الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98].
روى المفسرون؛ ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أنَّ قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل، فلما فقدوا نبيهم؛ أي: حين دعاهم إلى الإيمان فلم يجيبوه، وتوعَّدهم بالعذاب بعد ثلاث، وذهب عنهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، فلبسوا المُسوح، وأخرجوا المواشي، وفرَّقوا بين كل بهيمة وولدها، فعجُّوا إلى الله أربعين صباحاً، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد ما تدلَّى عليهم حتى لم يكن بينهم وبينه ميل (1).
وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: تيبَ على قوم يونس يوم عاشوراء (2).
*
الفائِدَةُ الْحادِيَةَ عَشْرَةَ:
التوسعة في الرزق، وحسن المعيشة.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(11/ 171)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 1988).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 1988).
قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} ؛ يعني: في الدنيا بتوسعة الرزق، ونعمته من غير تكدير ولا سوء، بخلاف المصرين الذين لم يستغفروا، ولم يتوبوا إليه؛ فإنهم -وإن مُتِّعُوا في الدنيا- فإنَّ متاعهم مكدر حالًا أو مآلاً؟ ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]؟
وفي الحديث: "مَنْ أكثَرَ مِنْ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيْقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ"(1).
وقال تعالى حكايته عن نوح عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
وقوله تعالي: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [هود: 3]؛ يعني: الموت.
وهذه غاية تدل على أن المتقلِّب في الدنيا بين التوبة والاستغفار لا ينكب في دنياه ونعمته حتى يستوفي أجله؛ وان حصل له في أثناء ذلك محنة فإنما هي لتمام التقصير، أو للترقية في المقام لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُصب مِنْهُ"(2).
وفي الآية دليل على أن حفظ النعمة على العبد - خصوصاً عند موته - صالحة عظيمة، ولذلك جعلها الله تعالى ثواباً للعبد على التوبة
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (5321) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والاستغفار، ولما كان أكثر أصحاب الأموال يغفلون في نعمهم ونعيمها ورغدها عن الله تعالى وعن طاعته، وينهمكون في معاصيه لو لم يكن إلا منع الزكوات والحقوق كان من عقاب أكثرهم ابتلاؤهم بالفقر والحاجة خصوصا عند الموت، وفي أواخر العمر عند الهرم والضعف، فأعظم نعمة في الدنيا سبوغ النعمة في أواخر العمر، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه:"اللهُمَّ اجْعَلْ أَوْسعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِطَاعِ عُمُرِيْ". رواه الحاكم وصححه، من حديث عائشة رضي الله عنها (1).
ولا يتنعم العبد بسعة رزقه إلا إذا قنع به ولم تتشوف نفسه إلى الزيادة؛ فإنه متى لم يقنع وتشوَّف إلى الزيادة انفتح عليه باب الطمع، فلا يتلذذ بما هو فيه، بل يتعذب بالتطلع إلى غيره، ومن هنا كانت القناعة كنزاً لا يَفنى، وكان القنع غنى.
وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: "اللهُمَّ قَنِّعْنيْ بما رَزَقْتَنيْ، وَبَارِكْ ليْ فِيْهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ بخَيرٍ"(2).
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(1987)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط" (3611). وحسن الهيثمي إسناده في "مجمع الزوائد" (10/ 182). ورواه البيهقي في "الدعوات الكبير" (1/ 174) وقال: عيسى بن ميمون منكر الحديث.
(2)
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه"(2728)، والحاكم في "المستدرك"(1878).
واعلم أنَّ العبد ما دام في نعمته ناظراً إلى أنها من الله تعالى بمحض الفضل ليس له فيها حول ولا قوة مستعيذاً بالله أن يَكِلَه بها إلى نفسه كان في أمْنٍ من زوالها.
وعندي أن الأحسن أن يكون هاء الضمير في قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]، عائدًا إلى ربكم في الآية؛ فإنَّ الثواب في نفسه فضل من الله تعالى.
وإن أعدنا الضمير على كل أو ذي كان المعنى ثواب فضله، والعبد إنَّما وصفه الله تعالى بذي فضل كرمًا منه وفضلاً، وإلا فإنَّ ذلك الفضل الذي جاء به العبد من فضل الله وتوفيقه.
ويرجع معنى الآية على الوجه الأول إلى معنى قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، فالعبد فيما تفضَّل الله به عليه من النعم يحتاج إلى دوام فضل الله فيه، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"اللهُمَّ لَا تَكِلْنيْ إِلىْ نَفْسِيْ طَرْفَةَ عَينٍ، وَلَا تَنْزِعْ مِنِّيْ صالح مَا آتَيْتَنِيْ". رواه البزار من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (1).
وروى مسلم، وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيتكَ، وَفَجْأةِ نقمَتِكَ، وَجَمِيع سَخَطِكَ"(2).
(1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 181): رواه البزار، وفيه إبراهيم ابن يزيد الخوزي، وهو متروك.
(2)
رواه مسلم (2739)، وأبو داود (1545).