الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَيدَ اَنّ كُلَّ من استجار بزاويتهم، واستظل بظل عنايتهم، ينهى إلينا خبره، فيحمد إن شاء الله ورده وصدره، ولا يكون واسطة بيننا وبينه، ولا كلام لأحد من وال أو عامل أو قريب أو بعيد فيها دونه، لأن مكانته الفضلى، لا زالت صحف آيها توحى وتتلى، وتجدد معالمها ولا تبلى، مثل ما كانت حظوته الشهيرة عند سيدنا الوالد ومولانا الجد المقدسين المنعمين وأرفع وأعلى.
كما جددنا له أيضًا على الخطابة بمنبر القرويين والإمامة بها عمرها الله بدوام ذكره وعلى جميع ما بيده ويد إخوانه من الأوقاف الماضية، والصدقات الجارية إعانة لهم عما هم بصدده من تدريس العلم وبثه ونشره، وتحصيل ثوابه وأجره، بحيث أن من حام حول ساحتهم، أو رام جانب مساحتهم، تلزمه العقوبة، ولا يقبل منه عذر ولا مثوبة، وحسب الواقف عليه من الولاة والخدام، أن يبادر بالامتثال لما أنفذته الأوامر والأحكام، ويقف عند ما تضمنه الطرس وسطرته الأقلام، والسلام، وفى العشرين من جمدى الثانى عام واحد وسبعين ومائة وألف.
اختياراته المذهبية وما رأى من المصلحة حمل القضاة والمدرسين عليه
ونظم العدلية الشريفة بإيالته أصدر في ذلك أولا منشورًا إليك نصه بعد الحمدلة والصلاة على رسول الله:
"هذا ظهير كريم، يجب أن يتلقى بالتبجيل والتعظيم، صدر بأمرنا المطاع، يعلم منه أننا نأمر سائر القضاة بسائر إيالتنا أن يكتبوا الأحكام التي يوقعونها بين الناس في كل قضية، ولا يهملوا كتابة الحكم في شئ من القضايا، وليكن المكتوب رسمين يأخذ المحكوم له رسما يبقى بيده حجة على خصمه إذا قام عليه
يوما ويأخذ المحكوم عليه رسما ليعلم أن القاضى حكم عليه بالمشهور (1) وعلى كل قاض من القضاة أن يعمل بموجب ما ذكرناه، ويقف عند ما رسمناه، لكونه حكما شرعيا، ومنهاجا بين قضاة العدل مرعيا.
ومن خرج عما ذكرناه بأن حكم ولم يكتب حكمه أو لم يشهد عليه العدول، فهو عندنا معزول، وتناله منا العقوبة التامة، ونأمر الواقف عليه من عمالنا وولاة أمرنا أن يقفوا في هذا الأمر حتى يجرى عليه عمل القضاة، ولا يهملوه إلا في المحقرات التافهة المقالات".
ثم أتبعه بما نصه:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، مسائل المذهب باعتبار الحكم فيها وفاقا وخلافا على خمسة أقسام: الأول ما هو متفق على إثبات الحكم فيه، الثانى ما أثبت الحكم فيه الأكثر كالثلثين ونفاه الأقل كالثلث وهو المعروف عند الفقهاء بالمشهور والراجح، الثالث ما اختلف فيه على قولين متساويين إثباتا ونفيا، الرابع ما أثبت الحكم فيه الأقل كالثلث ونفاه الأكثر وهو المسمى عند الفقهاء بالمرجوح وبمقابل الراجح والمشهور، الخامس هو ما أثبت الحكم فيه رجل أو رجلان ونفاه الباقى وهو المسمى بالشاذ (2) فالأقسام الأربعة ما عدا الأخير نعمل بها كلها في عبادتنا (3)، والقسم الخامس وهو الشاذ لا نعمل به
(1) في هامش المطبوع: "هو صميم الحق الذي لا عوج فيه ولا أمتا إذ كثيرا ما يحكم بعض قضاة الجور لفظا ويمتنع عن كتابة الحكم ومن إعطائه نسخة للمحكوم له أو عليه وقد شاهدنا من هذا كثيرا. هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "هذا منه رحمه الله جرى على ترادف الراجح والمشهور وهو قول في المسألة وقيل بتغايرهما. هـ. مؤلف".
(3)
في هامش المطبوع: "لا خفاء في ثبوت النص على جواز العمل بالضعيف للمرء في خاصة نفسه عند الضرورة وأن ذلك هو فائدة ذكر الأقوال الفقهية مع امتناع الحكم بغير المشهور وعليه فما قاله المترجم يحمل على ما لا ضرورة فيه هـ. مؤلف".
فيها، وأما غير العبادات مما يتعلق به حقوق العباد كالنكاح والطلاق والعتق والمعاملات الجارية بين الناس، فالعمل عندى فيها بالأقسام الثلاثة، وهى المتفق عليه والمشهور وما تساوى فيه الطرفان (1).
وأما القسمان الباقيان وهما مقابل المشهور والشاذ فلا أعمل بهما في حقوق العباد خوفا من المحذور، بخلاف العبادة فأعمل فيها بمقابل المشهور دون الشاذ لأن العبادة بينى وبين ربى، ودين الله يسر كما قال تعالى: {
…
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
…
(78)} [سورة الحج 78] وقال صلى الله عليه وسلم: من غصب شبرًا من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة.
والرجال الذين ذكرت يعتبر اتفاقهم واختلافهم، فإنما أعني بهم أصحاب الإمام مالك الذين حملوا عنه مذهبه، كابن القاسم، وأشهب، وابن نافع، وابن وهب، ومطرف وابن الماجشون وغيرهم ممن أدرك الإمام مالكا، وكذلك الذين جاءوا بعده ولم يدركوه فأخذوا عن أصحابه كسحنون، وابنه محمد، وأصبغ، وابن المواز، وابن حبيب، وابن عبدوس، والقاضى إسماعيل وغيرهم، وكذلك الذين جاءوا بعد هؤلاء كالأبهرى، وابن أبى زيد، والقابسى، وابن القصار، والقاضى عبد الوهاب وأضرابهم.
ثم تلامذتهم كأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبى عمران الفاسى، وابن يونس، وابن شعبان، ثم اللخمى، والمازرى، وابن رشد، وابن العربى، وسند،
(1) في هامش المطبوع: "نص أئمتنا على أن الذى تجوز به الفتوى والحكم أربعة المتفق عليه والراجح والمشهور وقد علمت أن الأمر هنا مبنى على ترادفهما والقول المساوى لمقابله حيث لا مرجح هـ. مؤلف".
وعياض وأمثالهم (1).
ولست أعنى الأجهورى وأصحابه، وكل فتوى أفتى بها الأجهوريون فإن وافقت قول العلماء الأقدمين الذين تقدم ذكرهم فنعمل بها، وإن لم توافقهم فلا نعمل بها وننبذها وراء ظهورنا (2).
(1) في هامش المطبوع: "على نحو هذا المسلك كان الإمام أبو إسحاق الشاطبى فقد نقل الونشريسى في معياره والسودانى في تكميله عنه أنه كان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين ولا يرى لأحد أن ينظر في الكتب المتأخرة وخصوصا من تنبيه ابن بشير وجواهر ابن شاس ومختصر ابن الحاجب وقد قرر هذا في مقدمة كتابه الموافقات ولكن قد هيأ الله تعالى في عصر الشاطبى المذكور محرر المذهب وحافظه وملخصه الإمام أبو عبد الله بن عرفة فتتبع أمهات المذهب وسبر رواياته وعرض عليها ما في كتب المذكورين فما وجد له أصلا فيها قبله وما وجده ليس كذلك أنكره قائلا إنه لا يعرفه حسبما بسط ذلك في ديوانه الحفيل ومختصره، وعلى ذلك نهج بعض حفاظ أصحابه كالإمام أبى عبد الله بن مرزوق كما نبه عليه في ديباجة شرحه على المختصر وعلى تنقيح المذهب وتحريره من ابن عبد السلام شيخ ابن عرفة في شرح ابن الحاجب وكذا الشيخ خليل في توضيحه حتى قال الإمام الخطاب في باب القضاء من شرحه على المختصر لما تكلم على شروط الفتوى ما نصه ويكفى الآن أن فيما يعول عليه المفتى في فتواه وجود المسألة في التوضيح أو في ابن عبد السلام هـ. وعلى ما يجب التمشى عليه قضاء وفتوى قصر الإمام أبو المودة خليل مختصره الذى قال فيه الإمام أبو العباس الهلالى في نور البصر فكم أراح من التعب الفادح النفوس والخواطر. وأسدى ما هو أجزل من الغيوث المواطر. هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "إن ما تفردت به كتب الأجاهرة محذر منه لدخوله دخولا أوليا في قول الشهاب القرافى تحرم الفتيا من الكتب الغريبة التي لم تشتهر حتى تتظافر الخواطر عليها ويعلم صحة ما فيها وكذا الكتب الحديثة التصنيف إذا لم يشتهر إعزاء ما فيها إلى الكتب المشهورة أو يعلم أن مؤلفها كان يعتمد هذا النوع من الصحة وهو موثوق بعدالته ويعضد ما قاله المترجم قول الهلالى في نور البصر ونصه: ومن الكتب التي لا يعول على ما انفردت به شرح العلامة الشهير المكنى بأبى الإرشاد نور الدين الشيخ على =
فيجب على القاضى أن يحكم في حقوق الناس بالمتفق عليه ثم يقول الأكثر وهو المشهور، ثم بأحد القولين المتساويين بعد أن يجتهد في القول الذى يحكم به منهما (1) خشية أن يضيع حق المساكين، ويميل إلى قوى.
فكل من ثبت له حق من المساكين بأحد القولين المتساويين فليثبته له بذلك القول، وليلغ القول الذى يبطل به حق المسكين (2) فإذا حكم القاضي بما ذكرنا كان قد استبرأ لدينه وعرضه.
= الأجهورى على المختصر كما ذكر ذلك تلميذه العلامة النقاد أبو سالم سيدى عبد الله العياشى في تأليفه "القول المحكم في عقود الأصم الأبكم" وشار إلى ذلك في رحلته ومن مارس الشرح المذكور وقف على صحة ما قاله تلميذه المذكور والمراد شرحه الوسط وأما الصغير فقد ذكره أبو سالم وسألت عنه بمصر فما وجدت من سمع به وأما الكبير فذكر لى أنه لم يزل في مبيضته وقد نقل عنه تلميذه الزرقانى في بعض المواضع وما قيل فيه يقال في شرح تلامذته وأتباعه من المشارقة كالشيخ عبد الباقى والشيخ إبراهيم الشبرخيتى والشيخ محمد الخرشى لأنهم يقلدونه غالبا -هذا مع أن الأجهورى حرر كثيرا من المسائل أتم تحرير وقررها أوضح تقرير وحصل كثيرا من النقول أحسن تحصيل وفصل مجملات أبين تفصيل فشرحه كثير الفوائد لمن يميز حصباءه من دره ولا يطويه على غره وقد سألت بالجامع الأزهر من القاهرة عن شرح تلميذه الشيخ عبد الباقى فقيل لى ما رأيك فيه فقلت لا ينبغى للطالب أن يترك مطالعته لكثرة فوائده ولا أن يقلده في كل ما يقول أو ينقل لكثرة الغلط في مقاصده وقد هيأ الله بعد ذلك أئمة حفاظًا نقادًا لتمييز غث شروح الأجاهرة من سمينها كالشيخ مصطفى الرماصى والشيخ بنانى والشيخ التاودى والشيخ الرهونى فزيفوا سقيمها وعضدوا صحيحها حتى صار بذلك الآن السالم من التعقب من شرح الزرقانى عمدة القضاة والمفتين. هـ. مؤلف".
(1)
في هامش المطبوع: "صريح في أنه يجب عليه في القولين المتساويين أن يجتهد في أحدهما ولا يختار واحدا منهما دون اجتهاد وهو قول الشاطبى كما يأتى هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "هذا من المترجم تنبيه على بعض طرق الاجتهاد في الذى يحكم به من أحد القولين المتساوين وكأنه اختيار منه والمنقول في ذلك بعد القول بالتخيير الذى =
وأين القضاة الذين كانوا يحكمون بما ذكرنا ولا يهملون حق المساكين، وإنما نظر القضاة اليوم إلى صاحب المال لماله وصاحب الجاه لجاهه فيحكمون لهم ويغلبونهم على المساكين بالقول الشاذ والعياذ بالله، وأما أنا فكل قضية وصلت إلينا فإننا ننظر في الحكم الذى حكم به القاضى، فإن وجدناه حكم بالمتفق عليه فعلى بركة الله، وإن وجدناه حكم بأحد القولين المتساويين وأثبت حق المسكين وألغى الطرف الآخر فكذلك، وإن وجدناه حكم بالقول الآخر الذى يلغى فيه حق المسكين فلا يلومن إلا نفسه، وكذلك إذا حكم بالقول الشاذ فإنه يجب على السلطان نزعه وعقوبته".
ثم أتبع ذلك أيضًا بما نصه:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
اعلم أن هاهنا فوائد لا بد منها، ومسائل لا يستغنى عنها، تشتمل على سبعة فصول.
الفصل الأول: أن المرأة لا توكل روجها لاستخراج حقوقها (1)، وإنما توكل قريبا من أقاربها أو أجنبيا وما يقبضه لها من حقوقها يدفع بيدها وتبرئه منه، ولا
= انتقده الشاطبى وتابعه الهلالى وعلى ضده مر المترجم ما تقدم هو الترجيح بأن أحد القائلين أعلم من مخالفه أو بكون أحد القولين أشد وأغلظ من الآخر كما أن المنصوص تحذير المفتى من قصد إضرار أحد الخصمين بفتواه وإرادة نفع الآخر فتأمل ذلك فإن القوى والضعيف في الحق سواء وكذا في اجتناب الحيف على أحدهما وإنما مراد المترجم بهذا الأخذ بالأحوط لضعاف الخلق الذين لا جاه لهم ولا وجاهة وسدا لباب التشهى والميل مع الأغنياء لأجل غناهم هـ. مؤلف".
(1)
في هامش المطبوع: "هذا أخذ بالأحوط للزوجة لأن الزوج قد يكرهها على توكيله باطنا ويظهر المطبوع به ولا تجد مخلصا إلا بتوكيلها إياه والغالب أنه يستولى على ما قبضه لها ويدخله في مصالحه. هـ. مؤلف".
يدفعه لزوجها، فإن دفعه له فلا براءة له منه (1) إلا أن يكون زوجها ابن عمها وأحبت أن توكله فلا بأس.
الفصل الثانى: ينادى في أسواق البلد بالبراح أن لا يعامل أحد معدما بفلس أو غيره (2)، وإنما يعامل من له دار أو جنان أو غيرهما من الأملاك فيعامل بقدر ما تساويه أملاكه، فإن عامل أحد معدما لا دار له ولا جنان فقد أتلف ماله ولا يسجن ولا يحكم عليه، ومن عنده الأملاك فإنما يعامل بعد البحث عنه خشية أن يكون عليه دين آخر.
الفصل الثالث: أن من انقرض فيه دين خفيف كمائة مثقال فما دونها وكانت له صنعة مثل تنجارت وتخرازت أو غيرهما فليجعل له القاضى مسألة، وهى أن يعطى من أجرته لرب الدين نصفها (3) ويعيش بنصفها، فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل ينفى من البلد، فإن عاد إليها خلد في السجن (4).
الفصل الرابع: أن المال المنقرض إذا كان كثيرا نحو ثلاثة آلاف مثقال فأكثر وكان الشخص المقروض فيه المال مفلسا ليس عنده ما يدفع في الدين، فإنه ينفى
(1) في هامش المطبوع: "هذا هو المنصوص في كل من دفع لغير من ائتمنه والوكالة العرفية غير معمول بها ولذا يطلب الزوج بوكالة زوجه هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "إعلان حال المفلس حتى يتجنب الناس معاملته ولا يقع ضياع لأحد مصرح بوجوبه وعليه جرى عمل قضاة العدل هـ. مؤلف".
(3)
في هامش المطبوع: "كون ذى الصنعة يعطى من أجرته نصفها قضاء عن دينه يأتى على قول اللخمى إن الصانع يجبر على التكسب لأنه على ذلك عامله الناس هـ. مؤلف".
(4)
في هامش المطبوع: "هذا زجر له عن عصيانه وتعزير والتعزير موكول لنظر الإمام واجتهاده وأمر شئ على الإنسان إخراجه من داره ووطنه {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ
…
(66)} [النساء] الآية. هـ. مؤلف".
من البلد، فإن عاد إليها خلد في السجن (1) وهذه المسألة وإن كانت بدعة فقد رأيناها مستحسنة، ولذلك أمرنا بها إذ ربما يكون الرجل عنده أموال الناس ويظهر العدم ويأكلها في داره، والجلاء أمر عليه من السجن، فإن كان أخفى مالًا فإنه يخرجه، وإن لم يكن عنده شئ صبر على الجلاء.
الفصل الخامس: إذا تخاصم رجل مع زوجته فلا يسجنه القاضى (2) لها إن لم يكن ضربها بحث القاضى عن سبب ضربه لها فإن كان على ترك الصلاة أو على إتلاف ما له فيصلح القاضي بينهما، وإن كان على غير ذلك بأن كان ضربها ضربا فاحشا أو بالحديد فليعزلها القاضى عن زوجها ويردها إلى أهلها، ولا ترجع إليه حتى يتوب ويأخذ بخاطرها، وهذا الأمر الذى أمرت به من أن الزوج لا يسجنه القاضى فيه مصلحة عظيمة عامة نافعة للزوج وللزوجة، وذلك أن الزوجة إذا رفعته إلى القاضى وسجنه لها فإن مال الزوج يضيع بذلك، لأن القاضى يأكل منه طرفا، وأعوان القاضى يأكلون منه طرفا، والسجان يأكل طرفا، فهذا مال الزوج قد ضاع بين هؤلاء، ومع ذلك الزوجة لا تتوصل بحقها.
الفصل السادس: أن من قبض رهنا من حتى أو جوهر أو غيرهما فليرفعه إلى القاضى ويقومه القاضي بحضور أرباب المعرفة حتى تعرف قيمته وتكتب بالعدول، بحيث إذا تلف ذلك الرهن فلا تقع بين المتراهنين خصومة ولا إنكار (3)،
(1) في هامش المطبوع: "فيه سد للذرائع وعدم تسرع الناس لأكل أموال بعضهم بعضا بالباطل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
…
(29)} [النساء] وكثيرا ما يتقاعد المفترض على المال ويدعى الفلس وقد تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "ليس السجن في حق الزوجة محتمًا وإنما المدار على زجر الظالم منهما وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام ونظره. هـ. مؤلف".
(3)
في هامش المطبوع: "فيه احتياط لجانب المتراهنين وحسم لمادة النزاع بينهما لأن الحلى مما يغاب عليه فيضمنه المرتهن إذا تلف ويبقى بينهما النزاع في قدره وصفته هـ. مؤلف".
وأما إذا لم تعرف قيمة ذلك الرهن وبقى أمره مجهولا وتلف، فإنه يقع بينهما من النزاع والخصومات ما لا يكيف، ويوجب القاضى اليمين على أحدهما وربما يحلف على شئ مجهول لم تعرف قيمته فيهلك.
الفصل السابع: إذا أراد الرجل شراء ملك أو دار أو جنان أو أرض حرث أو غيرهما، فلابد أن يأتى إلى قاضى البلد ويعلمه أنه أراد شراء دار في الحومة الفلانية أو جنان بالموضع الفلانى أو فدان بالموضع الفلانى، ويقول الذى أراد الشراء للقاضى إنى أشاورك في هذه الدار مثلا أو غيرهما، فإن أنت وافقتنى اشتريت ذلك وإن لم توافقنى تركت ذلك، فيتعين على القاضى حينئذ أن يبحث أشد البحث في ذلك ويأمر بإحضار رب الدار أو غيرها بين يديه ويسأله بأى وجه دخل بيده هذا الملك الذى أراد بيعه هل بإرث أم بشراء أم بهبة أم بغير ذلك؟ ويأمره بإحضار الرسوم ويتأملها حق تأملها، فإن وجدها موافقة للشرع ولا نزاع لأحد في الملك المذكور لا من جهة شفعة ولا استحقاق ولا ملك غير فحينئذ يوافق مشتريه على الشراء، وإن وجد غير ذلك أخره عن الشراء ويقول له هذا الملك فيه شبهة لا يحل لى أن أوافقك على شرائه، وهذا الأمر المذكور لا يباشره إلا القاضي بنفسه، ولا مدخل للعدول في ذلك لا بكتابة ولا بغيرها، وإن أشكل على القاضى الأمر في صحة ملكية ذلك للبائع وتوقف، فليناد أهل الحومة بذلك الملك ويسألهم عن سبب ملكية البائع لذلك الملك الذى أراد بيعه، فإن كان جنانا فليناد على جيرانه في الجنان، وإن كانت دارا فليناد على جيرانه في الدار وما شهد به الجيران المذكورون يثبته القاضى، ولا يبقى في ذلك كلام، فعند ذلك ينادى القاضى ويدفعه للبائع ويشهد عليه بالبيع العدول، ويثبت له القاضى رسمه، فحينئذ يكون القاضى هو الذى تولى البيع بنفسه فيبقى ذلك الرسم صحيحا مخلدا لذريته ولعقبه ولا يجد من ينازعه فيه أبدًا، وإن وقع بعد ذلك قيام غائب أو
وارث، فدرك ذلك على القاضى لأنه هو الذى تولى البيع بنفسه، وعلى هذا (1) يكون عمل القضاة في سائر بلدان المغرب. نطلب الله الهداية لنا ولكم ولسائر المسلمين وقيدناه عن أمير المؤمنين مولانا محمد بن أمير المؤمنين مولانا عبد الله الشريف الحسنى الله وليه ومولاه".
"واعلم أن هذا الوقت وقت صعب كثر فيه الظلمة المتمردون ومن جملتهم الذين يريدون أن يأكلوا أموال اليتامى، يأتون إلى رب الملك الذى عنده فيه بعض الورثة أو بعض الحق للغير من شفعة مثلا أو غيرها، فيأتى ذلك الظالم المتمرد ويشترى ذلك الملك الذى فيه النزاع ويتقوى على المسكين صاحب الحق بالمال والرشوة حتى ينزعه منه، ويشهد له العدول، والقاضى يعمل له خاطره ويضيع حق ذلك المسكين، وبعض القضاة يحكمون لذلك الظالم بالفتاوى الواهية التي لا عمل عليها حتى يضيع حق ذلك المسكين".
"مسألة أخرى: إذا حكم القاضي بحكم وكان ذلك الحكم مشهورا وذهب المستفتى ليأتي بحكم آخر مشهور، فإنه لا يعمل به ولا يحكم إلا بالحكم الأول (2) إذا كان، وإذا أتى المستفتى لصاحب الفتوى وقد كان حكم عليه القاضي بحكم مشهور فليطرده ولا يفتى له، ويقول له: إن القاضى قد حكم عليك بحكم مشهور فلا نفتى لك بفتوى، وإن أفتى له بقول آخر مشهور فتلزمه منا العقوبة التي تأتى على نفسه؛ لأن المفتى يريد أن يعينه بفتواه على الخصام وأكل أموال الناس، وإذا كان القاضى قد حكم عليه بقول ضعيف وكان في المسألة قول آخر مشهور أصح
(1) في هامش المطبوع: "في التمشى على هذه الكيفية احتياط وحسم لمادة النزاع فلا يضيع مال المشترى ولا يبقى نزاع غالبا مع أحد استقبالا ولا مانع من هذا شرعا. هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "موضوعه إذا كان القولان معا مشهورين وحكم القاضي بأحدهما فحكمه رافع للخلاف كما صرح به الفقهاء. هـ. مؤلف".
مما حكم به القاضى فليفت له، ويتعين حينئذ على القاضى أن يحكم بذلك القول المشهور، الذى أفتى به صاحب الفتيا، وإذا تمادى القاضى على حكمه الواهى ولم يعمل بالقول المشهور الذى كتب به المفتى فواجب على السلطان نزعه وينقض ذلك الحكم الأول؛ لأن الحق أحق أن يتبع، انظر قضية السيد سلمان الفارسى مع سيدى أبى الدرداء رضى الله عنهما في المسانيد إن كنت من أهل الحديث وطالعها".
ثم أتبعه بما نصه:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، اعلم أنه مما ينبغى الإسراع إليه، وتنبيه قضاة الوقت عليه، أن كل من أراد أن يشترى دابة أو أمة أو عبدًا فإنه لا يعقد الشراء مع المالك الذى أراد البيع إلا بعد التقليب الشافى، والاختبار الكافى، فإن لم يكفه التقليب في اليوم الأول زاد اليوم الثانى، وإلا زاده اليوم الئالث، فإن خلصه في اليوم الثالث وحاز المشترى مشتراه والبائع ثمنه فلا رجوع للمشترى على البائع بشئ يجده في مشتراه، وإن كان سبب موته وهلك في يده لأنه كان قلب ورضى وحاز وتصرف، وقد أمرنا بهذا الأمر لما ظهر لنا فيه من المصلحة ورفع النزاع، ولا سيما وبياطرة الوقت قد قلت أمانة الغالب منهم فيستخرجون عيوبا ليست موجودة في الدابة.
فنأمر جميع القضاة وغيرهم من الولاة في سائر إيالتنا السعيدة أن يعملوا بأمرنا هذا ويقفوا عنده، وأن لا يتجاوزوا حده، والقاضى لا يثبت رسما يتضمن ما قام به المشترى من العيوب المذكورة، وإنما يثبت رسم الاستحقاق -يعنى إن سرقت دابة أو ذهبت- ولا يقبل القاضى شهادة أجنبى إلا إذا كان من جيرانه إن كان من أهل الحضر، ومن جيرانه إن كان من أهل البادية؛ لأن الأجنبى لا علم له بالدابة، وإن شهد شهد زورًا، وجيرانه تكون عندهم معرفة الدابة متحققة لأن مرورهم عليها في الصباح والمساء.
ومسألة فصل القضاء على الدواب مسألة صعبة كثيرًا، وأنا أُبينها وأبدأ بالفرس لأنه أشرف الدواب، فإن كان الفرس من عتاق الخيل فإن أهل ربعه النازلين معه كلهم يعرفون الفرس معرفة شافية لحسنه وجودته، فإذا سرق الفرس المذكور وأتى أهل الربع المذكور يشهدون على الفرس فأول شهادتهم السب والشتم لمن وجد في يده لمعرفتهم به فلا يبلغون إلى القاضى حتى يملأوا أذنيه سبا وشتما، فعند ذلك يقولون للقاضى: هذا الفرس نعرفه كما يعرف بعضنا بعضا.
وإن كان جملا في غاية الجودة وحسن الصورة، فهو ملحق بالفرس في شهادته.
وإن كان ثورا في غاية الحسن والجودة فإنه يلحق بهما.
وبقى فصلان يكون الفرس والجمل والثور المذكورات ليس بالردئ ولا بالجيد، فإذا جاء الشهود يجيئون إليه ويدرون به ويتأملونه، فإذا استوفيت البينة منهم أخذه صاحبه.
والقسم الثالث: أن يكون الفرس أو الجمل أو الثور أو الحمار رديئا جدا، فهذا تصعب البينة عليه ولا يعرفه إلا ربه أو جيرانه، فلا يجد صاحبه من يكمل له البينة، فيجب على القاضى أن يصلح بين من وجدت في يده وبين من ادعى أنها ملكه، ولا يلتفت القاضى إلى البياطرة وأقوالهم.
فكل من اشترى دابة وحازها فلا يرجع على بائعها إلا في مسألة واحدة ترجع بها الدابة، وهى أنه إذا كان فيها الداء المسمى بالمغلة فإنها ترجع لصاحبها، ولو أقامت عند المشترى سنة، وأما الداء الذى يسمى بالذباب فإن ظاهر الدابة التي يكون فيها تكون عجفاء شحبا ويكون ظاهرا في. . . (1) وفى عينيها، فإذا اشتراها
(1) مكان النقط بياض بالمطبوع. وبالهامش: "بياض بالأصل المنقول منه، هـ. مؤلف".
أحد وقال: إنها تسمن عنده ويقلب فيها البيع، فإذا ماتت في يده فلا قيام له على البائع الذى اشتراها منه وضاع في ماله".
ثم أتبعه بقوله:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
الفصل الأول: يعلم من كتابنا هذا أننا أمرنا أولاد السيد فلان يصرفون زكاتهم وأعشارهم على ضعفائهم ومسجدهم إن لم تكن له أوقاف، فإن صرفوها في غير محلها فعهدتها في رقابهم.
الفصل الثانى: لا مدخل لعاملهم في زكاتهم ولا في أعشارهم ولا أمورهم بل يصرفونها كما ذكر أعلاه، وإن طمحت نفس العامل لأخذ البعض منها، فإنه يعاقب عقوبة شديدة ويعزل عن عمله.
الفصل الثالث: إن اشتغل أحد منهم بالفساد مثل السرقة أو غيرها من الفواحش أو التعدى على البعض من المساكين ويزعم أنه من أولاد السيد فلان وليس ذلك المسكين مثله في الدرجة فقد كذب، فإن عامل بلده يعاقبه بما يناسب جنايته بالحدود الشرعية؛ لأن المسلمين كلهم في حق الله سواء، ولا يعاقب بالمال، انظر إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
…
(13)} [سورة الحجرات: الآية 13] وانظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد، لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".
وعلى أولاد السيد المذكورين أعلاه بتقوى الله في السر والعلانية، ولله در القائل:
ألا إنما التقوى هى العز والكرم
…
وحبك للدنيا هو الفقد والعدم
ثم أتبعه بقوله:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. ليعلم جميع من يتولى خطة القضاء أنا أمرناه أن لا يباع على غائب أو محجور ذكر وأنثى فيما يستقبل من تاريخ كتابنا هذا عقار أو ربع، فإن اطلعنا على رسم يتضمن ذلك فإنا نعاقب القاضى عليه بالعقوبة الشديدة ويفسخ ذلك ولا يمضى منه شئ، ويبقى الغائب على حقه إلى أن يقدم، والمحجور حتى يخرج من حجره.
وإذا أراد الشريك البيع على الغائب أو المحجور يشترط على المشترى أن لا يحدث في البيع شيئا من هدم أو بناء أو نحو ذلك.
وكذلك أمرنا من ذكر أيضًا أن لا يكتب في الأصدقة أزيد من أربعين مثقالا إذ هى غالب أصدقة السلف الصالح وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من يمن المرأة قلة مهرها، وقالت مولاتنا عائشة: من شؤم المرأة كثرة صداقها، وقال سيدنا عمر: لا تغلوا في صدقات النساء فإنه لا يبلغنى عن أحد أنه ساق أكثر مما ساقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال.
ومذهب مالك كراهة المغالاة فيه، فإن رضى المتعاقدان على النكاح بأزيد مما ذكرنا فلا يكتب في الصداق، ولا يكون الصداق إلا ناجزًا كله، ولا يؤخر منه شئ لأن في ذلك قطعا لمادة الخصام.
قال ابن الماجِشُون: كان مالك وأصحابه يكرهون أن يكون شئ من الصداق مؤخرًا، وكان يقول: إنما الصداق فيما مضى ناجز كله، وكره في المدونة تأخير بعض الصداق، وإنما كرهه لمخالفته لأنكحة الماضين، فإن كتب في الصداق أزيد
مما ذكرنا أو كتب فيه كالئى فإنا نعاقب القاضى وشاهدى النكاح بالعقوبة الشديدة نكالا لغيرهم ولا يطالب أب أو ولي بشورة بل يكون ذلك موكولا إلى مروءته، وهذا في غير نكاح الأشراف.
وأما هم فيتركون على ما هو معروف بينهم، غير أنه يكون كله ناجزًا ولا كالئى فيه كما ذكرنا.
وكذلك أمرنا من ذكر أيضًا أنه إن وقعت خصومة بين الزوجين أن يرد الزوجة لدار أبيها أو وليها إن كان، وإلا فالقاضى ينظر أين يضعها، وما ذكرنا من رد الزوجة لدار أبيها أو وليها إنما ذلك بعد بعث القاضى حكما من أهله وحكما من أهلها ليصلحها بينهما، فان اصطلحا فذاك المراد.
وإن نفخ الشيطان في رأس أحدهما فليفعل ما ذكرنا، ولا تطلق عليه إلا إذا كان عن طيب نفس منه بخلع أو غيره وقدم لدار أبيها أو وليها ويقول له: قد طلقت ابنتك عن طيب نفس منى طلقة بائنة، وهذا الحكم شامل في الحواضر والبوادى، وما ذكرنا ينفى طلاق المكره ولا يبقى في هذا الطلاق شبهة البتة، ولا يلزم زوجها نفقة في تلك المدة إلى أن ترجع برضاها إليه.
وأما إذا كانت غضبى في دار أبيها واستمرت عمل نشوزها ولم يوفق الله بينهما فطلب الزوج منها أن ترد إليه ما دفع إليها وتخالعا على ذلك فلا نفقة لها لأن هذا وقت صعب قلت فيه الأمانة، وكثرت فيه الخيانة، فإذا سكنها بين الناس وكان الزوج ذا مال وجاه ربما شهدوا له أنها هى الظالمة أو كانت هى كذلك ربما شهدوا لها بظلمه، وعلى جميع ما ذكرنا يكون عمل كل من ولينا والسلام في السابع والعشرين من جمادى الأولى عام ثلاثة ومائتين وألف".
ثم أتبعه بقوله:
"الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله، رسالة مفيدة قد نبذ ما فيها قضاة المغرب وعدولهم، واقتصروا على مختصر خليل وشروحه، وصار أعظم فتاويهم منها لعمرى أن من اشتغل بأخذ الفقه من خليل وشروحه وترك أخذ الفقه من كتب الأقدمين المرضيين الذين نفع الله بهم المسلمين، فإنه كما قيل هرق الماء واتبع السراب وهذا أول كلامنا في الرسالة المذكورة، وهى في فتاوى الأقدمين المأخوذة من كتب الأئمة المرضيين رضى الله عنهم وأرضاهم.
أولهم الإمام القدوة أبو عبد الله سيدى محمد بن الحسن الشيبانى رحمه الله تعالى الذى حمل مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة رضى الله عنه على كاهله، وحمل أيضًا مذهب الإمام مالك رضى الله عنه على كاهله، وقرأ عليه عالم قريش الإمام أبو عبد الله سيدى محمد بن إدريس الشافعى رضى الله عنه، فهذا الشيخ المذكور رضى الله عنه أعنى سيدى محمد بن الحسن الشيبانى، إليه ترجع رواية المذاهب الثلاثة، فإذا أردت معرفته وعلو درجته فانظر ترجمته في مسند الإمام أبى حنيفة يتضح لك جميع ما ذكرنا، وتجده مستوفى كما أشرنا.
ثم يليه من أصحاب مالك الذين حملوا عنه مذهبه كابن القاسم، وأشهب، وابن نافع، وابن وهب، ومطرف، وابن الماجشون وغيرهم ممن أدرك الإمام مالكا، وكذلك الذين جاءوا بعدهم ولم يدركوه فأخذوا عن أصحابه كسحنون، وابنه محمد، وأصبغ، وابن المواز، وابن حبيب، والقاضى إسماعيل، وابن عبدوس وغيرهم، وكذا الذين جاءوا بعد هؤلاء كابن القصار، والقاضى عبد الوهاب، والأبهرى، والقابسى، وابن أبى زيد فهؤلاء الأئمة المذكورون هم المقتدى بهم في أقوالهم وأفعالهم ولا تصح الفتوى إلا من كتبهم.
وأما من اشتغل بالفتاوى المأخوذة من أقوال الأجهوريين وغيرهم من أصحاب خليل مثل بهرام، والبساطى، والتتائى، والسنهورى، والسودانى، وأمثالهم من أصحاب خليل وترك الفتوى من كتب الأقدمين المرضيين المذكورين فقد خرج عن المنهاج القويم، والصراط المستقيم.
ففى معيار المغرب، والجامع المعرب، عن فتاوى إفريقية والأندلس والمغرب فيما نقله عن الإمام المقرى ما نصه: لقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها، وقد نبه عبد الحق في التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع، وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع، ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف، وانقطعت سلسلة الاتصال فصارت الفتاوى تنفذ من كتب لا يدرى ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها وقلة الكشف عنها.
ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة أبى الحسن اللخمى لكونها لم تصحح على مؤلفها ولم تؤخذ عنه، وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط مثل الأجهوريين وغيرهم من شراح خليل.
وقد نص بعض المحققين من علماء وقتنا هذا على أنه لا يعتمد على ما انفردوا به ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ولم يكن هذا فيمن قبلنا، فلقد تركوا كتب الأقدمين المرضيين رضى الله عنهم واشتغلوا بكتب المتأخرين من أصحاب خليل واقتصروا عليها وأفنوا أعمارهم في حل ألغازها حتى قال بعضهم نحن أناس خليليون، إن ضل ضللنا، وإن اهتدى اهتدينا، وقد أقسم أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله لقضاة وقته، أن من أفتى منهم بغير فتوى الأقدمين المذكورين في رسالته هذه أنه يعاقبه عقوبة شديدة ويجعله نكالا لمن بعده ممن يفتي بالفتاوى الواهية التي لم يبلغ سندها إلى الأقدمين رضى الله عنهم آمين، فهذه جمله تهديك إلى أهل العلم وتريك ما غفل عنه الناس".
ثم أتبعه بقوله:
"الحمد لله والصلاة على رسول الله
الفصل الأول: أن الرجل إذا أتى بشهادة عدلين للقاضى على رجل أنه طلق زوجته وأنكر الزوج ذلك فلا يعمل بشهادتهما (1)، لاسيما إن كان الشهود من أهل الدكاكين الذين هم أسرع الناس إلى الزور، ومعاشهم كله زور، حتى يبحث القاضى عن تلك القضية الشهرين أو أكثر حتى يتحقق له مصداق ذلك، فربما يكون الرجل القائم بالشهادة بينه وبين المشهود عليه مشاحنة أو مكترى عليه حاصل الأمر كل من هو قاض وأسرع بالطلاق بشهادة العدلين فقد دخل مدخلا ضيقا فإن وقع له ما يكره فلا يلوم إلا نفسه والأمر صعب، وقد كثرت شهادة الزور بل ينبغى له التأمل والتثبّت في مثل هذه المسألة الشهور المتعددة حتى يتضح له الأمر ولا يبقى له إشكال.
الفصل الثانى: إذا أتى أبو الزوجة بشهادة عدلين على زوج ابنته، وأنه طلقها وأنكر الزوج ذلك أيضًا فلا يصح ذلك الطلاق إلا إذا أتى والدها بشهادة اثنى عشر رجلا من أهل حومته، وأما أهل الدكاكين فلا تقبل لهم شهادة (2)، فحينئذ يصح الطلاق، ويتأتى القاضى في تلك القضية ويبحث فيها غاية البحث.
(1) في هامش المطبوع: "هذا منه إفصاح بفشو شهادة الزور وإلزام القاض بالتثبت في الشهود والاستكثار منهم، ولا ريب أن هذا الأمر مطلوب عند ضعف العدالة، ورحم الله بعض شيوخنا فقد كان كثيرا ما يقول: كل الناس عدول إلا العدول، وكان بعض الصالحين إذا مَرّ بسماط دكاكين الشهود يهرول حتى يخرج منه ويقول: "وأسرعن في بطن وادى النار" لكن فائدة ذكر مثل هذا التنبيه للأخذ بالأحوط ما أمكن، وعدم الاغترار بكل منتصب للإشهاد، وإلا فلكل زمن عدوله، وليس نقص العدالة خاصا بالمنتصب لتلك الخطة بل هو سار في سائر أصحاب الولايات والحيثيات، ومع ذلك فلا بد لكل متميز من مراعاة تمييزه عن غيره واعتقاد وجود المميز له في الجملة، وإلا اختل النظام وبطلت تمشية إجراء ما لله من الأحكام، فلا نجاة إلا في التمشى مع ظاهر الشريعة التي جاءت عامة في المكلفين من غير تخصيص في كل زمان وأوان هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "هذا اختيار من المترجم لم يتصل به عمل ولا عضده أصل وفيما علق عن القوله قبله ما يغنى عن التطويل وأهل الدكاكين إن كانوا معدلين عند من رأى =
الفصل الثالث: إذا حلف رجل بالحرام وحنث وشهد عليه بالحنث اثنا عشر رجلا أو أربعة عشر رجلا فأكثر من أهل حومته أو دواره أو سوقه، ورفعوا شهادتهم به إلى القاضى، فإن القاضى يحكم عليه بالطلاق في الحين ويعزله عن زوجته وتبقى حتى تعتد، فإذا أراد ردها وطابت نفسها فليردها له بصداق جديد.
الفصل الرابع: إذا حلف رجل بالحرام الثلاث وحنث وشهد على حنثه اثنا عشر رجلا فأكثر من أهل حومته أو دواره أو سوقه، فإن القاضى يطلق عليه زوجته من حينه، ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (1).
الفصل الخامس: في البيع والشراء والعمل فيه على ما قدمنا به الكتب وأن المعاملة لا تقع إلا بين يدى القاضى والمتسببين، فإن أتى الغريم بشهادة عدلين وأنه
= الإمام فيه أهلية الوقت لخطة القضاء فترجيح شهادة غير المعدلين عليهم هو مع ما فيه من قلب الحقائق عائد بالخلل على ولاية ذلك القاضى وعلى موليه أيضًا، وإذا بطل الأصل والفرع لم يبق بيدنا ما نتمسك به ووقوع شهادة الزور من بعض المنتصبين لا توجب إبطال المنصب جملة لعظم مفسدته كما قد علمت ولم يمر زمان من زمان النبوة فما بعده إلا وقد وجد بعض من يرتكب كبائر الذنوب فيه وإن كان ذلك في الخلف أكثر منه في السلف ولم يبطل ذلك المنصب ولا أخل بما اقتضته حكمة الله في ذلك فالتمسك بالشريعة هو عين الحق حتى يقضى الله بين الخلق. نعم يتعين على من ولاه الله أمر العباد أن لا يرشح للمناصب إلا من يستحقها ولا سيما المناصب الشرعية، فإن كثيرا من المتسنمين ذرى المناصب الدينية لا يرقبون في مؤمن إِلًّا ولا ذمّة، يرتكبون أمورًا تدنس وجه الشرع الإسلامى وتوهم من لا علم له بحقيقته أن الدين لا يأبى ذلك، وأن ذلك خلق أهله فيعدم الثقة بهم جملة وتفصيلا، ومن اطلع على ما يرفع كل يوم لوزارة العدلية الشريفة والجنايات من موبقات العدول التي تخجل المروءة وتصادم الدين عذر المترجم في اختياره هذا. هـ. مؤلف".
(1)
في هامش المطبوع: "هو كذلك لأنها مبتوتة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره بشروطه المقررة. هـ. مؤلف".
دفع لصاحب الحق من مال المعاملة شيئا من غير حضور القاضى والمتسببين المذكورين وأنكر صاحب الحق ذلك، فلا يقبل القاضى شهادة العدلين، والمال باق بذمة الغريم، ولا يحكم بتلك الشهادة إلا إذا أتى الغريم بشهادة القاضى والمتسببين الذين حضروا للمعاملة أنه برئت ذمته من المال المذكور أو بعضه، وكذلك إن أراد الغريم المذكور أن يدفع ربع المال أو نصفه أو ثلثه، فإن كان المال له بال من ألف مثقال فأكثر، فلا تبرأ ذمة الغريم المذكور من المال المذكور أو بعضه بشهادة العدلين إلا إذا دفع المال بمعاينة القاضى.
وإن كان المال شيئا قليلا من مائة مثقال فأقل وأراد الغريم المذكور أن يدفع منه شيئا لصاحب المال فليدفعه له بالعدول الثقات، فلا يحتاج إلى معاينة القاضى إلا في المال الكثير كما ذكرنا، وأما المال القليل من مائة مثقال فأقل فقد سبق حكمه وبيانه، وأنه يدفع بمعاينة العدول الثقات من غير حضور للقاضى.
والحاصل من أن هذا الزور اليوم فشا والعياذ بالله فكل من أتى بشاهدين على مال أو على طلاق فإن شهادتهما مردودة وإن قبلها القاضى، فتلك جرحة فيه، لأنهما اثنان وهو ثالثهما، فقد شهدا بالزور وهو ثبته لهما فهو أعظم ذنبا منهما، وكل من هو قاض يتفطن لهذا الأمر، فإن وقع في شئ مما نهى عنه وأصابته عقوبة فلا يلوم إلا نفسه".
ثم أتبعه بقوله:
"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله: كان القضاة والمفتون المتقدمون يأخذون الفتاوى في كتب الأقدمين المقبولين، واليوم والعياذ بالله يأخذون الفتاوى من كتب المتأخرين كالأجهوريين وغيرهم الذين هم ليسوا المقبولين، ولم يبلغ سندهم إلى الأئمة الأقدمين، فلا عمل عليها ولا حكم بها، ولا يفتى بها مفت، ولا يعمل بها قاض.
فإذا لم يبلغ سندها إلى فتوى الأقدمين فسندها باطل، وكل فتوى بلغت إلى الأئمة الأقدمين فالعمل بها واجب، ويحكم بها القاضى والمفتى والقضاة.
والمفتون اليوم والعياذ بالله قد مزجوا فتاوى المرضيين بالفتاوى الواهية غير المرضية ويحكم القاضي بتلك الفتوى الواهية، ويمشى المحكوم عليه مغلوبا إلى المفتى فيفتى له أيضًا بفتوى واهية ويغلبه على صاحبه، واشتغلوا بتغليب هذا على هذا بالفتاوى الواهية، فالقاضى وأصحابه يأكلون المال من الخصمين الذين تشارعا بالباطل، والمفتى كذلك يأكل بفتاويه الواهية أموال المسلمين بغير حق حتى يطول الشرع بين الخصمين المتحاكمين بفتواه المذكورة حتى إذا كان الخصمان المذكوران يتحاكمان على مائة مثقال تذهب منها خمسون مثقالا في دار القاضى، ثم بعد ذلك يحكم عليهما القاضي بالفتاوى الصحيحة، فينصرف كل واحد منهما إلى سبيله ويا ليته قد حكم عليهما أولا بالفتاوى الصحيحة، فيحصل له الأجر ورزقه على الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والدراهم التي أكل من الخصمين حلاوتها تفنى ويبقى مريرها فكيف به يوم القيامة إذا جاء مفلسا، فإن الخصمين المذكورين يأخذان حسناته ويلقيان عليه سيئاتهما فذلك المفلس الذى أخذت حسناته وألقيت عليه سيئات غيره".
ثم اتبعه بما يقوله:
"الحمد لله وحده مسألة أخرى: أعلم أن الأيتام المهملين الذين لا وصى عليهم من أب ولا مقدم من قاض إذا اشتدت بهم الحاجة إلى بيع ملك لعدم وجود ما يباع عندهم غيره ليصرف عليهم في مأكلهم وملبسهم، فإن القاضى يأمر ببيع ذلك الملك ويتسوق به المدة المعتبرة شرعا إلى أن يقف سومه، فإذا وقف فينظر القاضى في ذلك السوم، فإن شهد له أهل المعرفة بالإملاك بأن ذلك سومه فليبعه لمن وقف عليه ويصرف ثمنه في مصالح الأيتام المذكورين، وإن شهد أهل المعرفة
بأن ذلك الملك بيع بثمن بخس، فإن ناظر الأحباس أو بيت المال يتولى شراءه (1)، وكذلك يكون الحكم في بيع الملك على الغائب أو الصغير، بحيث إذا قدم الغائب أو كبر الصغير وأراد كل واحد منهما رد أصله فليرده له الحبس أو بيت المال، بخلاف إذا اشتراه الغير بثمن بخس وأراد الشافع رد ملكهم، فيقع بينه وبين مشتريه خصومة ولجاج في رده".
ثم أتبعه بقوله:
"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله، نأمر جميع القضاة أن لا يتركوا عونا من الأعوان الذين يشعبون الخصام بين الناس بالباطل ويأكلون أموالهم وهم الذين أقاموا بدار القضاة السنة فأكثر يتوكل (2) على أحد، وإن جاء للقاضى وكيلا على أحد ولم يطوفه القاضى في الأسواق بوكالته ويطرده فلا يلوم إلا نفسه، وإن أرادت امرأة من ذوى المروءة أن توكل أحدًا فإن القاضى أو زوجها يوكل عنها من هو رجل خير ليس له أرب في طول الخصام وتشعبه وأكل أموال الناس بالباطل، وعلى هذا يكون العمل إن شاء الله.
باب في الأنكحة: وأما العمل في الأنحكة فمن أراد التزويج فإن كان غنيا والزوجة غنية كذلك فيدفع في صداقها إن كانت بكرا أربعين مثقالا نقدا مقدما لا
(1) في هامش المطبوع: "فيه تصوين لمال الأيتام حتى لا يفوت عليهم ملك بغبن ولا بخس في الثمن فمصلحة الأخذ به واضحة ومدار أمر الأيتام على جلب المصالح ودفع المضار هـ. مؤلف".
(2)
في هامش المطبوع: "أعوان القاضى قسمان: قسم شأنه جلب الخصوم وهؤلاء لا يتوكلون وعليهم يطلق عندنا اسم الأعوان، وقسم شأنه تعاطى الخصام ويعرفون لدينا بالوكلاء، وفى عدم تطويل مدتهم مصلحة. ومن عرف منهم بتشغيب الدعاوى يجب طرده وعدم قبوله وكيلا بحال هـ. مؤلف".
مؤخر فيها، وإن كانت ثيبا يدفع لها عشرين مثقالا معجلة كذلك، ولا يكون في الصداق مقدم ولا مؤخر، وإنما يكون الصداق هو ما دفعه، وإن أراد الزوج أن يدفع أكثر من ذلك يتبرع به لأجل الظهور والسمعة أو لأن تأتى له الزوجة بأكثر مما دفعه لها من الشورة والزينة وغير ذلك، فيكون ذلك بحسب أهل المروءات، فمن كثرت مروءته كثرت شورته لبنته، ومن قلت مروءته قلت شورته لبنته، إلا أن ما تأتي به الزوجة المذكورة من الشورة هو لها، ولا كلام للزوج فيه البتة، وما يدفع الزوج لولى الزوجة من المال ولو كان مالا له بال هو زائد على الصداق فلا يعد عند الطلاق، وإنما هو للمرأة، وكذلك الشورة فإنها الزوجة أتت بها من دار أبيها، وإن وقع بينهم طلاق تمشى المرأة لدار أبيها بشورتها ولا تباعة للزوج عليها، وإن وقع كره منها من غير سبب تبقى في دار أبيها أو أقاربها ولا تطلق إلا إذا أراد الزوج الطلاق ولا يقبض منها غير الذى هو مكتوب في العقد لا غير، والمال الذى يزاد للمرأة لأجل جمالها ليس هو من الصداق، فإن أهل البوادى يسمونه المأكلة، ولا يكتب في الصداق، وحاصل الأمر ليس هو من الصداق في شئ، سواء كان من أهل البوادى أو أهل الحواضر.
وإن كان الزوج فقيرا لا مال عنده والزوجة كذلك فيدفع في تزويج البكر عشرة مثاقيل، وفى تزويج الثيب خمسة مثاقيل ولا يزيد على ذلك شيئا، ويدفع ذلك مقدما لا مؤخرا فيه، بحيث إذا وقع الطلاق بين الزوج والزوجة وادعت أنها بقى لها من صداقها شئ فلا يقبل قولها، ولا تسمع دعواها، فبمجرد الطلاق لم يبق بينها وبين الزوج نزاع ولا تباعة، وهذا يشمل الأغنياء والفقراء.
وأما العمل في التزويج في الحاضرة فهو أن الرجل إذا زوج ابنته من رجل آخر يصنع الطعام في داره وينادى على أهل حومته وسوقه وأقاربه وغيرهم ويأتى بالطبالين والمسامع ويشهر ذلك كل الشهرة حتى يسمع الناس كلهم أن فلانا تزوج
من عند فلان بنته فلانة، ويأكلون الطعام ويقرءون الفاتحة ويدعون له بالخير والبركة والتأليف بينهما، ويخرجون من عنده.
وكذلك إن وقع الطلاق بينهما تأتى الزوجة لدار والدها أو أحد من أقاربها وتصنع ما تيسر لها من الطعام الخفيف، ويحضر جيرانها ويأكلون ذلك الطعام ويعلمون أن فلانا الفلانى طلق زوجته فلانة بنت فلان الفلانى، ويدعون لها الله يرزقها خلفا أفضل من ذلك الرجل الذى طلقها.
وأما العمل في البوادى فهو أن الرجل إذا زوج بنته من رجل آخر، فإما أن يكون الزوج في الدوار الذى هو به أولا، فإن كان معه في دواره فيصنع الزوج الطعام في خيمته وينادى على أهل الدوار وغيرهم للجامع ويأكلون الطعام فيه ويشهرون ذلك الزواج بالنداء والزغاريت وغير ذلك مما جرت به عاداتهم، حتى يسمعه كل واحد ويقرءون الفاتحة ويدعون لها بالبركة والخير والتأليف بينهما، وتصير الزوجة زوجة له وعلى قبله، ففى أى وقت تيسر له وسهل عليه صنع الوليمة يصنعها، هذا إن كانت الزوجة بكرا، وأما إن كانت ثيبا فذلك الطعام الذى يصنع ويأكله الناس وتقرأ الفاتحة به هو يكفى في ذلك، ويأتى الزوج بزوجته إلى خيمته أو داره.
وأما إن كان الزوج في دوار والزوجة في دوار آخر فإن الزوج يبعث للزوجة للدوار الذى هى فيه بالشياه والدقيق والإقامة وتصنع الطعام في خيمتها وتنادى على أهل الدوار وغيرهم ويأكلون الطعام عندها، وتشهر النكاح المذكور بالنداء والزغاريت كما ذكر ويقرءون الفاتحة ويدعون لها بالخير والبركة.
وكذلك إن وقع الطلاق بينهما يجعل ما خف من الطعام ويحضر أهل الدوار في الجامع ويأكلون ذلك الطعام ويعلمون أن فلانا طلق زوجه فلانة ويدعون لها الله يرزقها خلفا أفضل.
وأما هؤلاء العدول الذين يشهدون على التزويج وعلى الطلاق فلا يعمل بشهادتهم، وأن فلانا تزوج بنت فلان وهى فلانة على صداق قدر هكذا، فإن تلك الشهادة باطلة لا يعمل بها، وإنما العمل في التزويج والطلاق هو ما ذكرناه وبيناه.
قال عبد الله أمير المؤمنين محمد بن مولانا عبد الله: عدول هذا الوقت لا أُثبت شهادتهم ولا أُجوزها على حمار عائب لا فائدة فيه أحرى على تزويج مسلمة وهم كما قيل:
لقد سألت هنيئا موجودا
…
أبهتانا تريد أم كذوبا
وقد أشار لهذا المنشور الكاتب ابن عثمان في رحلته البدر السافر حيث يقول إنه قد خرج التوقيع بأمره المطاع، وأمر أن يفشى ويذاع، ويذكر في الأندية ويشاع؛ بأنه إذا تزوج رجل وامرأة وتراكنا. فليظهرا ذلك علنا ولا حاجة إلى أولئك الذين تسموا بالعدول لما علم أنهم عن الحق عدول الخ.
ووقفت له أيضًا قدس الله روحه على منشور رسم فيه ما يجب على القضاة التمشى عليه في الأحكام الشرعية وما يعاقب به من خالف ما رسم له منهم، وكذا أئمة المساجد ونظام الدروس في كلية القرويين وغيرها، وبيان ما يدرس فيها من الفنون والكتب وما لا؛ وجه بذلك لعلماء مصر يطلب منهم إعمال النظر فيه، ثم ما ظهر لهم صوابه يقرونه بخطوطهم وما كان غير صواب ينبهون عليه كذلك ليرجع عنه وإليك نص المنشور:
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، قال عبد الله أمير المؤمنين محمد بن عبد الله: ليعلم الواقف على هذه الفصول المذكورة في هذا الكتاب أننا أمرنا باتباعها والاقتصار عليها ولا يتعداها إلى ما سواها.
الفصل الأول: في أحكام القضاة، فإن القاضى الذى ظهر في أحكامه جور وزور وما يقرب من ذلك من الفتاوى الواهية مثل كونها من كتب الأجهورية ولم
يبلغ سندها إلى كتب الأقدمين، فإن الفقهاء يجتمعون عليه ويعزلونه عن خطة القضاء ولا يحكم على أحد أبدا.
الفصل الثانى: في أئمة المساجد، فكل إمام لم يرضه أهل الفضل والدين من أهل حومته يعزلونه في الحين ويأتون بغيره ممن يرضون إمامته.
الفصل الثالث: في المدرسين في مساجد فاس، فإنا أمرناهم أن لا يدرسوا إلا كتاب الله تعالى بتفسيره، وكتاب دلائل الخيرات والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كتب الحديث المسانيد، والكتب المستخرجة منها، والبخارى ومسلما وغيرها من الكتب الصحاح، ومن كتب الفقه المدونة، والبيان والتحصيل، ومقدمة ابن رشد، والجواهر لابن شاس، والنوادر والرسالة لابن أبى زيد وغير ذلك من كتب الأقدمين، ومن أراد تدريس مختصر خليل فإنما يدرسه بشرح بهرام الكبير، والمواق، والخطاب، والشيخ على الأجهورى والخرشى الكبير لا غير، فهذه الشروح الخمسة بها يدرس خليل مقصورا عليها وفيها له كفاية وما عداها من الشروح كلها ينبذ ولا يدرس به، والشيخ على الأجهورى والخرشى الكبيران لم يكونا عندكم بفاس فأعلمونا بهما لنوجههما لكم تنسخون منهما وأنتم أعلمونا هل عندكم أم لا، ومن ترك الشراح المذكورين واشتغل يدرس بالزرقانى وأمثاله من شراح خليل، فإنه يكون كمن أهراق الماء واتبع السراب، ومن وصل في قراءته إلى قول خليل مسكين خليل أكلت لحمه الكلاب أو خليل خلق بهراما، فحين يصل لهذا الباب الذى فيه هذا الكلام الخبيث والعياذ بالله يجوزه ولا يذكره ولا يتعرض لقراءته، ويقرأ من الباب الذى يليه، وكذلك الذى يقرأ الشفا فحين يصل للربع الأخير يختم الكتاب ولا يقرؤه، وكذلك الذى يقرأ البخارى فحين يصل لحديث الإفك يتركه ولا يتعرض لقراءته.
وهذه المسائل التي نهينا عن قراءتها فمن تعرض لقراءتها ونالته عقوبة على أيدينا فلا يلوم إلا نفسه، لأن المسائل التي نهينا عن قراءتها لم يذكرها أحد من
أئمة المسانيد رضى الله عنهم، ولا تعرضوا لها، والعلماء الأقدمون رضوان الله عنهم أمثال السيوف اليمانية يفرقون بين الحق والباطل بضربة واحدة، وهؤلاء الأجهوريون ونظراؤهم في أمثال العصا، أترى السيف يشبه بالعصا، وقد قال القائل:
ولا شك أن السيف ينقص قدره
…
إذا قيل هذا السيف خير من العصا
وكذلك قراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كالكلاعى، وابن سيد الناس اليعمرى.
وكذا كتب النحو كالتسهيل والألفية وغيرهما من كتب هذا الفن، والبيان بالإيضاح، والمطول، وكتب التصريف وديوان الشعراء الست ومقامات الحريرى، والقاموس، ولسان العرب وأمثالهما مما يعين على فهم كلام العرب، لأنها وسيلة إلى فهم كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك بها نتيجة.
ومن أراد علم الكلام فعقيدة ابن أبى زيد رضى الله عنه كافية شافية يستغنى بها جميع المسلمين. وكذلك الفقهاء الذين يقرءون الأسطرلاب وعلم الحساب، فيأخذون حظهم من الأحباس لما في ذلك المنفعة العظيمة والفائدة الكبيرة لأوقات الصلاة والميراث هـ.
وعلى هذا يكون العمل إن شاء الله. الحمد لله وحده.
ومن أراد قراءة علم الأصول فإنه أمر قد فرغ منه، ودواوين الفقه قد دونت ولم يبق اجتهاد، والطلبة الموجودون في الوقت كل من أراد منهم أن يتعاطى علم الأصول فإنى أقول فيه أراد أن يتزبب قبل أن يتحصرم. اهـ. بحمد الله وتوفيقه. الحمد لله. ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلاسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون، ومن تعاطى ما ذكرناه في المساجد ونالته عقوبة فلا يلوم إلا
نفسه، وهؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة ويضلون طلبة البادية، فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه في الدين وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها يظنون أنهم يحصلون على فائدة بالعلوم المذكورة ويتركون مجالس التفقه في الدين واستماع حديث خير المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وإصلاح ألسنتهم بالعربية فيكون سببا في إضلال الطلبة المذكورين وهؤلاء الطلبة يظنون أنهم ماهرون في العلوم المذكورة فمن جاء يستفتيهم في مسألة فقهية لا يحسنون الجواب فيها.
وهذه العلوم التي نهينا عن قراءتها كان أعظم من يأمر بالاشتغال والاعتناء بها في زماننا من أيام سيدنا ومولانا إسماعيل قدس الله روحه إلى وفاته السيد أحمد بن مبارك الفيلالى عفا الله عنا وعنه، وأخلفه فيها السيد عمر الفاسى:
قال عبد الله أمير المؤمنين مولانا محمد بن مولانا عبد الله: لو كنت قاضيا لم أقبل شهادتهما ولم أثبهما؛ لأن السيد أحمد بن مبارك سمعت من الناس الثقات الذين ليس بينهم وبينه مشاحنة أنه كان يفتي بالفتاوى الواهية لتضييع حقوق المسلمين، ولا يخفى عنكم ما ذكرنا، ونأمر الفقيه السيد التاودى أن يكون عمله على ما في هذا الكناش هـ بحمد الله 120327.
ونص ما كتب به لفقهاء مصر:
"الحمد لله إلى السادات الفقهاء بمصر عموما وخصوصا سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ورضوانه، ونطلب من الله لنا ولكم الهداية والتوفيق بجاه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب.
أما بعد: فاعلموا رعاكم الله أننا وجهنا مع ولدنا الأرضى سيدى عبد السلام أصلحه الله هدية للسادات الأشراف مبينة في هذا الدفتر فالله يتقبلها، كما نريد
منكم أن تطالعوا مسائل أُخر مؤكدة في هذا الدفتر يمنته قد أمرنا قضاة المغرب أن يحكموا بها فما كان منها على صواب أثبتوه واكتبوا عليه بخطوط أيديكم، وما كان منها على خطأ فاكتبوا عليه أيضًا بخطوط أيديكم في الدفتر المذكور لنرجع عنه، ووجهوا لنا الكناش بعينه وعليه خطوط أيديكم.
وكما يصلكم أيضًا تأليف سميناه اختصار الحطاب نريد منكم أن تطالعوه فالله يوفقنا وإياكم بمنه آمين يا رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .. بلفظه.
وفعلا نكل من حاد عن سلوك الجادة وخالف ما رسم له من التعاليم الشرعية، والقوانين المرعية، من قضاة المغرب فقد عزل قاضى مراكش فارس عبد العزيز العبدلى لسلوكه في خطته غير الجادة واستبداده على غيره من العلماء وإهانته لهم وسجنه وفلسه واستصفى أمواله وأجنته.
قال في الترجمان المعرب: إن هذا القاضى كان جريئا قوى الشكيمة لا يقيم لعلماء وقته ومن معه منهم بحضرته وزنا، ولا يقدر أحد منهم على رد أحكامه ولو خالف النص المشهور، إلى أن وجه المترجم يوما أحد كتابه في قضية بلغته وأمره أن يحضر مع القاضى لفصلها علماء سماهم له منهم الشريف العلامة المولى عبد الله بن إدريس المنجرة، إذ كان نقله المترجم لمراكش ورشحه للتدريس والخطبة والإمامة بجامع المواسين، وأمر أن يكون الاجتماع لفصل تلك النازلة بالمسجد المذكور، ولما اجتمع القاضى والعلماء وحضر الخصمان تصدر القاضى على عادته ولم يستشرهم، ولا بالى بأحد منهم، وحكم بما ظهر له، فقال الشريف المذكور: يا عبد العزيز اسمع منى، قاض بزور ممكن وعالم بزور غير ممكن، وجه الحكم في النازلة غير ما حكمت به وخلاف ما ذكرت وهو كذا وكذا وذكر نصوصه ورتب