شمس ذلك اليوم حتى كانت منازلهم حصيدا كأن لم تغن بالأمس، وأغلق من بقى منهم بفاس الجديد أبواب المدينة، ولما جن الليل فرت شرذمة منهم للاستيجار بزاوية اليوسى والباقي بفاس منهم صعد على الأسوار.
ولما أصبح الصباح صاحوا من فوقها يطلبون الأمان على أنفسهم وأهليهم فأمنهم، ونقلوا أولادهم لفاس القديمة، وأنزل صاحب الترجمة بفاس الجديد ألفا من عبيده نقلهم بأولادهم من مكناسة، وولى عليهم علال بن مسعود، وسرح من الودايا القائد قدور بن الخضر مع أربعة من أهل الصلاح منهم، وأمرهم أن يقيدوا له المفسدين فقيدوا خمسين من أشرار طغاتهم، فأمر بإغلالهم في السلاسل، قرن كل اثنين في سلسلة وأركبهما على جمل ووجه بهم على الصفة المذكورة لسجن مراكش، ليكونوا عبرة لمن يمرون عليه من القبائل.
وأمر قدور بن الخضر بتسريح الباقين، وكانوا أربعمائة ويضيف إليهم ستمائة من بقية إخوانهم ويلزمهم مبارحة فاس، والتوجه لقبائلهم، وقيد ألفا في دفتر وولى عليهم القائد المذكور، ثم أمرهم بالرحيل لمكناسة وعين لهم قصبة الأروى للسكنى، فبنوا بها نوائلهم، ونزل قائدهم بدار صاحب الأروى أيام سيدنا الجد الأكبر أبى النصر إسماعيل، وأعطاهم الخيل وسلحهم وكساهم ولم يلتفت لما كان بأيديهم من المتاع، فصلحت أحوالهم ولم يعودوا بعد لما كانوا عليه من الغى والفساد قبل، ولا زال عقب هؤلاء الودايا إلى اليوم بالأروى المذكور.
ثم ولى المترجم وجهه نحو الأمراء الذين لم يقلعوا عن جورهم وظلمهم وبقوا متمادين على ما كانوا عليه من الاستبداد والعتو زمن الفترة مع والده
وأعمامه، تلك المدد الطويلة التي مثلت لنا أيام ملوك الطوائف في أهول زى، وأحيت ذكراها.
فقبض على قائد أهل الغرب الباشا الحبيب المالكى الحمادى وأودعه مطبقا، وهد داره دار الظلم المظلمة، ونقل أنقاضها للعرائش للبناء بها، واستصفى أمواله ومتمولاته، ومنذ أودع المذكور المطبق ما أكل ولا شرب أنفة من السجن حتى مات.
وفى تاريخ الضعيف: أن سبب القبض عليه هو ارتكابه لأمور مصادمة للشرع، منها: أنه كان متزوجا بثمانية عشر امرأة، وساق القصة على أنها وقعت عام واحد وثمانين، والذى في الترجمان المعرب أنها في سنة أربع وسبعين هذه، وذكرها في الاستقصا من حوادث سنة ثمانين.
ثم أوقع القبض على قائد سلا عبد الحق بن عبد العزيز فنيش الذى كان أغلق بابه دونه أيام خلافته عن أبيه لما ورد على العدوتين مرتين، ورغما عن ذلك لم يعاتبه ولا شافهه بمكروه لما ولى الخلافة العظمى، حتى تفاحش ظلمه واستبداده، وأدى به الحال إلى قتل رجل من أعيان أهل سلا على وجه التعدى والجور.
ورفع أولياؤه الشكاية بذلك لصاحب الترجمة فأذن في قتله قصاصا، فقتل وحيزت أمواله لبيت المال كما حيزت أموال إخوانه الذين كانوا أنصارًا له وأعوانا على الظلم والتعدى وأكل أموال الناس بالباطل، ثم غربوا إلى العرائش، وسجنوا لها مدة، ثم عفى عنهم، فسرحوا وفرقوا على ثغور السواحل بعضهم بالرباط وطنجة، والبعض بالصويرة، وآخرون بمراكش ومنحهم الدور المعتبرة والرباع المستغلة، ورتب لهم الرواتب الكافية، ونالوا من العزة والجاه في دولته المحمدية ما لم ينله أحد من سلفهم، وكانوا رؤساء على أصحاب المدافع وعلى يديهم آلة
الحرب جميعها في جميع الثغور، ومنهم القائد الطاهر فنيش الذى كما كبير الطبجية.
ثم عزل ولد المجاطية قائد تامسنا، أبا عبد الله محمد بن حدو الدكالى الذى كان ولاه على دكالة لما ألقى القبض على العامل العروسى وأودعه السجن مدة أعوام، ولما سرحه ولاه مدينة شفشاون وأعمالها.
وأرهف حده للعمال، المشتغلين بجمع الأموال، فصلحت أحوال الرعايا والجند بتولية المناصب أهل الكفاءة، ثم بعد ذلك رجع لمراكش.
وفى هذه السنة أتت الهدايا للمترجم من ملوك أوربا ودوخت سفنه البحار، وأسر عددا من النصارى، وغنم غنائم كثيرة تتبعها الضعيف في تاريخه.
وفى السنة نفسها ساعد على وسق الصوف من مرسى آسفى لأوربا.
وفيها كان اهتمامه ببناء مرسى فضالة.
وفى أواخره فتح المخابرة مع الدول فوجه الخياط عديل الفاسى، والطاهر بنانى الرباطى سفيرين إلى القسطنطينية في وفد من أعيان المغرب لربط علائق المودة مع الدولة العثمانية، وقدم هدية لها من نفائس المغرب.
فأدى الوفد السفارة وأحسن الوساطة ورجع مع وفد العثماني بهدية اشتملت على مدافع وآلة حرب وأدوات مراكب وضروب سلاح، فسر السلطان بذلك ورد وفد العثمانيين مغمورًا بكرمه المعهود على ما سنفصله بعد بحول الله في باب العلائق السياسية.
وفى سنة خمس وسبعين ومائة وألف عفا المترجم عن القائد محمد بن على العروسي بعد أن مكث في سجنه نحو تسعة أعوام وولاه عمالة أصيلة فبقى بها مدة ثم ولاه عمالة المهدية.
وفى عام ستة وسبعين ومائة وألف فتك بمتمردة مسفيوة، وقتل منهم نحو أربعمائة، وكان من جملة القتلى القائد إبراهيم ولد الباشا بلا وعلى صهر عم المترجم المولى بناصر.
وفى منتصف رمضان العام نهض لتادلا وأوقع بآيت يمور، وأغار في طريقه على أشقيرن، وقتل وسبى ومهد البلاد، وحسم جرثومة الفساد، وتوجه للشاوية، وألقى القبض على كثير منهم ووجههم بالسلاسل لمراكش جزاء على ما أجرموا من العيث في السابلة.
وفى خامس ذى الحجة قدم من عاصمة الجنوب مراكش إلى العاصمة المكناسية، وأقام بها يومين، ثم نهض للعاصمة الفاسية لإخماد نيران ما أججه الحياينة من الفتن.
وفى يوم الثلاثاء الرابع عشر من المحرم عام سبعة وسبعين ومائة وألف نهض من فاس في جيوش جرارة إلى جبل مرموشة وآيت يوسى الذين سعوا في الأرض الفساد، فأوقع بهم وكسر شوكة تمردهم، ثم تقدم للحيانية فنهب أموالهم وفروا لجبل غياثة فاقتفى أثرهم على طريق تازا، إلى أن لحقت بهم العساكر إلى الجبل المذكور وأوقعت بهم وقعة عظيمة اضطرتهم للرضوخ للطاعة وهم صاغرون، فطلبوا العفو والأمان، فعفا عنهم وأمنهم من القتل، ثم انقلب لبلدهم فنسفها نسفا وذلك يوم الخميس سادس ربيع الأول.
وفى يوم الاثنين ثامن ربيع الثانى رجع لفاس مؤيدا منصورا، ونزل بدار دبيبغ، واستخلف بفاس ابن عمه أبا العلاء إدريس بن المنتصر وأعطاه القبائل الجبلية، وفى أواسط ربيع الثانى أمر ببناء قبة ضريح أبى الحسن على بن حرزهم.
وفى صبيحة يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى نهض لمكناسة الزيتون، وفى غده الذى هو يوم الخميس أصدر أوامره بتزليج منار أبى العلاء إدريس الأزهر بانى
فاس رضى الله عنه، وألقى القبض على أولاد عديل وأودعهم السجن في مال لأبيه وله عليهم كانوا استسلفوه.
وفى يوم الاثنين تاسع رمضان نهض من مكناسة ووجهته مراكش، ولما حل بها قدم عليه أعيان مسفيوة بمائة وخمسين فارسا فقتلهم كلهم واستأصل أموالهم، إذ كانوا بلغوا الغاية القصوى في التمرد والبغى من عهد أبيه ولم يقلعوا عن ذلك، وقد طال ما عالج داءهم وهو خليفة فلم ينفع فيه ترياق، انظر الترجمان المعرب.
ثم نهض من مراكش لمكناس فأغار في طريقه على آيت سيبر من زمور، فنهب حللهم وماشيتهم ومزقهم كل ممزق.
ولما حل بمكناس أصدر أوامره للقبائل بدفع المرتب بذممهم من الزكوات والأعشار أحواز فاس يدفعون للمكلفين بخزائنها، وأحواز مكناس يدفعون للمكلفين بخزائنها كذلك ثم نهض لفاس.
وفى العام ثار أحمد الخضر بالصحراء وأوقد نيران الفتن بها، فوجه المترجم لعرب تلك الناحية في شأنه فقتلوه ووجهوا له برأسه، وفيه بعث من الرباط الرئيس الحاج التهامى المدور سفيرًا لبلاد السويد، والرئيس العربى المستيرى سفيرا لبلاد الإنجليز على ما يأتى في بابه.
وفى عام ثمانية وسبعين ومائة وألف كان أسطول المترجم يتردد بين أكناف البحار ويجوس خلال الثغور الأجنبية فيقتنص مراكب الأجناس الأجانب إذ كانت المهادنة غير مقررة تماما، وكان من جملة ما غنم الأسطول المغربى أسطولا فرنسيا، ثم ورد مركب فرنسى على مرسى سلا والرباط وأطلق عليهما قنابله وذلك يوم الجمعة حادى عشر ذى الحجة، فخرج أهل الثغرين لظاهر البلد والأجنة بأولادهم
وضربوا الأخبية، وحصن الرئيس سالم المراكب السلطانية التي كانت تريد السفر للخارج أمام منار حسان واستمر الأمر على ذلك ثلاثة أيام، ولما لم يحصل الأسطول الفرنسى على طائل أقلع ورجع من حيث أتى.
وفيه أسس صاحب الترجمة ثغر الصويرة، فتوجه لذلك بنفسه بعد فراغه من عرس ابنه مولاى على وأخته، حتى اختطها على الهيئة التي يريد، وترك العملة بها على ما يأتى إن شاء الله في آثاره.
وفى العام أوقع ببرابر مرموشة بملوية، وفى صبيحة يوم عيد النحر وقع بمراكش حريق هائل هلكت فيه الأنفس والمتاع، وخربت الدور ولم يستطع أهل البلد حيلة لإطفائه ولا اهتدوا سبيلا، امتدت تلك النيران الموقدة من جامع الفناء إلى خارج باب الخميس أحد أبواب المدينة المذكورة، وكان المتسببون في ذلك المتعاطون لشرب الدخان من أصحاب القائد حسابن، ولذلك عاقبه المترجم بالسجن والعزل، وولى مكانه ولد ابن ساسى المراكشى.
وفى عام تسعة وسبعين ومائة وألف هجم أسطول فرنسى على العرائش فخربها وهدم مسجدها ودورها بما ألقى عليها من المقذوفات المدمرة، وفى اليوم الثانى من هجومه نزل من عساكر أسطوله ألف واقتحموا الوادى في خمسة عشر قاربا، وكانت للمراكب المغربية رياسة هناك فحرقوا السفينة التي غنمت منهم وكسروا أخرى كانت بجانبها ثم رجعوا فوجدوا القائد الحبيب الحمادى المالكى الغرباوى قطع خط الرجعة عليهم وأخذ بمخنقهم على فم الوادى، فأسر منهم أحدهما عشر قاربا بما فيها، ونجا أربعة وأرسل من أسر منهم إلى المترجم لعاصمة الجنوب مراكش الحمراء، ولم يزالوا عنده إلى أن فدتهم دولتهم ووقع الصلح في السنة بعدها، وهى معاهدة عام ثمانين ومائة وألف الموافقة ثامن وعشرى ماى سنة سبع وستين وسبعمائة وألف وستذكر نصوصها.
قال أبو محمد عبد السلام نجل صاحب الترجمة في درة السلوك: وبعد هذه الواقعة احتفل طاغية الإصبان والفرنصيص بهدايا لم يعهد مثلها -وسيأتى ذكرها في بابه- وقدمت رسلهم لمراكش لطلب الصلح والمهادنة.
وفيها توجه الكاتب السيد أحمد الغزال الفاسى سفيرًا لبلاد الإصبان، والرئيس على مرسيل الرباطى سفيرا لفرنسا، والفقيهان الطاهر بنانى الرباطى والطاهر بن عبد السلام السلوى سفيرين للسلطان مصطفى العثمانى على ما يأتى من التفصيل والبيان.
وفيها خرج السلطان لقبائل الريف، ومر على تطوان وغمارة، فدوخ تلك القبائل إلى كبدانة، ورجع على طريق تازا.
وفى هذه السنة عقد المترجم لنجله أبى الحسن على على ولاية المغرب ووجهه لفاس الجديد.
وفى عام ثمانين ومائة وألف حل المترجم بمكناس، وألقى القبض به على عبد الصادق الريفى، ومائة من أهل الريف، وأودعهم سجون مكناسة، ونهض لطنجة فاستولى على أموال عبد الصادق المذكور وسائر أمتعته، وغرب أهل عصبيته من طنجة إلى المهدية، وكان عددهم ألفا وخمسمائة، وولى عليهم محمد ابن عبد الملك، وأنزل بطنجة من العبيد ألفا وخمسمائة.
وفى هذه السنة بعث السلطان المترجم الرئيس عبد الكريم راغون التطوانى سفيرًا للسلطان مصطفى العثماني بهدية تقابل الهدية الحربية التي كافأ بها سفارة بنانى وابن عبد السلام المتقدمة.
وفى عام واحد وثمانين ومائة وألف، كانت وقعة عمر كلخ رجل من أولاد المرابط الشيخ رحال معه ضرب من السحر أضل به الناس، وقال لهم: أدخلكم
لبيت المال تأخذون ما فيه، واختلق كرامات استهوى بها بعض الحمقى والمغفلين وكثير ما هم، ومن أجل ذلك اجتمع عليه عدد عديد منهم، ودخل بهم مراكش يريدون القصبة السلطانية فافتتن الناس بذلك.
ولما اتصل الخبر بالمترجم وهو يومئذ ثم وجه إليهم أعوانه، فقبضوا على رأس الفتنة وافترقت جموعه، ولما مثل بين يدى صاحب المترجم أمر بقتله فقتل.
وفى العام ورد عبد الكريم راغون من سفارته لاصطنبول مصحوبا بهدية السلطان مصطفى العثمانى للمترجم، وهى مركب حامل لمدافع ومهاريز وعدة قنابل وغير ذلك مما يأتى ذكره، وكان نزول ذلك بثغر العرايش.
وفيه عقد السلطان مع الدانمرك معاهدة سياسية تجارية سنأتى على نصها.
وفى عام اثنين وثمانين ولى ابن عمه أبا العلا إدريس بن المنتصر عاملا على حاحة، وعقد له على ألفى فارس، وسار إلى أن استوفى منهم الموظف عليهم.
وفيه وجه ولده خليفته أبا الحسن عليا للحج وفى معيته صنوه عبد السلام صغيرا، وزفت معهما أختهما بنت المترجم لسلطان مكة الشريف سرور، وكان في جهازها ما يزيد على مائة ألف دينار من الذهب والجواهر والأحجار الكريمة، ووجه معه هدية للحرمين الشريفين حسبما نفصل ذلك بعد، ووجه معه من وجوه أهل المغرب وأولاد الأمراء وشيوخ القبائل وجملة من حاشيته بالخيول المسومة والأسلحة المذهبة ما تحدث الناس به في الشرق دهرًا، ووجه مع الوفد هدايا لولاة طرابلس ومصر والشام، وكان يوم دخولهم مكة مهرجان عظيم حضره أهل الموسم كلهم.
وفى السنة نكب السلطان المترجم كاتبه المؤرخ أبا القاسم الزيانى وهى نكبته الثانية بعد الأولى التي وقعت له ولأبيه بالينبوع في رحلتهما الحجازية.
قال في الترجمانة الكبرى: "وتقلبت في منصب الكتابة من غربه لشرقه، ولقيت من زعازع أرياحه ورعده وبرقه، إلى أن بلغت كرة الرأس ومضيق العنق،
ووقفت على دائرة الأفق، في السفر والمقام، مدة من عشر أعوام، ثم حصلت في النكبة، ووقفت على باب الندبة، وأقمت بين الهلك والتلف.
وفى عام اثنين وثمانين ومائة وألف، وهى النكبة الثانية، ولما خلصت من النكبة وكتب لى أمير المؤمنين سيدى محمد رحمه الله بعد الطلاق رسم الرجعة وقلدت ديوان كتابته، أقبل على بكليته، وأخلف ما ضاع، وصرت بالمماليك والأتباع، وبلغت أعلى المراتب، وتقلبت في المناصب".
وفيه فتح الجديدة من يد البرتقال على ما يأتى عند ذكر فتوحه.
وفيه جلب السلطان أربعة آلاف من العبيد وأضاف إليهم ألفين وخمسمائة من الودايا وأنزلهم بآكدال من رباط الفتح، وبنى لهم هناك، وعند الضعيف أن ذلك كان سنة 1187.
وفيها سعى لأهل الجزائر في مفاداة أسراهم مع الإسبان، وأوفد كاتبه الغزال للجزائر لتسلم ذلك وتسليمه.
وفى عام ثلاثة وثمانين وجهت دولة البرتقال لصاحب الترجمة هدية عظيمة، وبعث رسله يطلبون المهادنة فأجابهم لذلك على ما يأتى.
وفيه أوقع بأهل تادلا إذ كانوا بغوا وطغوا، وولى عليهم صالحا ولد الراضى الورديغى، فاستصفى أموالهم وتركهم عالة.
وفيه طلب أهل درعة من صاحب الترجمة أن يولى عليهم الباشا سعيد بن العياشى فساعدهم على ذلك.
وفى عام أربعة وثمانين ومائة وألف أوقع بجروان لعيثهم في الطرقات وتكديرهم المسلم العام فقتل منهم نحو الخمسمائة وجردهم من كل شئ وغربهم لآرغار، فأنزلهم وسط العرب ثم توجه لحصار مليلية.
وفى أول محرم عام خمسة وثمانين ومائة وألف ابتدأ المترجم برمى مليلية بالمدافع والمهاريز، قال في الروضة السليمانية: وحاربها أياما فكتب إليه أمير دولة
الإصبان يقول إننا عقدنا المهادنة برا وبحرا وهذا عقد الشروط الذى أتى به كاتبكم الغزال تحت أيدينا، فأجابه المترجم بما محصله إننا لم نجعل المهادنة في بر وإنما جعلناهم معكم في البحر، فوجه الأمير المذكور للمترجم عقد الصلح فإذا هو عام برا وبحرا فكف عن محاربتهم، وشرط عليهم حمل مدافعه والمقومات الحربية في مراكبهم بعضها لمرسى طنجة والبعض الآخر للصويرة لما يلحق المسلمين من المشقة في جر ذلك برا فقبل الإصبان الشرط وحملوا ذلك فعلا للمرسيين المذكورتين وارتحلت الجنود الإسلامية عنهم.
هذا ما عند الزيانى في الترجمان المعرب والروضة السليمانية، والذى عند الضعيف، أن المترجم نزل على مليلية في خامس شوال عام ثمانية وثمانين ومائة وألف وأنه حاصرها نحو الثلاثة أشهر.
وقال نجل المترجم المولى عبد السلام صاحب درة السلوك: إن ذلك كان سنة سبع وثمانين، وأنه كان إذ ذاك واليا على مدينة فاس، وأنه صحب والده المترجم في هذه الغزوة مع أخويه أبى الحسن على، وأبى التيسير المأمون، وأن والده لما نزل على مليلية ضايق أهلها وهدم دورها، ثم سعى صاحبها في تجديد المهادنة وبذل مالا جزيلا وعدة من أسارى المسلمين، فساعد المترجم على ذلك، وارتحل عنها وسار إلى مكناسة، وهو عندى أصح لحضوره والله أعلم.
ثم إن المترجم عزل الغزال عن الكتابة لتغفله، وبقى في زوايا الإهمال إلى أن كف بصره ومات رحمه الله.
وقال في الاستقصا (1) ما نصه: وسمعت من بعض فقهاء العصر وقد جرت المذاكرة في كيفية هذا الصلح، فقال: إن الغزال رحمه الله لما أعطى خط يده بالصلح والمهادنة، كتب في الصك ما صورته: وإن المهادنة بيننا وبينكم بحرًا لا برًا، فلما حاز النصارى خط يده كَشَطُوا لَامَ الألف، وجعلوا مكانها واوًا، فصار
(1) الاستقصا 8/ 40.
الكلام هكذا بحرًا وَبَرًّا، وأن السلطان رحمه الله إنما أخره لاختصاره الكلام وإجحافه به حتى سهل على النصارى تحريفه، وكان من حقه أن يأتي بعبارة مطولة مفصلة حتى لا يمكن تحريفها فيقول مثلا: والمهادنة بيننا وبينكم إنما هى في البحر، وأما البر فلا مهادنة بيننا وبينكم فيه أو نحو هذا من الكلام، فيصعب تحريفه، وقد نص أهل علم التوثيق على هذا، وأن الموثق يجب عليه أن يبسط الكلام ما استطاع ويتجنب الاختصار المجحف وما يؤدى إليه بوجه من الوجوه والله أعلم هـ.
وفى عام ستة وثمانين عزل قاضى الرباط أبا على الحسن بن أحمد الغربى، وولى مكانه أبا عبد الله محمد بن سعيد الفيلالى، وذلك في رجب وفيه صدر الأمر العالي ببناء مرسى فضالة، وفيه ولى الحاج عبد الوهاب اشكالنطو الأندلسى ثم الرباطى عمالة الرباط.
وفى سنة سبع وثمانين حرك لآيت ومالو بإغراء من بلقاسم الزموري، حيث كانوا امتنعوا من قبوله عاملا عليهم، وطلب من الجلالة السلطانية إمداده بجند يرغمهم به على قبول ولايته، فأعطاه ثلاثة آلاف فارس وضم إليها إخوانه زمور وتوجه إليهم، ولما التقى الجمعان بوادى أم الربيع كانت الهزيمة على الزمورى المذكور، فولى الأدبار وغضب السلطان لذلك وأمر بخروج العسكر، وبحث لأمراء القبائل أعرابا وبرابرة، ولما وردوا على جلالته نهض من مكناسة.
قال أبو القاسم الزيانى في البستان: وكنت معه في تلك الحركة وأنا في حيز الإهمال، أتوقع الموت كل يوم بسبب ما كتب له بلقاسم الزمورى في شأنى وأنى أنا الذى أفسدت عليه القبائل، ولما بلغ السلطان محلة بلقاسم واجتمع به ونزلت تلك العساكر كلها في بسيط واحد بمريرت، أشار على السلطان أن يقسم تلك العساكر على ثلاثة فرق: فرقة بتامساكت، وفرقة بزاوية محمد الحاج، وفرقة تكون معه على طريق تكط، والسلطان ينزل بعساكره بقصبة آدخسان، وتقصدهم العساكر من كل ناحية، وقرب للسلطان البعيد، والحال أنه لا يعرف البلاد.
ومن الغد افترقت العساكر فتوجه كل لناحيته المعينة له ونحن توجهنا مع السلطان لآدخسان، ولما قطعنا وادى أم الربيع وجه السلطان جدوانا للغارة أمامه ونحن على أثرهم إلى أن بلغوا قصبة آدخسان، فلم يجدوا أحدًا ووقفوا إلى أن وصلهم السلطان فقال لهم:
أين هؤلاء القوم؟ فقالوا ما رأينا أحدًا ولا وجدنا أثرًا، وهذه قصبة آدخسان، فأمر بنزول العساكر وبقى متحيرا، فقال: نادوا فلانا يعنينى، فتوجهت له قبل أن ينزل عن فرسه فقال لى: أتعرف هذه البلاد؟ قلت: نعم أعرفها، فقال: وأين أهلها، قلت: في جبلهم، قال: أو ليس هذا جبلهم آدخسان؟ قلت: لا، هذه قصبة المخزن والجبل هو من تلك الثنايا السود أمام وأريته الثنايا، فقال: وأين الزاوية التي توجهت لها العساكر مع قدور ابن الخضر ومسرور؟ قلت: هى عن يمين تلك الثنايا في البسيط، قال: وأين تاسماكت التي توجهت لها أمم البربر مع محمد وعزيز؟ قلت: بيننا وبينها مرحلتان من وراء تلك الثنايا، قال: ومن أين يأتي بلقاسم؟ فأريته الثنية التي يأتى منها، وقلت: لا يصلنا إلا غدا إن سلم، فقال: وما علمنا؟ فقلت: ضرب في حديد بارد الذى في الزاوية لا ينفع والذى بتاسماكت لا ينفع، وآيت ومالو متحصنون في الجبال، وبلقاسم رجل مشئوم عافى الله مولانا من شؤمه.
فظهر لمولانا نصره الله خلاف ما سمع من بلقاسم وتحقق بفساد رأيه، وعلم أنه أخطأ فيما ارتكبه من الغرر بالمسلمين، وبينت له السبب الذى نفر به آيت ومالو من بلقاسم حتى عرفه، فقال لى: اكتب لزيان يأتون فإنى سامحتهم، فكتبت ووجهت لهم بعض الأشراف من آدخسان مع اثنين من أصحاب السلطان، وساروا إليهم ليلا، ومن الغد أصبح علينا أربعة منهم بهديتهم فدخلت بهم السلطان ففرح بهم وقبل هديتهم، وقال لهم: إنى سامحتكم على وجه كاتبى فلان، ووجههم بالبشارة لإخوانهم وباتت تلك الليلة العساكر كلها بلا علف ولا تبن، ومن الغد
ظهرت محلة بلقاسم ومعه المختار والعبيد باتوا في الحرب طول ليلتهم، ولما بلغوا أمرنى أن نتوجه لهم وننزل العبيد بجوار السلطان وبلقاسم ينزل مع إخوانه زمور وبنى حكم، وأعرض عنه السلطان وعن الكلام معه، وأمره أن يوجه إخوانه لبلادهم، ووجه القبائل كلها، وفرق ذلك الجمع وارتحل لتادلا.
وأما الذين نزلوا تاسماكت مع محمد وعزيز بيتهم آيت أمالوا وشتتوا جمعهم ونهبوا محلتهم وقتلوا منهم عددا كثيرًا، ورجعوا مناسة مغلولين.
ولما بتنا بالزرهونية ورد علينا أصحاب قدور بن الخضر بكتاب يقول فيه: إن البرابر اجتمعوا علينا من كل ناحية، فإن لم يتداركنا سيدنا هلكنا، فأمرني بالتوجه إليهم والاحتيال في خلاصهم بكل ممكن، ووجه معى مائة من الخيل فرجعت للزاوية فوجدت القبائل محيطة بهم، فاجتمعت بآيت يسرى ووعدتهم من السلطان بالعطاء الجزيل لتجور المحلة في بلادهم فأنعموا بذلك، وحملت المحلة مع الفجر وتركنا بلاد آيت ومالو وقطعنا الوادى لبلاد آيت يسرى، وتوجه معنا نحو المائة من أعيانهم إلى أن أخرجونا لتادلا لوادى تاقبالت ورجعوا عنا، وتقدمت للسلطان فأخبرته بقدوم المحلة وبلوغها لتاقبالت فسره ذلك ودعا لي بخير، وقال: لابد أن ترجع لها الساعة وأعطانى مالا أفرقه عليهم وكتب لهم المنازل لمكناسة، وبها ينتظرهم السلطان فرجعت لهم في الحسين.
ولما كان صباح غد يوم وصولى إليهم فرقت عليهم المال وتوجهوا ورجعت، ثم أصابت السلطان حمى فمرض بتادلا، وكان الطبيب الأديب السيد أحمد آدراق يعالجه ولا يدخل عليه غيره وغير صاحب طعامه الحاج عبد الله، وغيرى في أمور مكاتب الدولة إلى أن عافاه الله فأعطى الطبيب ألف دينار في يوم واحد رحمه الله.
قال: ثم توجه السلطان لمكناسة وببلوغه قبض على بلقاسم الزمورى ونكبه واستصفى أمواله، وعزله عن زمور، وبنى حكم، وولى عليهم محمد وعزيز
بإشارتى، ومن ذلك الوقت رفع منزلتى على أبناء جنسى وقدمنى على غيرى، اهـ الغرض منه.
وفى هذه السنة انعقدت بينه وبين البرتغال معاهدة سيأتى ذكرها في بابه.
وفى عام ثمانية وثمانين عزل محمد بن أحمد الدكالى عن القبائل التي كانت إلى نظره ولم يترك له إخوانه أهل دكالة، وولى على السراغنة محمد الصغير وعلى أهل تادلا ولد الراضى، وعلى أولاد أبى رزق صاحب الطابع، وعلى أولاد أبى عطية عمر بن أبى سلهام، وأمر ابن أحمد أن يقبض من إخوانه الذين كانوا عمالا على القبائل ما أكلوا من المال فقبض منهم مائة وخمسين ألفا، وفيه بلغ الزرع سبعة أواق للمد.
وفيه صدر الأمر بإيصال الماء من عين عتيك للرباط، وفيه عزل ابن سعيد الفيلالى عن قضاء الرباط وولى مكانه أبا عيسى المهدى مرينو الرباطى، وفى عاشر رمضان توفى أبو عيسى المذكور، واتفق أهل الرباط على تولية ولده أبى عبد الله محمد.
وفى عام تسعة وثمانين ثار عسكر العبيد على المترجم، وخلعوا ربقة طاعته من أعناقهم، وبايعوا ولده اليزيد، ونشأ بسبب ذلك فتن وأهوال، وكان السبب في ثورتهم أمر المترجم لهم بالرحيل لطنجة وإيعاز القائد الشاهد لهم بما أوجب نفرتهم وانسلاخهم عن الطاعة، وذلك مبسوط في البستان.
وفى عام تسعين ومائة وألف، رحل عن عرب تكنى ومجاط ودوبلال من سوس لسائس، وأقاموا به نحو العام، ثم نقلهم للشراط فهموا بالهروب إلى بلادهم، ولما أحس المترجم بذلك أمر الشاوية بالكون منهم على بلل ومنعهم من المرور.
وفيه نهض من مراكش للصويرة.
وفيه عم الجراد.
وفيه ثار العبيد الذين بطنجة على قائدهم الشيخ وقائد الأحرار ابن عبد المالك وراموا قتلهما فهربا لآصيلا، ثم راجع العبيد أنفسهم وقبضوا على الفعلة ووجهوا بهم للمترجم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ثم تفاحش ضرر العبيد بالثغور.
وفى آخر العام نهض المترجم من مراكش وسار إلى أن حل برباط الفتح فوجه للعبيد البغال والجمال، وكتب لهم يأمرهم بالنهوض من الثغور والتخييم بدار اعربى (1)، وواعدهم بتوجيه بغاله إليهم بمجرد وصولهم لمشرع الرمل يحملون عليها أولادهم وأثقالهم إلى مكناسة محل استقرارهم، ولما بلغهم الكتاب المذكور فرحوا واستبشروا، ولما نزلوا بدار اعربى أغرى عليهم بنى حسن وأهل الغرب ونهض هو في القبائل الحوزية ونزل بسوق الأربعاء على مقربة منهم، ومن الغد وجه سفيان وبنى حسن وبنى مالك والخلط وطليق بمحلتهم، وقال لهم: انزلوا على العبيد واجعلوهم وسط محلتكم واستسلموا منهم الخيل والسلاح ثم اقتسموهم كل واحد منكم يأخذ عبدًا وأمة وأولادهما، العبد يحرث ويحصد، والأمة تطبخ وتعجن وتسقى وتحتطب، والولد يسرح، فخذوهم (2) بارك الله لكم فيهم، فاركبوا خيلهم، واحملوا سلاحهم والبسوا ثيابهم، وكلوا ما عندهم، فأنتم عسكرى (3).
ففعلوا بهم ذلك عقوبة لهم على ما أجرموا، وانقلب صاحب الترجمة للرباط، وفرق العبيد الذين كانوا عفا عنهم وردهم وكساهم وسلحهم وأعادهم للجندية وفرقهم في الثغور، فانكسرت شوكتهم وصلحت أحوالهم.
(1) في الاستقصا 8/ 48: "بدار عربى".
(2)
في الاستقصا: "فحذوهم وتقلدوا سلاحهم".
(3)
الاستقصا 8/ 48.
وفى العام فشا القحط وامتد إلى عام ستة وتسعين ومائة وألف، كانت تلك السنون كسنى يوسف أكل الناس فيها حتى ميتة الآدمى، ومات خلق كثير جوعا، والمترجم يعالج أمر الجند بتتابع الرواتب، ورتب لأهل المدن الخبز يفرق على الضعفاء والمساكين في كل حومة، وسلف القبائل أموالا بواسطة أشياخها وزعت على الضعفاء، وكان يعطى للتجار الأموال بقصد جلب الأقوات من الأقطار الشاسعة لإيالته المغربية، ويأمرهم ببيع ما جلبوه بالثمن الذي اشترى به إعانة للمسلمين ورفقا بضعفائهم.
ولما تقلص ظل تلك المجاعة، ورام القبائل رد ما أخذوه على وجه السلف أبى المترجم قبول ذلك منهم، وقال: لم أخرج ذلك بنية الرد، وإنما ذكرت الاستسلاف لئلا يأكل الأكابر والأشياخ تلك الأمور إذا تحققوا عدم الرد، وأسقط عن القبائل الوظائف كلها أربعة أعوام إلى أن عم الخصب (1).
وفى عام واحد وتسعين ومائة وألف وجه ابن عمه وزيره أبا الحسن على بن الفضيل لدرعة لاستيفاء ما بذممهم من الزكوات والأعشار فقتلوه باصغرو، في ذى القعدة من العام، وفى رجب منه توفى قاضى مراكش أبو فارس عبد العزيز العبدلى السكتانى، وفيه جمع المترجم شتات الشبانات الذين كان فرق شملهم في القبائل السلطان الرشيد مار الترجمة.
وفى عام اثنين وتسعين ومائة وألف خسفت الشمس خسوفا كليا حتى ظهرت النجوم ودام ذلك نحو أدراج ثلاثة. قال الضعيف: ثم بدأ انجلاؤها من جهة المغرب، وكان بين الابتداء والتمام ما يقرب من الساعة، وذلك قرب عصر يوم الأربعاء الثامن والعشرين من جمادى الأولى.
(1) الاستقصا 8/ 49.
وفى منتصف جمادى الثانية منه ألقى القبض على الباشا محمد القسطالى بمراكش واستولى على جميع أمواله، كما ألقى القبض على ولد الراضى قائد تادلا وقطع يده واستولى على جميع أمتعته، وكان من جملة ما وجد عنده ثلاثون قنطارا فضة، ثم عفا عن القسطالى وسرحه.
وفى العام دخل ماء عين عتيك للرباط.
وفى عام ثلاثة وتسعين كان الجراد المنتشر ووقع في البقر موت كثير حتى كاد أن يعدم وذلك لتوالى المحول.
وفى عام أربعة وتسعين ومائة وألف أمر بإخراج العبيد من رباط الفتح، وكانوا يعدون بنحو سبعة آلاف وسبعمائة، فلم يسعهم غير الامتثال، وفى شوال نهض لمكناس ولما نزل بقرميم أمر بإخراج من بقى من العبيد بالرباط، ولم يترك غير عبيد تافيلالت، وكان عددهم يقرب من خمسمائة، ثم نهض إلى مراكش وفيه عقد لنجله البار المولى أبى محمد عبد السلام على السوس الأقصى ودرعة.
وفى عام خمسة وتسعين ومائة وألف أوقع بأولاد أبى السباع لخروجهم عن الجادة وارتكابهم ما لا يليق، وقتل منهم عددًا كبيرًا وتفرق باقيهم في القبائل، منهم من قصد لوادى نول، ومنهم من ذهب للساقية الحمراء وبقيت الباقية منهم تتكفف بأحواز مراكش وغيرها جزاء بما كانوا يعملون.
وفيه رحل أولاد دليم من بلادهم وأنزل بها زرارة والشبانات.
وفى صبيحة يوم الأربعاء ثامن عشرى شوال العام كسفت الشمس.
وفى العام انحبس المطر وصلى الناس في الرباط صلاة الاستسقاء، وكان الخطيب أبو محمد عبد الله البنانى، ثم أعيدت والخطيب أبو عبد الله محمد بن أبى القاسم السجلماسى فأمطروا ورحم الله العباد.
وقد كان المترجم في زمن المحل يحسن ويصل العامة والخاصة بما يسد خللهم.
وفيه أمر القائد الهاشمى السفياني بالنزول على وزان فقبض من أبى العباس أحمد بن الطيب نحو العشرين قنطارا، ودفع ما كان لديه من الحلى والجواهر.
وفى ذى الحجة منه توجه الكاتب ابن عثمان من مراكش في سفارته لمالطة ونابلى.
وفى عام ستة وتسعين ومائة وألف زاد الأمر شدة وتجلى الله سبحانه على عباده بالقهر والجلال والكبرياء والمترجم يكابد المشاق العظام في ذلك التجلى المفزع ويصرف الأموال ذات البال في الجيوش والرعية ويوالى التبرعات.
وفى عام سبعة وتسعين ومائة وألف مطر المغرب ونجح الحرث وكثر الخصب ورخصت الأسعار وتجلى المولى سبحانه لعباده بصفة الجمال والكمال واشتغل المترجم بتمهيد الدولة ورتق ما انفتق منها (1).
وفيه حاصر آيت يمور ومن القبائل البربرية بجبل زرهون إلى أن أخرجهم منه وأنزلهم بحوز البهاليل من فحص سايس، وأكل زروعهم لطغيانهم في البلاد، وإذايتهم للعباد، وقبض على الدعى محمد والحاج اليمورى وقتله.
وفيه توجه لباغية آيت يوسى فتحصنوا ببعض جبال فازاز، وظنوا المنعة فحاصرهم واقتحم عليهم حصونهم وفرق أحزاب ضلالهم ونهبت زروعهم واستؤصلت ضروعهم وتركوا عالة على القبائل، وذلك يوم الأحد الثالث عشر من رجب العام، وبعد رضوخهم للطاعة وهم صاغرون رجع صاحب الترجمة لفاس.
(1) الاستقصا 8/ 49.
وفى سابع عشرى رجب المذكور نهض من فاس ووجهته تافيلالت في اثنى عشر ألف جندى ما بين فرسان ورماة. قال الضعيف: وكان للفارس خمسة أواق مياومة وللراجل نصفها كذلك مدة حركتهم معه هذه.
وكان نهوضه هذا لتافيلالت بعد أن وجه ولده المولى يزيد للحج دفعا لما يخشى منه وأصحبه أمينا يصير عليه وأناسا لخدمته.
ولما أشرف على تافيلالت فر من حولها من البرابر كالنازلين بمطغرة، ووادى الرتب، وقصر السوق، وأولاد عيسى، والدويرة وأخرج عمه المولى الحسين منها، ووجه به لمكناسة وأتبع به أولاده انتقاما منه حيث إنه رام شق العصا وتفريق كلمة المسلمين بالدعاية لنفسه بالإمامة، وهدم قصبته المعروفة بأولاد جبور، وتامورارت ولم يغنه ما كان له من الجاه والوجاهة بتلك الناحية، حتى إنه كان لا يمكن إبرام أمر بتافيلالت إلا بموافقته.
وقد كان عفا الله عنه يرتكب أمورا شنيعة، منها أنه تسبب في خراب دار ابن أخيه المولى الشريف بن زين العابدين، وأغرى البربر عليه حتى اقتحموا داره وقتلوه صبرا، ومنها قتله أبناء أخيه المولى يوسف بن إسماعيل وذلك سنة اثنتين وستين ومائة وألف، ولم يزل عمله جاريا على نحو ما ذكر من الموبقات العظام إلى هذه السنة التي أخرجه المترجم من موطن عزته فيها.
ثم قبض المترجم على ما يزيد على العشرين قنطارا من خصوص أهل الغرفة، وما يزيد على المائة قنطار من أهل تافيلالت، ومن أهل وادى المالح وما يليه ستة عشر قنطارا، ومن أهل تابو عصامت وما يليها ستة عشر قنطارا، ومثل ذلك من أهل السيفة وما يليها، وهد قصبتهم بوصاية من أبيه، وكان هَدّه لها آخر ذى القعدة من العام.
ثم ارتحل لمراكش بعد أن أقام بتافيلالت شهرا، وحسم داء آيت عطية، وآيت يفلمال وولى عليهم القائد على بن حميدة الزرارى، وكان رجوعه لمراكش على طريق، ومن الغد رفع الله تلك الثلوج وأصبح اليوم عيد الأضحى، فخطب السلطان الناس بنفسه، ودعا للسلطان عبد الحميد العثمانى ثم قام فدخل مراكش.
وفى العام نفسه وجه ولده أبا محمد عبد السلام لأداء فريضة الحج حيث إنه كان عام حجه مع أخيه المولى على لم يبلغ الحلم حسبما أشرنا لذلك، ووجه في معيته للحجار أموالًا تفرق في أناس عينهم نذكرهم فيما يأتى لنا بعد بغاية الإيضاح بحول الله.
وفى عام ثمانية وتسعين ومائة وألف وجه أموالًا إضافية لتصان بقصبته التي بالرصانى من تافيلالت، ووجه لمن هنالك من الأشراف الكسوة ورتب لهم في كل سنة مائة ألف مثقال، ووجه ابن عمه وصهره المولى عبد المالك بن إدريس للحج وفى معيته الكاتبان أبو عبد الله محمد بن عثمان، وأبو حفص عمر الوزير، والحاج عبد الكريم بن يحيى أمير الركب، ووجه معهم هدية نقدية لها بال لأهل الحرمين والحجار واليمن بعد أن يذهبوا لاصطنبول أولا، وكتب للسلطان العثمانى أن يوجههم مع أمير صرته الذى يذهب إلى الحرمين الشريفين كل سنة، فلما بلغوا حضرته وجدوا أمير الصرة قد سافر فأقاموا إلى الموسم القابل وسافروا مع الركب.
وفى عام تسعة وتسعين ومائة وألف، نهض لثغر الصويرة (1)، وكان وصوله إليها يوم السبت سادس عشر ربيع الثانى ودخل لجامع قصبتها وصلى به العصر، واجتمع بمن بها من العلماء فاسيين وسوسيين وغيرهم، وأقام بها أياما ثم نهض وسار إلى أن حل بالدار البيضاء، ولما شاهد مرساها أعجبته فأصدر أمره ببنائها، وولى على الشاوية القائد عبد الله الرحماني بعد أن سرحه من السجن، ثم ارتحل
(1) انظر في ذلك: الاستقصا 8/ 54.
إلى ثغر الرباط، وكان حلوله به يوم الخميس فاتح ذى الحجة، فقصد أولا جامع السنة، حيث كان الفقهاء والعلماء في انتظاره، ولما أقبل عليهم استفتحوا قراءة سورة: إنا فتحنا، وبعد أن فرغ من تحية المسجد جلس أمام المحراب والطلبة محدقون به وبعد ختم السورة المذكورة وتقديم تحياتهم إليه توجه لقصوره، ونزلت المحلة خارج المدينة، وأقام هو بالرباط أربعة أشهر، وقام أهل العدوتين بضيافته وتقديم فاخر الأطعمة إليه، وهو يصل كل من أتاه بشئ من الطعام بصلات من عشرة مثاقيل إلى عشرين.
وفى عام مائتين وألف، أوقع بأهل أبى جعد وقعة عظيمة، واستصفى أموالهم وخرب دورهم، وذلك يوم الأحد الثانى عشر من ربيع الثانى لإيوائهم أهل الزيغ والفساد، وسعيهم في إيقاد نار الفتن، وتعدد صدور النهى لهم عن ذلك فلم ينتهوا، ثم بعد ذلك نهض لمراكش، وأنهض معه أبا حامد العربي بن المعطى الشرقى للاستيطان بمراكش والتغريب عن محل الفتن فاستوطنها، وصار يدرس بجامع الكتبيين منها.
وفى يوم الأحد الثالث عشر من ذى الحجة بارح المترجم مراكش، وفى يوم الاثنين ثانى عشرى الشهر خيم بإزاء وادى يكم، وفى يوم الثلاثاء الثالث والعشرين منه حل بالرباط، وفى العام وجه كاتبه المؤرخ أبا القاسم الزيانى سفيرا للسلطان عبد الحميد العثمانى كما سنشرح ذلك بعد.
وفى عام واحد ومائتين وألف، نهض من رباط الفتح ووجهته مكناسة، وذلك يوم السبت حادى عشرى ربيع الثانى، وفى يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى نهض من العاصمة المكناسية لفاس وأقام به ثلاثة أيام، ثم ارتحل منه يوم السبت ثالث عشر الشهر يريد تافيلالت، وسار إلى أن دخلها يوم الجمعة السادس عشر من جمادى الأولى، وأقام بها نحو شهر، وعم ببذله الذهب والفضة سائر
الطبقات الشرفاء والعلماء من الخنك إلى أقصى تافيلالت، وزوج الأرامل وغيرهم، وأعطى لكل عروس خمسين مثقالا ذهبا، وحسم مادة الفساد من تلك البلاد، ثم نهض لمراكش يوم السبت خامس عشرى جمادى الثانية وسار إلى أن دخلها أوائل رجب، وفى العام وجه كاتبه ابن عثمان آتى الترجمة سفيرا للقسطنطينية العظمى حسبما سنوضحه بعد.
وفى عام اثنين ومائتين وألف نهض من مراكش قاصدا فاسا، حيث بلغه عيث شراكة وسعيهم في الأرض الفساد، ولم يزل يطوى المراحل إلى أن دخل مكناسا، ثم في يوم الجمعة فاتح رمضان نهض لفاس ولما اتصل الخبر بشراكة فروا لجبل أمركو واستجاروا بضريح أبى الشتاء، فاقتفى أثرهم بجنوده، ولما التقى الجمعان شبت بينهما حرب هلك فيها خلق ثم انهزمت شراكة شر هزيمة ومزقوا كل ممزق، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا.
وفى أوائل رمضان نهض من بلاد شراكة بعد أن تابوا وأنابوا، ونزل بايناون من بلاد الحياينة، وبعث الجيوش تحت القائد العباس السفيانى لناحية القبائل الريفية بقصد زاوية بنى توزين المنسوبة للشيخ أبى عبد الله محمد بن ناصر الدرعى، ولما أحسوا بورود الجيوش إليهم هربوا لموضع حصين تحصنوا به، فدخل الجيش السلطانى الزاوية واستولى على جميع أقواتها وذخائرها وهَدَّها هَدًّا كما هَدَّ روضة الشيخ أبى محمد عبد الله، وروضة ولده الشيخ أبى عبد الله محمد.
ولم يزل المترجم مقيما بايناون إلى أن صام رمضان وأقام سُنَّة عيد الفطر، ثم رحل لفاس، ونزل بدار دبيبغ، وأقام بها نحوا من تسعة أشهر.
ثم بلغه رفض أهل تامسنا طاعة عاملهم صهره القائد عبد الله بن محمد الرحمانى وبالأخص أمزاب، والبعض من الشاوية، فنهض في القبائل البربرية وسار إلى أن وصل مكناسة، ثم بارحها يوم الثلاثاء خامس عشرى رجب، وسار
إلى أن وصل الرباط ضحى يوم السبت تاسع عشرى رجب، وفى يوم الأحد رابع شعبان نهض من الرباط ووجهته الشاوية، وأوقع بالمعتدين منهم وقعة لم يتقدم لها نظير، قطع فيها سبعمائة رأس من رؤسائهم المفسدين، وقبض على مائتين، وكانت هذه الواقعة يوم الثلاثاء ثالث عشرى شعبان، ثم نهض إلى مراكش وسار إلى أن حل بها يوم الأربعاء.
وفى رابع عشرى ذى القعدة تبرأ المترجم من عهدة ولاية أى أحد، وأحضر العلماء وأمرهم بالإشهاد عليه بذلك، ونص الاشهاد على ما في تاريخ الضعيف:
"الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما".
وبعد: فإن مولانا أمير المؤمنين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أيده الله بتوفيقه، ومنحه كرامة سلسبيله ورحيقه، تبرأ من عهدة تولية أحد مرتبة من مراتب الدين، وأنه التزم هذا الأمر التزاما أذاعه وأفاضه، وألزم نفسه العمل بمقتضاه، وصدر منه هذا الأمر الشريف هروبا بنفسه لساحل السلامة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: أحب أن ألقى الله وليس لأحدكم قبلى مظلمة، والله تعالى يتولاه بتوفيقه ورضاه، أشهد عليه أيده الله بذلك من أشهده على نفسه، وهو يمحل ولايته ومقعد حكومته برابع عشرى ذى العقدة الحرام عام ثلاثة ومائتين وألف: أفقر الورى لله تعالى محمد بن قاسم السجلماسى وفقه الله بمنه، وعبد ربه تعالى محمد بن العباس الشرادى لطف الله به، وعبد ربه تعالى محمد بن أحمد الخطاب خار الله له يمنه، الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله محمد العربى ابن المعطى بن صالح، وفقه الله للعمل الصالح، وعبد ربه إبراهيم بن أحمد الزداغى، وعبيد ربه تعالى محمد الدرعى خار الله له في الدارين، وعبيد ربه تعالى محمد بن عبد العزيز غفر الله له آمين، وعبيد ربه أحمد بن العباس الشرادى، وعبيد ربه تعالى
محمد السلامى لطف الله به آمين، وعبيد ربه تعالى العباس بن على غفر الله له، وعبيد ربه أحمد بن عبد العزيز وفقه الله بمنه، وعبيد ربه تعالى عبد القادر بن المعطى الشرقاوى لطف الله به بمنه، وعبيد ربه محمد وفقه الله، وعبيد ربه تعالى محمد بن يعقوب وفقه الله آمين" بلفظه.
ثم بعث بهذا العقد لجميع مدن المغرب، وأخذ في غلق أبواب دار دبيبغ وتخريبها، ونزع الأبواب الخشبية وغير ذلك من الأنقاض.
وفى العام نفسه وجه له السلطان عبد الحميد خان كاتب ديوانه أبا العباس أحمد أفندى وجملة من أعيان القسطنطينية بهدية فاخرة، سيأتى ذكر ما اشتملت عليه.
وفى عام ثلاثة ومائتين وألف نهض المترجم من العاصمة المكناسية وذلك يوم الثلاثاء خامس عشرى رجب العام، وسار إلى أن خيم بقرميم، وفى ضحى يوم السبت حل بالثعر الرباطى، وفى يوم الأحد رابع شعبان بارح الثغر المذكور وسار إلى أن وصل الشاوية وأوقع بفرقة امزاب منها شر وقعة لعصيانهم ومؤازرتهم للنهاب قطاع الطريق الساعين في الأرض الفساد، واقتناعهم من تسليمهم للحضرة السلطانية بعد ما أمروا بذلك مرات، وحذروا فلم يزدهم التحذير إلا إغراء.
كما أوقع بجيرانهم بنى مسكين لإيوائهم إليهم بعد أن نهوا عن ذلك وحذروا وأنذروا، وبعد أن طهر الأرض من أهل الفساد والعبث توجه إلى عاصمة الجنوب، وكان حلوله بها يوم الأربعاء رابع عشرى شعبان المذكور، وبعد حلوله بها أصدر أوامره لبحرية العدوتين بالتوجه للعرائش وزخرفة السفن الأربعة التي كان عينها من جملة الهدية التي هيأها للسلطان عبد الحميد خان العثمانى، وأسند الأمر في القيام بشئون ذلك لناظر الأوقاف الطالب المكي بار كاش، وفى منصرم