الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به بعد بلوغ الأشد وكمال الطلب، وبلوغه الغاية في ظنه من ذلك الأرب. ولكن لا عجب إذا عد ذلك عقوبة عجلت، فقد قالوا: من رام شيئا قبل إبانه عوقب بحرمانه.
مشيخته: أخذ عن جماعة أعلام بلده سجلماسة العلم والقراءات وعن قاضى مكناسة مولاى أحمد بن عبد المالك العلوى وأجازه عامة، ومولاى أحمد هذا أخذ عن سيدى أحمد بن عبد العزيز الهلالى المتوفى ليلة الثلاثاء قبيل الفجر بنحو ساعتين الحادى والعشرين من ربيع الأول عام خمسة وسبعين ومائة وألف، كذا بخط تلميذه السيد محمد بن صالح الفيلالى ثم الرودانى ومن خطه نقلت هـ. حسبما وقفت على ذلك أى أخذ المترجم عن الهلالي بواسطة بخط ولد المترجم الفقيه السيد أحمد المترجم فيما مر على أول ورقة من فهرسة الهلالى المذكور قائلا كذا ذكره والدى في فهرسة أخرى غير هذه هـ.
وأخذ عن الشيخ أبي حفص عمر بن المكى الشرقاوى الصلاة الأمية.
الآخذون عنه: منهم السيد فضول السوسى، والسيد فضول بن عزوز، وابن الجيلانى (1) السقاط، والمختار الأجراوى، ومحمد بن المجذوب بن عزوز، وفخر الرباط، وشيخ الجماعة به أبو إسحاق السيد إبراهيم التادلى في خلق، ولم أحفظ وفاته غير أننى أدركت من أدركه ممن هو الآن حى يرزق.
176 - محمد فتحا السلطان أبو البشائر بن أبي الأملاك والسلاطين المولى الشريف بن على الحسنى الينبوعى السجلماسى
.
حاله: قال اليفرنى في النزهة: وإن شجاعا مقداما لا يبالي بنفسه ولا يجول في خاطره خوف من أحد من أبناء جنسه. قال: وكان قويا أيدا لا يقاوم في المصارعة، وحكى أنه في بعض حصاره لتابو عصامت جعل يده في بعض ثقب القصر وصعد عليها ما لا يحصى من الناس كأنا خشبة منصوبة، أو لبنة مضروبة.
(1) في الموسوعة ص 2761: "الجيلالى".
وقال الضعيف: كان أقوى الناس نجدة وشهامة، وشجاعة وإقداما وزعامة.
وقال في حقه والده: الأسد الأخدع ووصفه أهل الدلاء في بعض رسائلهم بما لفظه: هو الأجدل الذى لا تئوده هموم الليالى، ولا حرارة قيض المصيف الأشهب على قنة كل عقبة، لا يقلعه المال دون حسم الرقبة، وربما عرتنا غفلة فيشن الغارة الشعواء على شعاب شعوب ملوية، وينشر جيوشه على رباط تازا بالرايات والألوية.
وحلاه صاحب الجزائر عثمان باشا فيما كتب له به بقوله: الشريف الجليل القدر، الصادق اللهجة والصدر، من رتق الله به فتوق وطنه، وحمى به من أحزاب الأباطيل أنجاد أرضه وأغوار عطنه.
ووصفه صاحب الدرر البهية والجواهر النبوية: بالعلم والعمل وعلو الهمة، ونفوذ العزمة، والتوقيعات العجيبة، والمراسلات الغريبة.
وقال الكنت دوكاسترى المؤرخ الفرنسى الشهير في المجلد الثانى من كتابه أصول تاريخ المغرب نقلا عن الأسير مويت الفرنسى: وكان -يعنى صاحب الترجمة- إماما عادلا يتصرف في مملكته بحكمة وتدبير هـ.
وقال في النزهة: كان سخيا جوادًا حتى إنه أعطى الأديب الشهير المتقدم في صناعة الشعر الملحون أبا عثمان سعيد التلمسانى نحوًا من خمسة وعشرين رطلا من خالص الذهب جائزة له على بعض أمداحه فيه وحكاياته فيها بالمعنى شهيرة هـ.
بويع له بسجلماسة بعد تشريد أصحاب أبى الحسن على المدعو بو دميعة بن محمد من ذرية أبى العباس أحمد بن موسى السملالى الشهير سنة خمسين وألف.
قال في النزهة: وافق على بيعته أهل الحل والعقد يومئذ بسجلماسة، ولما تمت له البيعة شمر لمضايقة أبى الحسن بدرعة إذ كانت تحت ولايته فوقعت بينهما
حروب يشيب لها الرضيع انجلت بانهزام أبي الحسن وفراره واستيلاء المترجم على درعة.
وفى ضحى يوم السبت ثانى عشر ربيع النبوى سنة ست وخمسين وألف وقعت بينه وبين محمد الحاج الدلائى وقعة الكارة الشهيرة أسفرت حروبها الطاحنة عن انهزام صاحب الترجمة واستيلاء الدلائى على سجلماسة شر استيلاء، وفعل فيها أصحابه شرار البرابر من أنواع الشدة والقساوة كل شنيع، وكان ذلك من جملة ما بذر من الأحقاد والضغائن التي حملت الرشيد أخ المترجم على استعمال الشدة مع أهل الزاوية الدلائية حسبما مر بك.
ثم بعد ذلك انبرم الصلح بين الدلائى والمترجم على أن ما يتصل بالصحراء إلى جبل بنى عياش يكون للمترجم، وما دون ذلك إلى ناحية الغرب للدلائى، ثم استثنى أهل الدلاء خمسة مواضع أُخر كانت في ولاية المترجم أضافوها لولايتهم، وشرطوا على المترجم أن لا يحرك لهم ساكنا فيها.
وبعد ذلك رجع أهل الدلاء في جموعهم، ثم اطلع المترجم على ما أوجب الفتك ببعض الأماكن المستثناه فحكم السيف فيها.
ولما اتصل الخبر بأهل الدلاء كشروا عن أنيابهم (1) وجمعوا جموعهم وساروا إلى سجلماسة مصممين على اجتثاث المترجم وشيعته، وكتبوا له متهددين عليه ورموه بالغدر، وقالوا: إنه ناكث، ومقسم حانث، وأغلظوا القول وَبَالَغُوا في الفحش، فأجابهم برسالة يقول في آخرها: وحتى الآن إن رغبتم في الخير فهو مطلبى. ومغناطيس طبى دران عشقتم الغير فجوابى لكم قول المتنبى:
ولا كتب إلا المشرفية والقنا
…
ولا رسل إلا الخميس العرمرم
(1) في المطبوع: "نيابهم".
ولما انتشر صيت المترجم في الآفاق، وتكاثفت جنوده استقدمه أهل فاس وغيرهم من أهل الغرب وواعدوه النصرة والإمداد بالعدة والعدد، إذ كانوا يتمرضون في طاعة محمد الحاج الدلائى الذى استولى عليهم بعد الإمام أبى عبد الله محمد العياشى المذكور آنفا، فلبى دعوتهم وسار إليهم مسرعا.
ولما بلغ بلاد الحياينة خرج أهل فاس لاستقباله وساروا إلى أن لحقوا به وأتوا به إلى فاس العليا منسلخ جمادى الثانية عام تسعة وخمسين وألف، فألقى القبض على خليفة الدلائي بها إذ ذاك وهو أبو بكر التاملى السوسى وأودعه السجن، وذلك ليلة الجمعة مهل رجب السنة.
وفى سابع رجب المذكور بايعه أهل البلدين المدينة البيضاء وفاس القديم، ولم يزل مقيما بها إلى أن وقعت بينه وبين أهل الدلاء المقتلة العظيمة على ظهر الرمكة بظاهر فاس يوم الثلاثاء عاشر شعبان سنة تسع وحمسين وألف، انكشف سحاب تلك الملحمة عن هزيمة المترجم فدخل لفاس وبقى مدة يدبر الأمور. وينتظر ما يأتي به المساء والبكور.
ولما طال عليه الأمد بفاس الجديد وضعف جيشه وثار عليه أهل فاس أواخر شعبان سنة ستين وألف، انقلب راجعا لوطنه سجلماسة في ثانى عشر رمضان العام، وكانت مدة إقامته بفاس أربعة عشر شهرا وأياما قلائل.
وفى الثالث والعشرين من ربيع الأول عام واحد وستين وألف قام أهل المغرب بدعوة محمد الحاج الدلائى وبايعه أهل فاس، وكتبوا له البيعة في مهل ربيع الثانى من العام، وبسبب ذلك تم استيلاء الدلائيين على فاس وعادت لهم الدولة فيها بعد خروج صاحب الترجمة منها بستة أشهر، وولى محمد الحاج ولده أحمد أميرًا على فاس، ولم يزل على إمرته بها إلى أن لقى ربه في عشرين من
ربيع الأول سنة أربع وستين وألف، ثم خلفه أخوه محمد في الإمرة ومات سنة سبعين وألف.
ثم إن المترجم ولى وجهه شطر تمهيد عمائر الصحراء وبلاد الشرق، فصار يتقصى تلك القرى والمداشر إلى أن بلغ آنكاد، فبايعه عرب الأحلاف وسار بهم إلى بنى يزناسن، وكانوا يومئذ في إِيالة الترك، فحاربهم واستولى لأعراب على ما كان بين أيديهم من الماشية، وسار إلى وجدة وكان أهلها إذ ذاك على حزبين، حزب قائم بدعوة الأتراك، وحزب خارج عنها، فانضم الخارجون عن الأتراك للمترجم وشردوا شيعة الترك عن البلد، فصفت له وجدة.
ثم غزا أعمالها إلى أن دخل أهلها في طاعته، ثم توجه لناحية ندرومة فشن الغارة على مضغرة وكديمة وما إلى ذلك ثم آب إلى وجدة، فأقام بها مدة، ثم توجه إلى تلمسان وأغار على سرحها وسرح القرى المجاورة لها، فبرز إليه أهلها بعسكر الترك الذى كان بالقصبة فأوقع بهم وقعة شنعاء ورجع إلى وجدة، وأقام بها إلى أن انصرم زمن الشتاء.
ثم نهض منها وسار على طريق الصحراء فأغار على الجعافرة وانتهب أموالهم، وهنالك قدم عليه شيخ حميان محمود من بنى يزيد في قبيلته مبايعا، وقدمت عليه دخيسة كذلك وقدمت إليه بيعتها وأغرته على الأغواط وعين ماضى وما والى ذلك، فاستولى على تلك القرى ونهب أموالها وفرت أمامه عرب الحارث وسويد وحصين من بنى مالك بن زغبة، فنزلوا يجبل راشد متحصنين به.
فرجع عنهم واضطربت أحوال المغرب الأوسط وامتدت عيون أهله إلى الانقضاض على الأتراك وأخذ (ياى) معسكر يخندق على نفسه وطير الإعلام إلى صاحب الجزائر بما لحق رعاياهم من صاحب الترجمة، فأخرج صاحب الجزائر عساكره وهيأ مدافعه واستعد للحرب والمقاومة، وقدم نائيه بالعساكر إلى تلمسان،
فلما سمع بذلك المترجم رجع إلى وجدة وفرق العرب الذين كانوا مجتمعين وواعدهم لفصل الربيع القابل، ثم قفل إلى سجلماسة بعد ما شب نيران الحرب في الإِيالة التركية ونسفها نسفا وضرب أولها بآخرها.
ولما وصل عسكر الترك إلى تلمسان واتصل بهم رجوع المترجم لتافيلالت سقط في أيديهم، وقد أحسوا بانحراف قلوب الرعية عنهم حتى أهل تلمسان، وتيقنوا بأنهم قد شوركوا في بلادهم وزوحموا في سلطانهم، فرجعوا إلى الجزائر وأخبروا عثمان باشا بحال الرعية وما نالها، فجمع أهل ديوانه وأرباب مشورته وتفاوضوا في أمر المترجم وكيفية التخلص من سطوته، فلم يروا أجدى لهم من أن يبعثوا إليه برسالة مع اثنين من أعيان الجزائر وعلمائها، واثنين من كبار الترك ورؤسائهم، لأنهم كانوا لا يتمكنون من حربه لو أرادوا ذلك لأنه يغير ويظفر، وينتهب ثم يصحر، فلا يمكنهم التعلق بأذياله، ولا قطع فراسخه وأمياله.
فبعثوا إليه برسالة من إملاء الكاتب أبى الصون المحجوب الحضرى مع الوفد المشار إليه بتاريخ منتصف رجب عام أربعة وستين وألف، جمع فيها بين اللين والصرامة مضمنها طلب تجنب ساحة تلمسان، وأن لا يزاحمها بمجموع رماة ولا فرسان، ليبقى بينه وبينهم الستر المديد على الدوام، ويلغى كلام الوشاة من الأنام.
وقد أورد هذه الرسالة الضعيف في تاريخه، كما أورد جواب المترجم عنها بنصه وفصه وكذا صاحب الدر المنتخب المستحسن، واقتصر في الاستقصا على مكتوب صاحب الجزائر وفقرات من الجواب عنه تركنا جلب ذلك اختصارا وأنفه عما فيه من فحش القول.
ولما رجع لصاحب الجزائر رسله ووجد الجواب خاليا عن الفائدة المقصودة، والضالة المنشودة، ردهم في الحين بدون كتاب، ولما قدموا على المترجم ثانية قالوا له لم يكن لنا علم بما في الكتاب ولو اكتفينا به ما رجعنا إليك، نحن جئناك
لنعمل معنا شرع جدك، وتقف عند حدك، وبالغوا في وعظه واستعطافه إلى أن أخذته قشعريرة وعلاه سلطان الحق فأذعن له، وقال: والله ما أوقعنا في هذا المحظور إلا شياطين العرب انتصروا بنا على أعدائهم وأوقعونا في معصية الله وأبلغناهم غرضهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنى أعاهد الله تعالى أن لا أتعرض بعد هذا اليوم لبلادكم ولا لرعيتكم بسوء، وإنى أعطيكم ذمة الله وذمة رسوله لا قطعت وادى تافنا إلى ناحيتكم إلا فيما يرضى الله ورسوله، وكتب لهم بذلك عهدًا إلى صاحب الجزائر.
وفى أواخر عام أربعة وسبعين وألف على ما في تاريخ الضعيف والدر المنتخب، نهض المترجم من تافلالت لتازا يترقب لفتح الغرب فأكل زرع أهل فاس والحياينة وانتسفه وأفسده، والذى في الاستقصا أن ذلك كان عام ثلاثة وسبعين وألف، ولعل نهبه لزرع أهل فاس والحياينة كان سببه خيانتهم في نصرته وقت كينونته بين أظهرهم ومحاربة أهل الدلاء له.
ووقعت إثر ذلك مجاعة عظيمة أكل الناس فيها الجيف والدواب والآدمى وخلت الدور، وعطلت المساجد. قال الضعيف: كان عدد من دفن من الأموات من المارستان فقط أربعة وثمانون ألفا فيما قيل، دون من دفن من غيره، قال: وكان يعد بحومة الدوح ستمائة رجل فلم يبق منهم إلا ثلاثون، وخرج من فاس جماعة من الأعيان إلى زاوية أهل الدلاء يستغيثون بأهلها من المترجم.
وفى يوم خميس من صفر العام، خرج المولى محمد بن عبد الله بن على ابن طاهر في أهل فاس والحياينة منصورًا لقتال المترجم، ورجع في يوم الثلاثاء القريب منه هـ.
وحكى في الاستقصا ما اقتصر عليه الضعيف من القول بنصر المولى محمد ابن عبد الله وخروجه لقتال ابن عمه صاحب الترجمة بقيل وصدر بقوله: وكان
الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن على بن طاهر الحسنى قد قدم فاسا بقصد أن يبايعه أهلها فلم يجيبوه، اهـ، والله أعلم أى ذلك كان.
وفى صفر العام نزل محمد الحاج الدلائي بأزروا، فخرج إليه أعيان أهل فاس وقاضيها، فقصوا عليه ما فعل المترجم بزرعهم وزرع الحياينة، وقد كان المترجم رجع لبلده، وفى أول ربيع من العام رجع أهل فاس إلى بلدهم وبقى الدلائي بأزروا، إلى أن دخل فصل الشتاء، ورجع الدلائى لزاويته ولم يخرج منها بعد، إلى أن أخرجه الرشيد أخ المترجم لتلمسان قهرا حسبما أفاده الضعيف.
وفى العام نفسه نهض المترجم من تافلالت وسار إلى أن نزل قرب تلمسان وذلك لما بلغه استيلاء أخيه الرشيد على تلك الناحية وما والاها، ثم زحف إليهم مع خديمه القائد أحمد أعراص، ولما التقى الجمعان كانت النصرة للمترجم على أهل سمسان فهدم قصبتهم، وفر أخوه الرشيد لحوز بنى يزناسن قرب دار ابن مشعل، ورجع المترجم لبلده ثم اتصل به أن أخاه المذكور كثرت عليه الجموع. وأن أمره فيهم نافذ ومسموع، فزحف إليه ثانية والتقى الجمعان بقرب سيدي بوهدبة فأضرمت بينهما نيران الحرب التي لم تنطفئ إلا بموت المترجم رحمه الله.
تنبيه وإيقاظ: اعلم أولا أن حكم الخلافة والإمامة [وهى أى الإمامة خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوز الملة] هو الوجوب بدليل السمع بقول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
…
(59)} [سورة النساء 59] أمر سبحانه في هذه الآية -والأمر للوجوب- بطاعة أولى الأمر منا، وهم المتأمرون علينا ولا يجب ذلك للأمة على الله تبارك وتعالى عقلا ولا بالعقل مع السمع خلافا لمن زعم ذلك من أهل الابتداع، كما أن القول بجواز ذلك فقط ساقط لما ذكرناه من دليل الوجوب، ثم هذا الوجوب هو كفائى فقط لأنه إذا قام به من هو أهل له سقط عمن عداه من الأمة، وإلا وقع في الحرج
فريقان من الناس، أحدهما أهل الاختيار والحل والعقد حتى يختاروا للناس إماما، الثانى أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم.
وشروط الفريق الأول العدالة المانعة من تعمد خلاف ما يجب، والعلم الموصل لمن يصلح للانتخاب، وسداد الرأى المؤدى لاختيار من هو أهل، فإن وجدت هذه الشروط فلا يرجح فيها أهل بلد الإمام الذى كان قبل إلا من جهة كونهم أسبق علما بموت الأمير قبل، ومن جهة كون الغالب أن من يصلح للإمامة يوجد بين أظهرهم.
وشروط الفريق الثانى الاجتهاد العلمى أصلا وفرعا، والشجاعة وسداد الرأى، هذا مذهب الجمهور وغيرهم، لا يشترط هذه الثلاثة لأنها لا تكاد تجتمع في شخص، وإنما المتأكد أن يكون عدلا، فإن كان غير عدل لم يجز الإقدام على نصبه للإمامة اختيارا، فإن وقع ونزل فظاهر النصوص أنها تفوت بعقدها ولا تنقض لما في النقض من المفاسد، وإذا كان هذا فيمن انعقدت ولايته مع فسقه فكيف بمن طرأ فسقه بعدها.
وأما إذا كانت ولاية من ولي بالتغلب وعظم الشوكة فإنه لا تجوز منازعته ارتكابا لأخف الضررين، ولا يشترط فيه حينئذ شرط، على ذلك حمل ابن العربى حديث وأن لا تنازع الأمر أهله قائلا: المراد بأهله من ملكه لا من استحقه، لأن وجود الأمر فيمن يملكه أكثر منه فيمن يستحقه والطاعة واجبة في الجميع ما لم يأمر بمعصية، وإلا فلا طاعة له.
ومن شروط الإمامة: أن يكون عاقلا ليصلح للتصرفات، بالغا لقصور عقل غيره، ذكرًا لكون النساء ناقصات العقل والدين، حرا لئلا تشغله خدمة السيد ولئلا يحتقر فيعصى، وزاد أهل السنة ومن وافقهم من المعتزلة أن يكون قرشيا لحديث الأئمة من قريش، ولرجوع الأنصار له واتفاق الصحابة على العمل به يوم السقيفة
لما احتج به عليهم أبو بكر، وبذلك صار إجماعا قاطعا ولا حجة للمخالف في حديث السمع والطاعة ولو للعبد الحبشى لتعين تأويله إما بحمله على أن المأمور بالسمع والطاعة له فيه إنما هو نائب عن الإمام في بعض الجهات، أو في بعض الأمور، وإما بحمله على المبالغة والفرض والتقدير دون الوقوع، وإما بحمله على حالة التغلب بالقوة وعظم الشوكة لما تقدم من أنه في تلك الحالة تسقط الشروط.
أما في غير ذلك فالأمة مجمعة على عدم جواز نصب العبد إماما اختياريا، ولابد من اعتبار شرطين آخرين نبه عليهما الماوردى وغيره، وهما أن يكون سميعا بصيرا، وأن يكون سليم الأعضاء بحيث يتأتى له قوة الحركة وسرعة النهوض، ولا يشترط مع ذلك أن يكون هاشميا خلافا للشيعة، ولا كونه عالما بالفعل بسائر مسائل الدين أصلا وفرعا خلافا للإمامية، ولا ظهور الكرامة على يده خلافا للغلاة، ولا كونه معصوما خلافا للإسماعيلية والإمامية، ودليل عدم اشتراط هذه الأربعة ما تقدم من الإجماع القطعى على بيعة أبى بكر مع كون هذه الشروط ليست ثابتة فيه.
ثم اعلم ثانيا أن الإمام المنصوب، إن تمشت إمامته على المطلوب فيها من حفظ المصالح الدينية والدنيوية فلا إشكال أن طاعته تستمر، وإن خالف ذلك وظهر الخلل فإن كان مع بقاء انتظام أحوال المسلمين، وعدم انتكاس أمور الدين، وإنما الخلل الظاهر منه في غير ذلك، فهذا يجب الصبر على ما ظهر منه ولا يجوز خلعه عند جمهور أهل السنة ما لم يفض تهوره إلى ترك إقامة الصلاة وتغيير الشرع والارتداد عن الملة، وإلا فالإجماع كما في الإكمال لعياض على قتاله ومحله إذا تخيلت الأمة النصرة عليه، فإن تحققت عدمها سقط عنها وجوب قتاله ووجب عليها الهجرة من بلاده.
وأما إن كان اختلاله راجعا إلى اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أمور الدين، فإن ذلك يسوغ للأمة خلعه لأنه كما كان لهم نصبه لانتظام ذلك وإعلائه كذلك يكون لهم خلعه إذا ظهر منه ضد ما نصب له، نعم إن أدى خلعه إلى الفتنة فإنه يجب والحالة هذه درء أعظم المفسدتين، ثم في الحالة التي قلنا إنه يجب الصبر ولا يجور الخروج عليه إن فرضنا أنه وقع ونزل وقام عليه من هو موصوف بالعدالة وجبت نصرة العدل، حتى يظهر دين الله، هذه زبدة ما طول به أئمتنا في هذا الموضوع.
إذا تمهد ذلك فاعلم أن صاحب الترجمة لما رأى ظهور العجز والهرم في الدولة السعدية وعدم انتظام الأمور وكثرة وقوع الخلل في أحوال الرعية والترامى على الخلافة ممن ليس من أهل منصبها ولا ينتظم به أمرها، وقويت أطماع المجاورين للإِيالة المغربية من الأوربيين، وكثر الهرج والمرج، وفسدت السابلة وعدم الأمن فيها، وتعذر على السعديين رتق ما انفتق (1) بقيام عبد الكريم بن أبى بكر الشبائى المعروف بكروم الحاج، وأبى عبد الله محمد بن أحمد المالكى الزياتى الشهير بالعياشى صاحب المواقف الشهيرة في الإسلام المتوفى شهيدًا بعين القصب من بلاد الخلط تاسع عشر المحرم عام إحدى وخمسين وألف، والدلائيين برابرة مجاط وبودميعة المذكور آنفا، وصنوه أبى حسون كما ذلك مبسوط في غير ما ديوان مطبوع.
وقد أومأنا فيما مر لشذرات من ذلك على سبيل الإيجار وكان من قاتل تحت راية عمية (2) يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل، فقتلة
(1) في المطبوع: "انتفق" والفتق: الخلاف بين الجماعة وتصدع الكلمة.
(2)
في هامش المطبوع: "بالكسر والضم مشددتى الميم والياء من العمى الضلالة كالقتال في العصبية والأهواء".
جاهلية كما ورد عن المعصوم عليه صلوات الله وسلامه فيما أخرجه مسلم والنسائى عن أبى هريرة.
وأنس المترجم من نفسه الكفاءة للقيام بأعباء الخلافة وحسم مادة الشقاق وتنازع المسلمين بقمع البغاة المعتدين كما آنسه الناس فيه لما تقدم ومن وصفهم له مع ما جمعه الله فيه من شرف المحتد وأصالة الرأى وكرم النفس زيادة على ما سبق لسلفه، من الجلوس على عرش الملك، كما أحكمه التاريخ من أن جده الأعلى الأخص بفرعه النفس الزكية، كان ممن تربع ذلك العرش بالاستحقاق، ثم عرضت الخلافة على جده الأوسط المولى على الشريف من أهل الحل والعقد فامتنع من قبولها، وبهذه الصفة الشرعية انتصب المترجم لإحياء ذلك الموات، وطالب ملك أبيه لا يرمى بالافتيات، ولا سيما بعد تحققه وتحقق أهل بلاده السابقين لمبايعته أنه الكفء الفذ لذلك المنصب السامى، غير أنه حيث كان الموجب الأولى لانتصابه هو ظهور الاختلال وانتشار الغاصبين للمنصب في أركان الإِيالة وزواياها، لم يجد بدا من تقديم الأهم الذى هو جمع الكلمة والسعى حول محو التشويش والإفساد، فلذلك انصرفت أيام ولايته وإن طالت كلها في تمهيد هذا المقصد فأنفق فيه مبلغ جهده، وإن عاقته الأقدار عن الوصول فيه لحده، ولعله لذلك لما رأى معززه في مقصده أخوه المولى الرشيد أن أخاه لم يبلغ من هذا المقصد النفيس الذى انتصب ونصب له ما يريد ويراد منه تصدى أواخر دولة أخيه في أطراف البلاد لجمع الكلمة، فكان من عادته فتقدم تمهيده في ولاية أخيه.
والمولى الرشيد وإن قصرت مدته لم ينتقل لدار الكرامة حتى جمع الكلمة في جميع أقطار المغرب، فكان أخوه المترجم هو المؤسس والمقتحم لتسوية عقبات الانتظام، وصنوه الرشيد هو الذى أكمل الله على يده للأمة أمر تسوية مصالح دينها ودنياها بعد أن فاز أولهما وهو المترجم برتبة الشهادة حيث قتل في حالة الدفاع عن الإمامة المنعقدة له.