الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذِهِ
خَاِتمَة الكِتَابِ المَوْعُود بِذِكْرِهَا في فَضْل الإنَابَةِ والمَتَابِ
قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8].
روى الحاكم وصححه، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: التوبة النصوح تُكفِّر كل سيئة.
قال: وهو في القرآن، ثم قرأ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8](1).
وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والمفسرون، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الشعب"، وغيرهم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سُئِلَ عن التوبة النصوح، قال: أن يتوب الرجل من العمل السيء ثمَّ لا يعود إليه أبداً (2).
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3831).
(2)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 303)، وابن أبي شيبة في "المصنف" =
وروي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود موقوفاً عليهما، وعنهما وعن أبي بن كعب مرفوعاً (1).
وقال الله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وقال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118].
وفي التوبة آيات أُخر.
وروى مسلم، والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيْءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوْبَ مُسِيْءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"(2).
وروى الشيخان عن الحارث بن سويد عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنِ رَجُلٍ نزَلَ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَةٌ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، فَطَلَبَهَا حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ
= (34491)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3362)، والحاكم في "المستدرك"(3830)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7034).
(1)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 227).
(2)
رواه مسلم (2759)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11180).
الْحَرُّ وَالعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ الله؛ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِ الَّذِيْ كُنْتُ فِيْهِ فَأَناَمُ حَتَّى أَمُوْتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَاُبهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ العَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِراحِلَتِهِ" (1).
ورويا هُما وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً، ثمَّ سَألَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَىْ رَجُلٍ عَالمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسِ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نعَمْ، مَنْ يَحُوْلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ اِنْطَلِقْ إِلىْ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُناَسًا يَعْبُدُوْنَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيْقُ فَأَتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيْهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بقَلْبِهِ إِلى اللهِ تَعَالى، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ في صُوْرَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوْهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيْسُوْا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، قَالَ: أَيَّتُهَمُا كَانَ أَدْنى فَهُوَ لَهَا، فَقَاسُوْا فَوَجَدُوْهُ أَدْنى إِلى الأَرْضِ الَّتيْ أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ"(2).
(1) رواه البخاري (5949)، ومسلم (2744).
(2)
رواه البخاري (3283)، ومسلم (2766)، وابن ماجه (2622).
وفي رواية: "فَأَوْحَىْ اللهُ إِلى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِيْ، وَإِلى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِيْ، فَقَالَ: قِيْسُوْا مَا بَيْنَهُمَا، فَوَجَدُوْهُ إِلى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ".
وفي رواية: قال قتادة: قال الحسن: ذكر لنا أنَّه لما أتاه ملك الموت ناء بصدره نحوها (1)؛ أي: نحو الأرض التي قصدها ليكون مع أهل الطاعة فيها ويتوب.
وروى الشيخان، وغيُرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِني أَصَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي، فَقَالَ رَبُّهُ عز وجل: عَلِمَ عَبْدِيْ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ، ثمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ، وَرُبَّمَا قَالَ: ثم أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِني أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ ليْ، فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِيْ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأخُذُ بِهِ، فَغَفَرَ لَهُ، ثمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ، ثمّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ، وَرُبَّمَا قَالَ: ثمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِني أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْ لي، فَقَالَ رَبُّهُ: غَفَرْتُ لِعَبْدِيْ؛ فَلْيَعْمَلْ عَبْدِيْ مَا شَاءَ".
وفي لفظ: "عَبْدِيْ! اِعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَقَدْ غَفَرْتُ"(2).
أي: ما دمت كلما أذنبت استغفرتني عن علم منك أني أغفر الذنب
(1) هاتان الروايتان عند مسلم.
(2)
رواه البخاري (7068)، ومسلم (2758).
وأعاقب عليه، وهذا العلم يدعو إلى التوبة والإقلاع مع الاستغفار.
وليس المراد الاستغفار باللسان خالياً عن الإقلاع؛ فإنَّه توبةُ الكذَّابين.
وروى البيهقي في كتاب "الزهد" عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى ميلاً، ثم قال: "يَا مُعَاذُ! أُوْصِيْكَ بِتَقْوَىْ اللهِ، وَصِدْقِ الحَدِيْثِ، وَوَفَاءِ العَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَتَرْكِ الخِيَانَةِ، وَرَحْمَةِ اليَتِيْمِ، وَحِفْظِ الجِوَارِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ السَّلَامِ، وَلُزُوْمِ الإمَامِ، وَالتَفَقُّهِ في القُرْآنِ، وحُبِّ الآخِرَةِ، وَالجزَعِ مِنَ الحِسَابِ، وَقِصَرِ الأَمَلِ، وَحُسْنِ الْعَمَلِ.
وَأَنْهَاكَ أَنْ تَشْتُمَ مُسْلِمًا، أَوْ تُصَدِّقَ كَاذِبًا، أَوْ تُكَذِّبَ صَادِقًا، أَوْ تَعْصِيَ إِمَامًا عَادِلاً، وَأَنْ تُفْسِدَ فيْ الأَرْضِ.
يَا مُعَاذُ! اُذْكُرِ اللهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ، وَأَحْدِثْ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً؛ السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ" (1).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوْبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَةٍ"(2).
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن الأغر المزني رضي الله تعالى
(1) رواه البيهقي في "الزهد الكبير"(ص: 347).
(2)
رواه البخاري (5948).
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوْبُوْا إِلى اللهِ؛ فَإِنِّيْ أَتُوْبُ إِلَيْهِ فيْ الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ"(1).
ورويا، وأبو داود، والنسائي عن الأغر أيضاً: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَىْ قَلْبيْ، وَإِنِّيْ لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فيْ الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ"(2).
قال العلماء: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من التوبة والاستغفار تشريعاً، وإرشاداً وإن كان معصوماً، وتويته مما عسى أن يقع منه خلف الأولى.
قال أهل المعرفة: إنَّ استغفاره كان عند ترقِّيه في النبوة من مقام إلى مقام أعلى منه، وكان ربما حصلت منه ملاحظة إلى المقام الذي ارتقى منه، وكان يعد تلك الملاحظة منه غَيناً بالإضافة إلى الذي صار إليه، فكان يستغفر من ذلك الغين، ويتوب من المقام الذي قبل مقامه، فيكون بذلك متخلقاً بمقام العبودية.
قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة، وتوبة الأنبياء من رؤية عجزهم عن بلوغ ما ناله غيرُهم (3).
قلت: لكن ينبغي أن يكون هذا في حق غير الحبيب صلى الله عليه وسلم لتحققه
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 211)، ومسلم (2702).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 211)، ومسلم (2702)، وأبو داود (1515)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10280).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(17/ 431).
بالتقدم والعقل على سائر النبيين عليهم السلام.
وعندي أنَّ توبة الأنبياء عليهم السلام من رؤية عجزهم عن إدراك أعلى مقامات المعرفة التي هي لأجلها خُلِقَ الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا أُحْصِيْ ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أثنَيْتَ عَلَىْ نَفْسِكَ"(1).
والأنبياء فمن دونهم يتعرَّفون فيعبدون على قدر معرفتهم، ثم تنتهي معرفتهم إلى العجز عن معرفتهم إياه سبحانه وتعالى، فلسان حالهم يقول: سبحانك! ما عرفناك حقَّ معرفتك، وإذا كان كذلك فما عبدوه حق عبادته، فلسان حالهم يقول: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك.
فهذا الاعتراف منهم يفصِّل العبادات لأنه غاية المعارف، وكان على العبد أن يعرف الله حق معرفته، فيعبده حق عبادته، لكنه عاجز عن ذلك، وقاصر عنه لأنه خلق، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، وإنَّما كان كذلك ليكون أبداً في مقام الذلة والافتقار، وطلب المغفرة والعفو والتوبة، فلا يتزحزح عن مقام العبودية أبداً، وذلك هو المطلوب.
وما أحسن ما قيل: [من المنسرح]
(1) رواه مسلم (486) عن عائشة رضي الله عنها.
اعْتِصامُ الوَرَى بِمَغْفِرَتكْ
…
عَجِزَ الواصِفُونَ عَنْ صِفَتِكْ
تُبْ عَلَينا فَإِنَّنا بَشَرٌ (1)
…
ما عَرَفْناكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكْ
ومن هنا تظهر لك الحكمة في طلب التوبة من جميع المؤمنين بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]؛ إذ لا يخلو المؤمن من تقصير في طاعة الله تعالى وغفلة عن ذكره.
ثمَّ هو في طاعته وذكره عاجز عن بلوغ حقه مقصر في طاعته، فكانت التوبة مطلوبة من كل واحد من المؤمنين في كل وقت من أوقاته، وحال من حالاته؛ ليكون تقصيره مستوراً وذنبه مغفوراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَه".
رواه ابن ماجه، وغيره عن أنس رضي الله عنه، والطبراني، والحكيم الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه، والبيهقي، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما (2).
فالتائب من التقصير كمن لم يقصر أصلاً، فلا يتم لمؤمن مقام إلا بالتوبة من تقصيره في ذلك المقام، وبالتوبة ينال العبد تمام المحبة من الله تعالى؛ لأنَّ العبد كلما كان كاملاً في عبادة الله تعالى كان إلى الله أحب، ولا يبلغ كمال العبودية إلا بالتوبة والتطهير من ذنب الغفلة والتقصير، ولذلك قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
(1) في "أ" و"ت": زيادة: "سبحانك".
(2)
تقدم تخريحه.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من التوبة والاستغفار، فمن أراد أن يحبه الله تعالى فليكثر منهما.
وروى ابن ماجه بإسناد حسن، عن عبد الله بن بُسْر، وأبو نعيم عن عائشة، والإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء - موقوفاً عليه - وقال الأوَّلان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طُوْبَىْ لِمَنْ وَجَدَ فيْ صَحِيْفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيْرًا"(1).
وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيْقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ"(2).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُوْنَ
(1) رواه ابن ماجه له (3818) عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه.
قال الإمام النووي في "الأذكار"(ص: 323): إسناده جيد.
وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 395) عن عائشة رضي الله عنها.
وابن أبي شيبة في "المصنف"(29446) عن أبي الدرداء رضي الله عنه موقوفاً عليه.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2234)، والحاكم في "المستدرك"(7677)، وكذا أبو داود (1518)، وابن ماجه (3819).
وَيَسْتَغْفِرُوْنَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ" (1).
ورواه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس، ولفظه:"لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُوْنَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ"(2).
والطبراني في "الكبير" من حديث ابن عمرو، ولفظه:"لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَخَلَقَ اللهُ خَلْقًا يُذْنِبُوْنَ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُمْ"(3).
والحكمة في ذلك: أن الإحسان إلى المحسن مكافأة، والإحسان إلى غيره كرم وإفضال، والله سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وفي الاستغفار والإكثار منه فائدة عظيمة، وهي أنه يؤدي بالعبد آخراً إلى التوبة والإقلاع عن الذنب - وإن كان يقع كثيراً من العبد مع الغفلة - فإنَّه في نفسه حسنة وشكر، وهو يقتضي المزيد، فقد يكون ذلك المزيد التوفيق إلى التوبة:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3].
وقال بعض العارفين: أكثِرْ من ذكر الله ولو مع الغفلة والغَيبة بالقلب عنه، فربما جرَّك الذكر إلى التذكر والحضور.
(1) رواه مسلم (2749).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 289)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12794).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(1454)، وكذا البزار في "المسند"(2449) موقوفاً.
والعبد له بعد الذنب عملان:
أحدهما: قلبي، وهو التوبة.
والثاني: لساني، وهو الاستغفار والاعتذار.
وهما مشروعان للعبد منذ عهد آدم عليه السلام.
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]
أي: فتاب، فتاب الله عليه.
وقال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
وروى الأزرقي في "تاريخ مكة"، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الدعوات"، وابن عساكر عن بريدة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَمَّا أَهْبَطَ اللهُ آدَمَ عليه السلام إِلى الأَرْضِ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّيَ وَعَلانِيَتي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتيْ، وَتَعْلَمُ حَاجَتيْ فَأَعْطِنيْ سُؤْليْ، وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِيْ - وفي رواية: وَمَا فيْ نَفْسِيْ - فَاغْفِرْ ليْ ذُنُوْبيْ، أَسْألكَ إِيمَاناً يُبَاشِرُ قَلْبيْ، وَيَقِيْنًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيْبُنيْ إِلَاّ مَا كَتَبْتَ ليْ، وَرِضًا بِقَضَائِكَ؛ فَأَوْحَىْ اللهُ تَعَالىْ إِلَيْهِ: يَا آدَمُ! إِنَّهُ قَدْ دَعَوْتَنيْ بِدُعَاءٍ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِيْهِ، وَغَفَرْتُ ذُنُوْبَكَ، وَفَرَّجْتُ هُمُوْمَكَ وَغُمُوْمَكَ، وَلَنْ يَدْعُوَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَتِكَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَاّ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِ، وَنَزَعْتُ فَقْرَهُ مِنْ بَينِ عَيْنَيْهِ، وَاتَّجَرْتُ لَهُ وَرَاءَ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأتتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة وَإِنْ
لَمْ يُرِدهَا" (1).
فانظر توبة آدم عليه السلام واستغفاره واعتذاره كيف كانت سبباً لبقائه في دنياه ممتَّعاً بما أوتيه فيها، منعَّماً بطاعة ربه حتى لحق به، سالماً من العجب، فالذنب الذي آخره توبة وندم وإقلاع واستغفار واعتذار خير من العبادة المقرونة بإعجاب وإدلال واعتزاز.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوْا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ: الْعُجْبَ الْعُجْبَ".
رواه البيهقي في "الشعب" عن أنس رضي الله تعالى عنه (2).
وأخرجه الديلمي بنحوه من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه (3).
(1) رواه الأزرقي في "تاريخ مكة"(1/ 349)، والبيهقي في "الدعوات الكبير"(1/ 170).
ورواه والطبراني في "المعجم الأوسط"(5974) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(7255). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 269): رواه البزار وإسناده حسن. وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 966): رواه البزار، وابن حبان في "الضعفاء"، والبيهقي، وفيه سلام بن أبي الصهباء؛ قال البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد: حسن الحديث.
(3)
قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 966) رواه الديلمي بسند ضعيف جداً.