الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَحارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلى رَأْسِ الصِّراطِ: كِتابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فوْق: واعِظُ اللهِ في قَلْبِ كُلِّ مَسْلِمٍ"؛ يَعْنِي: العَقْل (1).
*
تَنْبِيهٌ:
عَلِمَ مما تقدم بأنَّ من ترك الذنوب لا للخوف من الله تعالى، بل لأمر آخر كالإفلاس والخوف من عقوبة السلطان وتعزيره، فليس بتائب لأنه غير مقلع عن الذنب؛ لأنَّ الإقلاع ينشأ عن الخوف من الله، أو الإقلاع المعتد به هو الذي ينشأ عن الخوف من الله تعالى.
ولطف بعض الشعراء في قوله: [من الوافر]
يَقولُ أَبو سَعِيدٍ إِذْ رآنِي
…
عَفِيفاً مُنْذُ عامٍ ما شَرِبْتُ
عَلى يَدِ أَيِّ شَيْخٍ تُبْتَ قُلْ لِي
…
فَقُلْتُ عَلى يَدِ الإِفْلاسِ تُبْتُ (2)
الركن الثاني من أركان التوبة:
الندم على فعل الذنب
من حيث إنه ذنب؛ بأن يستحضر جرأته على الله تعالى، وتعرضه لمقته بارتكاب الذنب مع علمه بأنَّ الله تعالى يعلم ظواهره وبواطنه، لا يخفى عليه من أحواله شيء.
ولما كان الندم معظم أركان التوبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النَّدَمُ
(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(4/ 182)، والحاكم في "المستدرك"(245).
(2)
البيتان لابن الهبارية. انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 455).
تَوْبَةٌ". رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم -وصححه- عن ابن مسعود رضي الله عنه، والحاكم، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه (1).
وروى الدينوري في "المجالسة" عن وهب قال: قرأت في مزامير داود عليه السلام: هل تدري من أغفر له من عبادي؟ الذي إذا أذنب ذنبا ارتعدت فرائصه وأعضاؤه، فذلك الذي آمر ملائكتي أن لا تكتب عليه ذلك الذنب (2).
وقولنا: (من حيث إنه ذنب) احتراز عما لو ندم على الذنب لمعنًى آخر؛ كان يندم على شرب الخمر لإضرارها ببدنه أو ماله، أو على الزنا لحيائه من الناس وهتك ستره عليهم، وفضيحته عندهم، لا للخوف من الله تعالى ومن عقوبته؛ فإن ذلك الندم لا ينفعه.
ولو ترك الذنب، وعزم أن لا يعود إليه، ولم يندم على ارتكابه فيما سلف لم يكن تائبًا لأنَّ عدم ندمه على ذنبه دليل على قلة حيائه من الله تعالى، وعدم مبالاته بوعيده، وجرأته على الله تعالى.
وقد روى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(1/ 376)، وابن ماجه (4252)، والحاكم في "المستدرك"(7612) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
والحاكم في "المستدرك"(7614)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7029) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 270).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَذْنَبَ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِيْ"(1).
وروى الطبراني، وأبو نعيم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَوْحَىْ اللهُ تَعَالَىْ إِلَىْ مُوْسَى عليه السلام: إِنَّكَ لَنْ تتَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشَيْءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الرّضَا بِقَضَائِيْ، وَلَنْ تَعْمَلَ عَمَلاً أَحْبَطُ لِحَسَنَاتِكَ مِنَ الكِبْرِ: يَا مُوْسَىْ! لَا تَضْرع لأَهْلِ الدُّنْيَا فَأَسْخَطُ عَلَيْكَ، وَلا تَخَفْ بِدِيْنكَ لِدُنْيَاهُمْ فَأُغْلِقَ عَلَيْكَ أَبْوَابَ رَحْمَتِيْ، يَا مُوْسَى! قُلْ لِلْمُذْنِبِيْنَ النَّادمِيْنَ: أَبْشِرُوْا، وَقُلْ لِلْعَامِلِيْنَ الْمُعْجَبِيْنَ: اخْسَرُوْا"(2).
وتقدم من حديثه: "النَّادِمُ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ الرَّحْمَةَ، والْمُعْجَبُ يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ"(3).
وقال سَرِي السَّقَطي، وسهل التستري رحمهما الله تعالى: التوبة أن لا تنسى ذنبك (4).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: التوبة النصوح أن
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 96)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس"(5810).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 127) وقال: غريب، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس"(509).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "تفسير السلمي"(1/ 183)، و"شعب الإيمان" للبيهقي (7181).
يكون الذنب بين عينيه ولا يزال كأنه ينظر إليه (1).
وهذا من هؤلاء الشيوخ إشارة إلى الندم.
وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه - ولم يفصح عن رفعه - ورواه البيهقي مرفوعًا، وموقوفاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْمُؤْمِنُ يَرَىْ ذَنْبَهُ كَالْجَبَلِ فَوْقَهُ، وَالْمُنَافِقُ يَرَىْ ذَنْبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَأَطَارَه"(2).
وقال ابن أبي الدنيا في "التوبة": قال الحسن بن عبد الرحمن: أنشدني أبو عثمان المؤدب: [من البسيط]
لا تَنْسَ ذَنْبَكَ إِنَّ اللهَ ساتِرُهُ
…
وَاسْتَغْفِرِ الله مِنْ ذَنْبٍ تُباشِرُهُ
خَفْ غِبَّ ذَنْبِكَ وَارْجُ اللهَ مُزْدَجَراً
…
لَعَلَّ رَبَّكَ بَعْدَ الْخَوْفِ غافِرُهُ
كَمْ مِنْ هَوَى لَكَ مَقْرونٍ بِمَعْصِيَةٍ
…
أَصْبَحْتَ تَرْكَبُهُ وَاللهُ ساتِرُهُ
بَرَّقْتَ ظاهِرَكَ الْمَدْخُولَ باطِنُه
…
إِنْ صَحَّ باطِنُ عَبْدٍ صَحَّ ظاهِرُهُ
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(9/ 350)، "تفسير القرطبي"(18/ 198).
(2)
رواه البخاري (5949)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7104).