الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع نابولى
فوقع لهم بعد الخروج مثل ما وقع لهم أولا عند الخروج من قادس، واضطروا للرجوع لمرسى مالطة، وبقوا هناك ثلاثة أيام كان يتردد عليهم فيها كبار المدينة يهنئونهم بالسلامة ويدعونهم للعودة لمحلهم، ثم ساعدت الرياح فسار بهم المركب إلى نابولى، فلما وصلها أرسل صاحبها (الملك فرناند الرابع) أحد الأعيان عنده للسلام على السفارة وإبلاغها اشتياقه لرؤيتها، وأن الحجر الصحى ساقط عنها، ودعاها للنزول من يومها، ولكنها تأخرت للغد، وفيه جاءت الزوارق تحمل الأعيان ونواب الملك لإنزال السفارة، ولما نزلت من مركبها أخرج مدافعه تحية لها، ووجدوا على ساحل المدينة أفواج الخلائق مصطفة فركبوا في الكدش الخاص بهم وتقدمت أمامهم طائفة من خيل الخاص بالمير مصلتة السيوف تفسح لهم الطريق الممتلئة بسكان المدينة.
فما وصلوا لمحل النزول حتى كادت الشمس تزول، وكانت هذه الدار قد أعدت لهم قبل وصولهم بنحو ستة أشهر لما سمعوا بقدومهم، فلما وصلوها وجدوا العسكر مصفوفا ببابها لأداء التعظيم، وتلقاهم فيها أحد أرباب الدولة بعثه الأمير لينوب عنه في إعادة سلامه على السفارة والترحيب بها، ثم طاف بها على الدار يريها ما احتوت عليه، وقدم لهم ثلاثة أطباق كبار فيها فاكهة وحلويات يحملها ستة من الأسارى المسلمين الذين هناك هدية من الأمير، فتقبلوها شاكرين، وأشاروا إلى رغبتهم في إلحاق الحامل بالمحمول، فأجيبوا لذلك فكان فاتحة عملهم هناك.
ثم ترادف للسلام عليهم الأعيان والأكابر وأرسل لهم الأمير خمسة أكداش لتكون مركوبهم، وعدة من الخيل العتاق المذهبة السروج المهداة إليه من الملوك،
وبعث لهم طبيبا خاصا لملازمتهم، وبعد ستة أيام استدعاهم الوزير لمقابلته، فذهبوا إليه وأعطوه نسخة الكتاب ليترجمه.
ثم أعلمهم الأمير بوقت الاقتبال قبل زوال الغد، ومن الغد جاءتهم الخيل التي سترافقهم، وجاء بعدها صاحب ملاقاة مع السفراء مع الملك، فأخبرهم أن الملك مستعد للملاقاة وكذلك الملكة زوجه الألمانية الأصل في الانتظار بعد لقاء زوجها، وذلك وإن لم يكن عادة لكنها جعلتها فرحا وسرورا بالسفير ومرسله.
ثم ساروا في جمع حاشد للقصر الملوكى، وجعلوا كلما دخلوا قبة من قبابها وقف من فيها ونزع ما على رأسه إلى أن وصلوا قاعة الاقتبال، فاستأذن المرافق المذكور ثم أدخلهم إليها فوجدوا الملك واقفا والقاعة مملوءة بالوزراء وأرباب الدولة، فلما قابلوه أزال ما على رأسه مسلما فأشاروا إليه باليد ثم دنوا منه ففعل كذلك، وفعلوا هم كذلك حتى الثالثة.
فلما التقوا أخرج ابن عثمان الكتاب المولوى وقبله ودفعه إليه فتلقاه بكلتا يديه، ثم سأل ابن عثمان عن السلطان وذكر محبته فيه ورغبته في مخاطبته وقضاء مآربه وعقد الصلح معه كما فعل أبوه (ملك إسبانيا)، فأجابه ابن عثمان بأنه ملحوظ ومقدم عند السلطان، وعن الصلح بأنه لذلك الغرض كان قدومه لما طلب له ذلك والده عاما أولا لما كان عنده المجيب بإصبانية، فأجابه الملك بالكلام مع وزيره، ثم خرجوا من حضرته وهو واقف ودعوا لمقابلة الملكة فأدخلهم حاجبها عليها فوجدوها واقفة والقبة ممتلئة بنساء الأكابر والأعيان فسلمت عليهم بالانحدار، حتى كادت تجثى على ركبتيها على عادة نسائهم، فأشاروا لها باليد ثم فعلت ذلك ثلاثا مثل زوجها وفعلوا مثله، فلما دنوا منها رحبت بهم وذكرت طول انتظارهم ووعدت بالوقوف في الأمور الصعبة مع الملك، فشكروها على ذلك
وخرجوا مسلمين على الصفة المتقدمة، ثم امتطوا أكداشهم لمحلهم، فلما بلغوه أخذ الأعيان يفدون عليهم مهنئين بحسن اللقاء مع الملك.
ولما قرأ الملك الكتاب السلطانى وعلم ما اشتمل عليه من توجيه السفارة إليه بقصد عقد الصلح معه حيث طلب والده ذلك واشترطه في عقد الصلح الذى عقده معه ابن عثمان ثم فداء أسارى المسلمين الذين في بلده وتحت حكمه أجاب عن ذلك ببعث ثلاثين أسيرًا مسرحين على سبيل الهدية للسفارة إكراما لها قائلا: وأما فداء الأسارى المشار إليه فالأسارى الذين في إيالتنا كلهم من تونس والجزائر وطرابلس وغير ذلك من البلاد المشرقية، وليس بيننا وبينهم إلا الحرب، وكذلك إخواننا عندهم أسارى بأيديهم ولو لم يكن إخواننا الذين عندهم لسرحنا جميع من عندنا من المسلمين ابتغاء خاطر مولانا أمير المؤمنين ورضاه، وحيث كان إخواننا في الأسر نحبكم أن تسعوا في فداء الجميع، فشكرته السفارة على ذلك وكتبت للحضرة السلطانية بذلك.
وأما عقد الصلح فشرعت فيه مع الوزير حسبما تقدم من تقديم الملك له لذلك، واشترط كل جانب ما فيه مصلحته، ثم استنسخت تلك الشروط وأمضيت.
ثم تيسر للسفارة افتداء مائة أسير أعدوا للبيع فضمتهم إلى إخوانهم، وكذلك استرجعت ما وجد في أحد المراكب السلطانية كان السلطان قد بعثه لأمير طرابلس حاملا القمح بسبب المسغبة التي كانت في بلاده، فتلقته مراكب نابلية وأخذته، ومع أن ذلك كان زمن الحرب فقد تمكن ابن عثمان من إقناعهم برد ما وجد فيه.
وقد رأت السفارة أثناء إقامتها بنابل بعض الأبناك ومأوى الأيتام ودار الآثار ونادى الأعيان بدعوة من أهله، والبركان القاذف للنيران، وآثار مدينة بومبى، ولما
رجعت منها لبلدة أخرى أنزلت فيها بالدار التي نزل فيها إمبراطور الألمان لما كان هناك، ورأت في هذه البلدة معامل السلاح والبارود والكاغد.
وكان الملك يستدعيها مرارا لمشاهدة التمثيل بالأوبرا كلما ذهب، وكذلك استدعاها تكرارا لزيارة الحديقة الصيفية، وذهبت بدعوته لمشاهدة تعويم مركب في البحر، فأعد لابن عثمان مقعد بإزاء مقعد الملك واستدعاها لزيارة قصره في بلدة (برطج) مقره في الخريف، فرأته يسوق الكدش بنفسه، ولعب بمحضرها كرة "التنس" كما استدعاها لزيارة قصره في مشتاه ببلده (كزرته) وغير ذلك.
ولما انتهت أعمالها أعلمت الملك بعزمها على السفر، وكان إذ ذاك بمشتاه فأجابها بأنه سيأتى لنابل بقصد وداعها، ولما جاء إليها أعلمها باللقاء بين العشاءين فوقع ذلك على الوصف المتقدم في لقائه ولقاء الملكة، وبعد ذلك بعث الملك للسفارة جوابه عن الكتاب السلطانى مع هدية من صنائع بلاده وتحفها وبعث لها هديتها الخاصة بها.
وركبت السفارة ومن معها ممن فك من الأسرى البحر رابع المحرم فاتح سنة 1197 في مركب رئيسه من جنس (الراكوزة) تطوع به لحمل السفارة حيث تشاء دون عوض، فحياها بمدافعه وسار بها إلى أن أداه اضطراب البحر إلى صقلية، فخرجت زوارق أعيانها ونائب حاكمها للسلام على السفير، وعرض النزول عليه للمدينة للاستراحة فنزلوا من الغد نظرا لازدحام المركب بالأسارى في احتفال مثل ما جرى لهم في غيرها من البلاد التي كان ذهابهم إليها رسميا.
وأعدت لهم دار خاصة، ثم طلب منهم حاكم الجزيرة أن يعينوا له وقتا للمقابلة، فعينوه له وقابلوه كما قابلوا أعيان المدينة (بلرم) ونوابها فكان الجميع يرحب بهم ويظهر لهم السرور بقدومهم، ودعوا لمشاهدة التمثيل بدار الأوبرا، وبعد أن أقاموا ستة وعشرين يوما عادوا لمركبهم، فلما سار بهم ثلاثين ميلا وجد
البحر مضطربا فبقى هناك خمسة أيام اضطر بعدها للرجوع إلى صقلية مرة أخرى فتلقاهم أهلها، وأخبروهم أن الدار التي كانوا بها لا زالت بصددهم فنزلوا إليها، وكانت الليلة ليلة ميلاد الملك فاستدعيت السفارة لحضور الاحتفال الليلى بذلك كما دعيت لنادى أعيان المدينة، وفيه طلب بعضهم من ابن عثمان أن يلعب معه بالشطرنج فأجابه بعد إلحاح وغلبه فيه على مشهد من القوم، ورأت السفارة في أثناء مقامها كنيسة (سان مرتيل) وأدخلوا خزانتها فوجدوا فيها عدة من كتب المسلمين كسيرة ابن سيد الناس وبعض كتب الطب، كما زاروا غيرها من المعاهد والمدارس، وبعد إقامتهم بها ثلاثة أشهر وثلاثة أيام في انتظار سكون البحر، ركبوا سفينتهم في سادس عشر ربيع الثانى راجعين للمغرب، فوصلوا طنجة بعد اثنى عشر يوما، ونزلت السفارة في احتفال بحضور الحاكم ووجوه العسكر للمدينة، كما تلقى الأسارى بسرور وحبور وأنزلوا بديار بالمدينة بقصد الإرفاق على النفقة السلطانية، ووجه الكتاب للحضرة السلطانية بالإعلام بالوصول، وأقاموا بطنجة إلى أن ورد عليهم الجواب الشريف بالتهنئة بالسلامة وإعداد البهائم لحمل الأسارى وأمرهم بالقدوم عليه.
قال ابن عثمان: فتوجهنا إليه أيده الله وهو بحضرة مكناسة، فبتنا آخر ليلة من السفر بوادى فرى بقرب المدينة بنحو ساعتين، ومن الغد بعث مولانا أعزه الله عساكر الخليل لملاقاتنا ووجوه العسكر والقواد، ومن حضر من العمال وبالغ في التنويه والفرح بهؤلاء المسلمين جعل الله ذلك بمنه من خالص الأعمال، وبلغه من حسن نيته، وصفاء سريرته وطويته جميع الآمال، ومن هناك والخيل تلعب وتخرج البارود إلى أن دخلنا المدينة فبعث إلينا سيدنا أيده الله أحدا من خدامه بأن ندخل الأسارى المذكورين إلى ضريح جده المقدس المنعم المرحوم سيدنا إسماعيل برد الله ضريحه، وأسكنه من الجنان فسيحه، وأحضر لذلك الفقهاء والأشراف والطلبة
وأعيان البلد، فقرأنا هنالك ما تيسر من القرآن ودعونا لسيدنا بما نرجوا من الله قبوله.
وبعث سيدنا الطعام للأسارى، فأكلوا، وأمرنا بإنزالهم بدور أعدها بالمدينة وأمرنا أن نستريح ونطلع لملاقاته عند العصر، فلما صلينا العصر توجهنا إلى بابه، ورحب جنابه، وأصحبنا إليه الهدية التي أصحبنا إليه الطاغية صاحب نابل فوجدناه داخل باب السوانى ففرح بنا وانشرح لقدومنا ودعا لنا بخير، تقبل الله منه.
ثم ناولناه كتاب الطاغية مع عقد الصلح الذى أبرمنا ووقع عليه الاتفاق، وهدية الطاغية التي بعثها من الخوف والاشفاق، وناولناه أيضا أزمة ما دفع في الفداء وخطوط أيدى النصارى المفدى منهم مع قيمة المركب الذى غرموا وقد تقدم خبره.
ومن الغد أطلعنا إليه أسرى المسلمين وهو بالدار البيضاء، فسألهم عن قبائلهم وعشائرهم وعن مدة أسرهم، أطال معهم الكلام جبرا لخاطرهم، وقال لهم: الحمد لله الذى عجل سراحكم، وكمل بجمع شملكم مع المسلمين أفراحكم.
ثم هيأ لهم البهائم لحملهم إلى فاس في الحين، وتوجهوا من عنده أيده الله فرحين، وارتفعت بالدعاء لسيدنا أيده الله الأصوات، حتى كادت أن تسمع الأموات، وكتب لعامل فاس أن يحسن للقوم القرى ويفيض عليهم من مطايب ما يشترى، ويزيل عنهم درن الأسر، ومذلة القهر والقسر، ثم يكترى لهم البهائم إلى الجزائر، ومنها يتفرقون في البلاد كالمثل السائر.
قال المولى عبد السلام نجل المترجم في درة السلوك في مآثر أبيه: ومنها أنه لم يترك ببلاد النصارى أسيرا، ولا بالمغرب فقيرا، بفيض أياديه العظام، ومكارمه