الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ القُلُوبَ إِلَى الْخَطَّافِ مائِلَة
…
طَيْرٌ بِتَرْكِ طَعامِ النَّاسِ مَنْعُوتُ
وَالنَّاسُ يَهْوَوْنَ مَنْ خَفَّتْ مَؤُونَتُهُ
…
وَمَنْ يُشارِكُهُمْ فِي القُوتِ مَنْعُوتُ
وقلت: [من البسيط]
لا تَزْحَمِ النَّاسَ فِي شَيْءٍ يَخُصُّهُمُ
…
فَيَجْعَلُونَكَ مِنْ أَعْدى أَعادِيهِمْ
وَيَلْحَظُونَكَ كَالثِّيْرانِ مِنْ حَرَدٍ
…
وَلَسْتَ تَأمَنُ مِنْهُمْ فِي نَوادِيْهِمْ
تَرى الْخَطاطِيفَ فِي البُلْدانِ آمِنةً
…
لأنَّها زَهِدَتْ فِيما بِأَيْدِيهِمْ
وهنا
فوائد تتعلق بالخطاف:
الأولى: أن الخطاطيف تسمى زوار الصيف لأنَّها تشتي في بلاد الهند لحرارتها، وتصيف في بلاد الشام.
قال أبو إسحاق الصابي يصف الخطاف:
وَهِنْدَيَّةِ الأَوْطانِ زُنْجِيَّةِ الْخَلْقِ
…
مُسْوَدَّةِ الأَلْوانِ مُحْمَرَّةِ الْحَدَقْ
كَأَنَّ بِها حُزْناً وَقَدْ لَبِسَتْ لَهُ
…
حِداداً فَأَذْرَتْ مِنْ مَدامِعِها العَلقْ
إِذا صَرْصَرَتْ صَوْتاً تَأَخَّرَ صَوْتُها
…
كَما صَرَّ ملوي العُودِ بِالوترِ الْحذَقْ
تَصِيفُ لَدَيْنا ثُمَّ تَشْتُو بِأَرْضِنا
…
فَفِي كُلِّ عامٍ نَلْتَقِي ثُمَّ نَفْتَرِقْ (1)
والاعتبار في ذلك أنَّ الإنسان ينبغي له أن يرتاد لصيفه مكاناً يليق بالصيف، ولشتائه مكاناً يليق بالشتاء، وكذلك يتخذ لكل ما يليق به من الثياب صيانة لجسده الحامل لروحه ليكون ذلك عوناً له على طاعة الله تعالى.
ولقد امتَنَّ الله تعالى بالرحلتين على قريش في قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 1 - 4].
قال ابن زيد رحمه الله تعالى: كانت لهم رحلتان؛ الصيف إلى الشام، والشّتاء إلى اليمن في التجارة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم (2).
(1) انظر: "يتيمة الدهر" للثعالبي (2/ 316).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(30/ 307).
وقال أبو مالك: كانوا يتجرون في الشتاء والصيف، فيأخذون في الشتاء على طريق البحر وأيلة إلى فلسطين يلتمسون الرخاء، وأما الصيف فيأخذون قبل بصرى وأذرعات يلتمسون البرد. رواه سعيد بن منصور، وابن المنذر (1).
ولا شك أن الإنسان متى كان في أرض تلائمه وتوافق مزاجه كان أصفى قلباً، وأفرغ لأموره.
فلذلك امتنَّ الله تعالى عليهم بالرحلتين الموافقتين، وطالبهم بالشكر على ذلك، فقال:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 3، 4].
وكذلك النعمة على العباد ما كان لهم مصيف ومشتى من أرض، أو بيت أو ثوب.
وروى الخطيب، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء الشتاء دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصيف خرج ليلة الجمعة، وإذا لبس ثوباً جديداً حمد الله تعالى وصلَّى ركعتين، وكسا الخلق (2).
الثانية: تقدم عن الثعلبي أن آدم عليه السلام لمَّا شكا إلى الله عز وجل
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 637).
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 414)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(18/ 86).
الوحشة آنسه بالخطاف، فلذلك لا تفارق الخطاطيف بني آدم، وفيه إشارة إلى حفظ مودَّة الآباء وتوارث الحب.
روى الطبراني في "الكبير"، والحاكم وصححه، عن عفير رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الْودُّ يُتَوَارَثُ، وَالْبُغْضُ يُتَوَارَثُ"(1).
قلت: شاهد الأول ألفة الخطاف بني آدم، وشاهد الثاني عداوة الحية بني آدم كما علمت فيما تقدم.
الثالثة: روى البيهقي عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية التابعي - مرسلاً -: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف، وقال:"لا تَقْتُلُوْا هَذهِ الْعُوَّذَ؛ فَإِنَّهَا تَعُوْذُ بِكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ"(2).
الاعتبار في ذلك أنَّها لمَّا كانت عائذة بالناس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها؛ فإنَّ من حق العوذ بنا أن تأمن من غيرنا، فكيف لا تأمن منا؛ فكيف إذا عاذ المؤمن بالله عز وجل واستجار به!
قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَاذَ بِاللهِ فَقَدْ عَاذَ بِمَعَاذٍ". رَواه الترمذي، وغيره، وتقدم في التشبه ببني إسرائيل (3).
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 189)، والحاكم في "المستدرك" (7343). قال ابن حجر في "الإصابة" (4/ 514): فيه عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وهو ضعيف.
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 318) وقال: منقطع.
(3)
تقدم تخريجه.
الرابعة: روى البيهقي - وقال: إسناده صحيح - عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما - موقوفاً عليه - أنَّه قال: لا تقتلوا الضفادع؛ فإنَّ نقيقها تسبيح، ولا تقتلوا الخطاطيف؛ فإنَّه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب! سلطني على البحر حتى أعرفهم (1).
قلت: شكر الله تعالى ذلك للخطاف حيث حملته الغيرة لله، وبغض أعدائه على طلب ما لا يليق بحقارته وصغره من تغريقهم، فآمنه الله تعالى من القتل، وأسكنه البيوت، وحفظ على الوزغ عداوته لإبراهيم عليه السلام، فأباح قتله في الحل والحرم كما فهمت.
والاعتبار في ذلك أن العبد ينبغي له إذا عجز عن إنكار المنكر، وتغييره بيده أو بلسانه أن ينكره بقلبه، ويغضب على مرتكبه، ويبغضه طلباً لمرضاة الله تعالى.
الخامسة: روى أبو الشيخ في "العظمة" عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَمَا سُلَيْمَانُ عليه الصلاة والسلام يَسِيْرُ فِيْ الْمَوْكِبِ إِذْ عَرَضَ فِيْ الضِّيَاءِ فَيْء، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيْق، فلمَّا أَنْ نزَلَ مَنْزِلَهُ جَاءَتْ خُطَّافَةٌ فِيْ مِنْقَارِهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّتْ بِهِ مَكَانهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عليه الصلاة والسلام: أتَدْرُوْنَ لِمَ عَدَلْتُ بِكُم؟
قَالُوْا: لا. قَالَ: جَاءَتْنِيْ هَذهِ فَأَخْبَرَتْنِيْ أَنَّهَا قَدْ فَرَّخَتْ فُرُوْخَهَا وَهُنَّ وَقع عَلَىْ الطَّرِيْق وَإِنَّكَ إِنْ أَخَذْتَ الطَّرِيْقَ حَطَّمْتَهُنَّ
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 318) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.