الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى الخطيب عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "يَا عَائِشَةُ! اغْسِلِيْ هَذَيْنِ".
فقلت: يا رسول الله! بالأمس غسلتهما.
فقال لي: "أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الثَّوْبَ يُسَبِّحُ، فَإِذَا اتَّسَخَ انْقَطَعَ تَسْبِيْحَهُ"(1).
وهذه الآثار مع ما تقدَّم دالة على أن كل شيء يسبح الله تعالى من حيوان وجماد مطلقاً.
وقد قال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1].
وهذا الذي أختاره، ولينفع هذا الفن من العلم العبد الموقن فلا يكون في ملأ ولا في خلاء إلا ويُنبه نفسه لتستحي مما معها من شيء أن لا يُسبِّحُ الله معه، ولو أنكر وجوده مع شيء لا ينكر وجوده في نفسه، والله تعالى يقول:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205].
* وَهَذه
تَتِمَّاتٌ لِهَذا البابِ:
روى ابن عبد البر في "التمهيد" عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان، والثاني على صورة ثور، والثالث على صورة نسْر، والرابع على صورة أسد (2).
(1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(9/ 245) وقال: حديث منكر.
(2)
رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(4/ 9).
قلت: وفي غير هذه الرواية: أنَّ الأول يسترزق الله للبشر، والثاني يسترزقه للبهائم، والثالث للطير، والرابع للسباع.
وتقدم في التشبه بالملائكة: أنَّ إسرافيل عليه السلام على صورة ديك.
وفي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] إشارة إلى أن الملائكة على صورة الطير، والأحاديث الواردة في أرواح الشهداء أنَّها في صور طير مشهورة.
وروى ابن أبي شيبة، والطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أرواح المؤمنين في جوف طير خُضر كالزرازير يتعارفون، ويرزقون من ثمر الجنة (1).
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لوددت أني طير في منكبي ريش (2).
يحتمل معنيين:
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(33978) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 290) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 329): رواه الطبراني في "الكبير" - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفيه يحيى بن يونس، ولم أجد من ذكره، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34520).
الأول: أن يكون عبر بذلك عن طلب الشهادة لما تقدم.
والثاني: أنه تمنى أن يكون طائراً له ريش، ولا يكون مكلفاً مبتلى بالحساب والعتاب والعقاب، فيكون ذلك ناشئاً عن الخوف كما روى ابن أبي شيبة أيضا عنه أنَّهُ قال: ليتني شجرة تُعضد (1).
وأنَّهُ قال: ليتني إذا مت لم أبعث (2).
وأنه قال: لو وقعت بين الجنة والنار فقيل: تخيَّر أيُّهما أحب إليك أو تكون رماداً؟ لاخترت أن أكون رماداً (3).
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الحذر والشفقة" عن طارق قال: قلت لابن عباس: أي رجل كان عمر رضي الله تعالى عنه؟
قال: كان كالطير الحذر الذي كأن له بكل طريق شَرَكاً (4).
وروى أبو نعيم عن ابن شهاب قال: جلست إلى أبي إدريس الخولاني رحمه الله تعالى وهو يقص فقال: ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاماً؟
فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال: يحيى بن زكريا عليهما
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34521).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34539).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34541).
(4)
ورواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 278)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 312).
السلام كان أطيب الناس طعاماً، إنَّما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معاشهم (1).
وقال الزمخشري في "الفائق": في الحديث أنَّ الله عز وجل قال لأيوب عليه السلام: إنه لا ينبغي أن يخاصمني إلَّا من جعل الزيار في فم الأسد والسحال في فم العنقاء (2).
الزيار: ما يشد به البيطار محنكة الدابة وزيره إذا شُد به.
والسحال يعني: السحل، وهي الحلقة المدخلة في الأخرى على طرف شكيمة اللجام، وهما مسحلان في طرفيها (3).
قلت: والتمثيل الذي وقع في الحديث المذكور إنما هو من باب التقريب والتعجيز للعبد، وإلا فإنَّ العبد لا ينبغي له مخاصمة الله عز وجل أصلاً ولا يستطيعها؛ فإنَّ الله عزيز، ولكن لما كان وضع الزيار في فم الأسد والمسحلين بشكيمها في فم العنقاء بعيداً جداً حتى يعد في العادة مستحيلاً - وإن كان ممكنًا في نفسه - مَثَّل لذلك كأنَّه يقول: إذا كان العبد عاجزاً عن مثل ذلك فلا قدرة له على مخاصمة الله العزيز الجبار، فليستقل من مخاصمته وليرجع إلى مسالمته؛ فإنه لا قِبَل له بغير ذلك.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 123).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(17/ 63) عن وهب بن منبه.
(3)
انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (2/ 142).
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك رضي الله عنه: "لَقَدْ شَكَرَ اللهُ لَكَ قَوْلَكَ: [من الكامل]
جاءَتْ مُزَيْنَةُ كَيْ تُغالِبَ رَبَّها
…
وَلَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلَاّبِ" (1)
وروى ابن عدي، والبيهقي في "الشعب" عن سعيد بن جبير: أنَّ نافع بن الأزرق سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن سليمان بن داود عليهما السلام مع ما خوَّلَهُ الله تعالى من الملك وأعطاه: كيف عني بالهدهد مع صغره؟
فقال له ابن عباس: إنَّهُ احتاج إلى الماء والهدهد كانت الأرض له كالزجاج.
فقال ابن الأزرق لابن عباس: قف يا وقَّاف؛ كيف يبصر الماء من تحت الأرض ولا يرى الفخ إذا غُطيَ له بقدر إصبع من تراب؟
فقال ابن عباس: إذا نزل القضاء عمي البصر (2).
وفي غير هذه الرواية عن ابن عباس: إذا جاء القدر عمي البصر، وإذا جاء الحين غطى العين (3).
وفي معناه: ما رواه أبو نعيم في تاريخ "أصبهان" عن عكرمة،
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 120) عن جابر بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
والحاكم في "المستدرك"(6065) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(249).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(250).
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ اللهُ إِنْفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرهِ سَلَبَ ذِي العُقُوْلِ عُقُوْلَهُمْ حَتَّى يَنْفُذَ فِيْهِمْ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ"(1).
وأخرجه الديلمي من حديث أنس وعلي رضي الله تعالى عنهما وزاد فيه: "فَإِذَا مَضَى أَمْرُهُ رَدَّ إِلَيْهِمْ عُقُوْلَهُمْ وَوَقَعَتِ النَّدَامَةُ"(2).
وفي المثل: لكل عاقل زلة.
وربما قيل: لكل عاقل صبوة، ولكل فارس كبوة، ولكل صارم نبوة.
وأنشد أبو عمر الزاهد غلام ثعلب لنفسه: [من الرجز]
إِذا أَرادَ اللهُ أَمْراً بِامْرِئٍ
…
وَكانَ ذا عَقْلِ وَرَأْيِ وَبَصَرْ
وَحِيلَةٍ يُعْمِلُها فِي كُلِّ ما
…
يَأتِي بِهِ مَحْتومُ أَسبابِ القَدَرْ
أَغْراهُ بِالْجَهْلِ وَأَعْمى عَيْنَهُ
…
فَسَلَّهُ عَنْ عَقْلِهِ سَلَّ الشَّعَرْ
(1) رواه أبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/ 342). قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 80): وكذا أخرجه الخطيب وغيره بلفظ "إن الله إذا أحب نفاذ أمر" وذكره، وأعله الخطيب بلاحق بن الحسين، وقال: إنه كذاب يضع، انتهى، وسعيد أيضاً متروك.
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(966) عن ابن عمر رضي الله عنه.
حتَّى إِذا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ
…
رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ (1)
وحكى القزويني: أنَّ الهدهد قال لسليمان عليه السلام: أريد أن تكون في ضيافتي.
قال: أنا وحدي؟
قال: لا، أنت وعسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا.
فحضر سليمان عليه السلام بجنوده، فطار الهدهد، فاصطاد جرادة وخنقها، ورمى بها في البحر، فقال: كلوا يا نبي الله! من فاته اللحم ناله المرق.
فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولاً كاملاً.
ومن لطائف أبي الشيص الشاعر: [من البسيط]
لا تَأْمَنَنَّ عَلى سِرِّي وَسِرِّكُمُ
…
غَيْرِي وَغَيْرَكَ أَوْ طَيَّ القَراطِيسِ
أَوْ طائِرٍ سَأُحلِّيهِ وَأَنْعَتُه
…
ما زالَ صاحِبَ تَقْدِيسٍ وَتأسِيسِ
سودٍ بَراثِنُهُ ميل زرائِبُهُ
…
صفرٍ حَماليقُهُ فِي الْحبر مَغْموسِ
(1) انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي (251).
وَكانَ هَمَّ سُلَيْمان لِيَذْبَحَهُ
…
لَولا سِياسَتُهُ فِي مُلْكِ بَلْقِيسِ
ومن الأمثال اللطيفة: ما رواه الخطيب عن داود بن أبي هند قال: صاد رجل قنبرة فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟
قال: أذبحك وآكلك.
قالت: ما أُشفي من قرم، ولا أغني من جوع، ولكن أُعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أمَّا الواحدة فأعلمك إيَّاها وأنا على يدك.
والثانية: إذا صرت على الشجرة.
والثالثة: إذا صرت على الجبل.
قال: نعم.
فقالت وهي على يده: لا تأسفن على ما فاتك.
فخلَّى عنها، فلمَّا صارت على الشجرة قالت: لا تصدقنَّ بما لا يكون.
فلمَّا صارت على الجبل قالت: يا شقي! لو ذبحتني لوجدت في حوصلتي درة زنتها عشرون مثقالاً.
قال: فعضَّ على شفتيه وتلهَّف، ثم قال: هات الثالثة.
قالت: قد نسيتَ اثنتين كيف أعلمك الثالثة؟
قال: وكيف؟ قالت: ألم أقل لك: لا تأسفنَّ على ما فاتك وقد
أسفت عليَّ؟
وقلت لك: لا تُصدقنَّ بما لا يكون وقد صدقت؛ فإنَّك لو جمعت عظامي وريشي لم تبلغ عشرين مثقالاً، فكيف يكون في حوصلتي درة زنتها عشرون مثقالاً (1)؟
وحكي أنَّ رجلاً من بغداد كان معه أربع مئة درهم لا يملك غيرها، فاشترى بها أفراخ زرياب، وهو الطائر المعروف بأبي زريق، ويقال له: القوق ألوف، يقبل التعليم سريع الإدراك، يزيد على الدُّرة إذا ألحن، وإذا تكلَّم جاء بالحروف مبينة حتى لا يشك سامعه أنه إنسان، فهبت ريح باردة فماتت تلك الأفراخ كلها إلا واحداً كان أصغرها وأضعفها، فأيقن الرجل بالفقر، فلم يزل يبتهل إلى الله عز وجل بالدعاء ليله كله يقول: يا غياث المستغيثين! أغثني، فلما أصبح زال البرد وجعل ذلك الفرخ ينفض ريشه ويصيح بلسان فصيح: يا غياث المستغيثين! أغثني، فاجتمع الناس عليه يستمعون صوته، فاجتازت به أمة للخليفة فَشَرَته بألف درهم.
وفي كتاب "المسامرة" للشيخ محي الدين بن العربي الحاتمي خبر الطائر المغيث في قصة الرجل الذي كان في سفينة، فقام ليلاً ليتوضأ، فزلقت رجله فوقع في البحر، فقال: ذلك تقدير العزيز العليم، فإذا طائر اختطفه من البحر فألقاه في السفينة، ثم وقع على
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 316) عن داود عن الشعبي.
صاري السفينة، قال: فقلت: ما هذا؟
فقال: أنا تقدير العزيز العليم.
ومن اللطائف قصة حَمْي الدَّبْر - بفتح المهملة، وإسكان الموحدة - وهو عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وكان قد عاهد الله أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فلما قتله المشركون أرادوا أن يمثلوا به، فأرسل الله ظُلَّة من الدَّبْر فحمته منهم.
والدبر: فسره السهيلي بالزنابير، وقيل: هي النملة.
وهذه القصة مشهورة في كتب الحديث، والسير (1).
وروى الحاكم في "تاريخه" عن تمام بن عبد الله بن أنس بن مالك قال: خرجت مرة إلى خراسان ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فنهيناه فأبى، فذهب يوماً لحاجته فأبطأ، فبعثنا في طلبه، فرجع إلينا الرسول قال: أدركوا صاحبكم فإذا هو قد قعد على حجر فقضى حاجته، فخرج عليه عنق من الدبر فشرب مفاصله مفصلاً مفصلاً.
قال: فجمعنا عظامه، وإنَّها لتقع علينا ما تؤذينا، وهي تبري مفاصله (2).
(1) رواها البخاري (2880) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
وروى نحو هذه القصة ابن عسكر في "تاريخ دمشق"(44/ 390) عن أبي الحباب.
وروى ابن أبي الدنيا عن أبي المحياة التيمي قال: حدثني رجل قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فنهيناه فلم ينته، فخرج لبعض حاجته، فاجتمع عليه الزنابير، فاستغاث فأغثناه، فحملَتْ عليه فتركناه، فما أقلعت عنه حتى قطَّعته قِطَعاً (1).
وروى الحافظ شرف الدين الدمياطي في كتابه "العقد المثمن فيمن يسمى عبد المؤمن" عن عبد المؤمن بن عبد الصمد الزاهد قال: كان عندنا بتنيس رجل رافضي، وكان على طريق سكته كلب يعبر عليه كل من في المحلة من كبير وصغير فلا يتأذى به، إلى أن يعبر ذلك الرافضي فيقوم ويمزق ثيابه، ويعقره إلى أن أكثر ذلك منه، فشكا إلى جانب السلطان، وكان من أهل مذهبه، فبعث من ضرب الكلب وأخرجه من المحلة، ففي بعض الأيام نظر الكلب إلى ذلك الرافضي وهو جالس على بعض الدكاكين في السوق، فصعد على ظهر السوق، وجاور الرافضي، وتغوَّطَ عليه، فخرج الرافضي من تنيس من خجله.
وروى الضياء في كتاب "النهي عن سب الأصحاب" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: كان على طريقي إلى المسجد كلب يعقر الناس، فأردت يوماً الصلاة والكلب على الطريق، فتنحيت عنه، فقال: يا أبا عبد الله! جُزْ؛ فإنَّما سلطني الله على من يشتم أبا بكر وعمر
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "مجابو الدعوة"(56)، وكذا عبد الله ابن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة"(1/ 233) عن أبي المحياة.
رضي الله تعالى عنهما (1).
وروى اللالكائي في "السنة" عن المعافى بن عمران قال: قال سفيان الثوري: كنت أمر أغدو إلى الصلاة بغَلَس، فغدوت ذات يوم وكان لنا جار كان له كلب عقور، فقعدت أنتظر حتى يتنحى، فقال لي الكلب: جُز يا أبا عبد الله؛ فإنَّما أُمِرت بمن يشتم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما (2).
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: أقبل سعد - يعني: أباه - رضي الله تعالى عنه من أرض له، فإذا الناس علوف على رجل، فاطَّلع فإذا هو يسبُّ طلحة بن الزبير وعليًّا رضي الله تعالى عنهم، فنهاه فكأنَّما زاده إغراءً، فقال: ويلك! ما تريد إلى أن تسب أقواماً هم خير منك، لتنتهين أو لأدعونَّ عليك.
فقال: هيه، فكأنَّما تخوفني بنبي من الأنبياء.
فانطلق فدخل داراً، فتوضأ ودخل المسجد، ثم قال: اللهمَّ إن كان هذا قد سبَّ أقواماً قد سبق لهم منك خير فأرني اليوم به آية تكون آية للمؤمنين.
قال: وتخرج بختية من دار بني فلان نادَّة لا يردها شيء حتى تنتهي إليه، ويتفرَّق الناس عنه، فتجعله بين قوائمها فتطؤه حتى طفئ.
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 74).
(2)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(7/ 1258).
قال: فأنا رأيت سعداً رضي الله تعالى عنه يتبعه الناس ويقولون: استجاب الله لك أبا إسحاق، استجاب الله لك أبا إسحاق (1).
وقد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا لسعد بن أبي وقاص باستجابة الدعوة، فقال:"اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ"(2).
فاستجاب الله دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وصار سعداً مستجاب الدعوة.
وروى اللالكائي أيضا عن عمار بن سيف الضبي قال: خرجنا في غزاة في البحر وعلينا موسى بن كعب، وكان معنا في الركب رجل يُكنَّى: أبا حمان، فأقبل يشتم أبا بكر وعمر، فنهيناه فلم ينته، وزجرناه فلم ينزجر، فأتينا على جزيرة في البحر فارتقينا إليهم، ثمَّ خرجنا وتفرقنا يزيد الوضوء لصلاة الظهر، فأخبرنا أن الدَّبْر - يعني: الزنابير - وقعت على أبي حمان، فأتت على نفسه؛ قال: فوقعت عليه وهو ميت.
وفي رواية: أنهم أقبلوا يحفرون له، فاستوعرت عليهم الأرض وصلبت، فلم يقدروا على أن يحفروا له، فألقوا عليه الحجارة وورق الشجر (3).
وعن عمر بن الحكم عن عمه قال: خرجنا يزيد مكران ومعنا رجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، قال: فنهيناه فلم
(1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(7/ 1254).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 62)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(20/ 344) عن قيس بن أبي حازم.
(3)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(7/ 1255).
ينته، وانطلق ليقضي حاجته، فوقع عليه الدبر، فلم يقلع عنه حتى قطَّعه (1).
وذكر القزويني في "عجائب المخلوقات": أنَّ شخصاً قُتِلَ بأصبهان، وأُلقِيَ في بئر وله كلب يراه، فكان كل يوم يأتي إلى رأس البئر وينحي التراب عنها، ويشير إليها، وإذا رأى القاتل نبح عليه، فلمَّا تكرر ذلك منه حفروا فوجدوا القتيل، ثم أخذوا الرجل فأقر، فقُتِلَ به.
وأنشد للشريف الموسوي: [من الكامل]
الْكَلْبُ كَالرَّجُلِ الَّذِي إِنْ تُوْلِهِ
…
بَعْضَ الْجَمِيلِ غَدا لِبِرِّكَ شاكِراً
وَإِذا تَكَرَّرَ ذاكَ مِنْكَ إِلَيْهِ أضْـ
…
ـحَى عَنْكَ لِلأَعْداءِ سَيْفاً باتِراً
وروى ابن جهضم في "بهجة الأسرار"، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى قال: كنت يوماً أمشي في الصحراء فإذا قريب مني عشرة كلاب من كلاب الرعاة شدُّوا عليَّ، فلما قربوا مني جعلت أستعمل المراقبة، فإذا كلب أبيض قد خرج من بينها وحمل على الطلاب، وطردها عني، ولم يفارقني حتى تباعدت عني الكلاب، ثم التفت فلم أره (2).
(1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(7/ 1256).
(2)
رواه ابن الجوزي في "صفة الصفوة"(2/ 438).
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في "رسالته": أنَّ أبا عثمان دعاه إنسان إلى ضيافته، فلمَّا وافى إلى باب داره قال: يا أستاذ! ليس لي وجه في دخولك وقد ندمت.
فانصرف، فرجع أبو عثمان، فلما وافى منزله عاد إليه الرجل، وقال: يا أستاذ! ندمت على ردك، وأخذ يعتذر، وقال: احضر الساعة.
فقام أبو عثمان ومضى، فلما وافى باب الرجل قال مثل ما قال في الأول، ثم كذلك فعل في الثالثة والرابعة، وأبو عثمان ينصرف ويحضر، فلما كان بعد مرات قال: يا أستاذ! أردت اختبارك، وأخذ يعتذر ويمدحه.
فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجد مثله مع الكلاب؛ الكلب إذا دعي حضر، وإذا زجر انزجر.
ونقل القرطبي في "تفسيره" عن أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: ما علَّمني أحد ما علمني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجًّا، فقال لي: يا أبا يزيد! ما حد الزهد عندكم؟
فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا.
فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا.
قلت: وما حد الزهد عندكم؟
قال: إذا فقدنا شكرنا، داذا وجدنا آثرنا (1).
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(18/ 28)، ورواه الثعلبي في "التفسير"(9/ 279).
وروى ابن أبي شيبة عن سالم بن أبي الجعد قال: مَرَّ ثوران على أبي الدرداء رضي الله عنه وهما يعملان، فقام أحدهما فقام الآخر، فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إنَّ في هذا لمعتبراً (1).
قلت: ووجه الاعتبار أنَّ الأعمال التي لا تتأتى إلا من اثنين يحتاج مريدها إلى تحصيل رفيق صالح موافق حركته وسكونه، وإلَاّ استضر به، وفات العمل أو نقص ولم يكن محكماً.
ومن هنا لا يقرن أهل الإتقان من أهل الحرث بين ثور وأضعف منه؛ لأنَّ الضعيف يقصر عن القوي فيتعبه ويوهِنه، والقوي يكلف الضعيف مثل حركته ونشاطه فيقتله، فينبغي التعادل بينهما قوةً وضعفاً.
ولذلك كانت شركة الأبدان باطلة؛ لأن عمل الشريكين لا يكاد أن يتساوى، بل لا يتمحض تساويه، وربما زاد أحدهما في العمل على رفيقه، أو قصر عنه، فيؤدي ذلك للجهل بمقدار استحقاق كل منهما مما يكتسبانه.
ومن وجوه الاعتبار ما أشار إليه أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أنَّ الأعمال المشتركة إن كانت من أعمال الخير كالتحابِّ في الله، والسلام، والمصافحة، والزيارة، والعيادة، والنصيحة، ومعاونة الضعفاء في أعمالهم، وحضور الجمعة والجماعة، كان الاجتماع لتحصيلها لازماً للعبد الصالح.
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34599).
وإن كانت من أعمال الشر كالغيبة، والنميمة، والرياء، كان الاعتزال والانفراد عن أهلها متعيَّناً للعبد الصالح لدفعها عنه، وسلامته منها كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
فالتعاون لا يحصل إلا بالاجتماع، فالتعاون المأمور به مأمور بالاجتماع له، والتعاون المنهي عنه منهي عن الاجتماع له لتلازمهما.
ومن ذلك الاجتماع بأهل السنة يؤدي إلى الموافقة فيها، والاجتماع بأهل البدعة يؤدي إلى الموافقة فيها.
ومن هنا يتعين الابتعاد عن أهل الضلالة والاعتزال عنهم خشية من الإضلال؛ فإنَّ من قاده أعمى فانقاد له من غير تحرز مما عسى أن يقع فيه يوشك أن يسقط، فيسقط وراءه وهو لا يشعر.
ولقد أنشد الأستاذ أبو القاسم القشيري في "إشاراته": [من السريع]
لَوِ الْتَقَى فِي حَدبٍ واحِدٍ
…
سَبْعُونَ أَعْمَى بِمَقادِيرِ
وَصَيَّرُوا بَعْضَهُمْ قائِداً
…
فَكُلُّهُمْ يَسْقُطُ فِي البِيْرِ
ولقد اتفق لي تحقيق ذلك كنت مرة في طريق منحدب وإليه طريق آخر، فخرج من الطريق الآخذ إليه أعمى يقود عمياناً نحو عشرين حتى صاروا على رصيف الطريق، ثم خرج وراءهم أعمى آخر يقود عمياناً آخرين نحو عشرين، فوالله لقد عشر الأعمى الأول من
الطائفة الأولى في الحدب، فوقع المقتادون كلهم حتى ملوا الطريق وهم متلازمون لا يفلت أحدهم يده عن رفيقه، ثم عشر القائد الثاني بالواقعين في الطريق فسقط، فسقط المقتادون به كلهم وهم متلازمون كذلك، وكان ذلك بعد وقوفي على البيتين اللذين أنشدهما القشيري رضي الله تعالى عنه، وتعجبي منهما حتى رأيت ذلك عياناً، وكان ذلك في حدود سنة تسع وتسعين وتسع مئة.
وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: لو أنَّ الوحش طعمت طعم الإسلام لما تركته أبداً (1).
ونظيره الحديث المتقدم: "لَوْ تَعْلَمُ البَهَائِمُ مَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْمَوْتِ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا لَحْمًا سَمِيْناً"(2).
وقال بعض أهل العربية: [من البسيط]
لَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ ما فِي النَّحْوِ مِنْ أَدَبٍ
…
سَعَتْ إِلَيْهِ وَدقَّتْ بِالْمَناقِيرِ
وقال آخر: [من مخلَّع البسيط]
لَوْ ذاقَ طَعْمَ الإِيْمانِ رَضْوى
…
لَكانَ مِنْ أُنْسِهِ يَمِيدُ
وقال ابن عبد ربه في "العقد": قال الأصمعي: سمعت أعرابياً
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 137).
(2)
تقدم تخريجه.
يقول: كان سنان بن أبي حارثة أحلم من فرخ طائر.
قلت: وما حلم فرخ طائر؟
قال: إنه يخرج من بيضته في رأس نيق، فلا يتحرك حتى ينبت ريشه ويقوى على الطيران (1).
والنيق - بالكسر -: أرفع موضع في الجبل.
قال الشاعر:
شَغْواءُ تَوَطَّنَ بَيْنَ الشيقِ وَالنيقِ (2)
ويقال: الشيق أصعب موضع في الجبل.
وقال البوصيري رحمه الله تعالى: [من البسيط]
وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللهِ نُصْرَتُهُ
…
إِنْ تَلْقَهُ الأُسْدُ فِي آجامِها تَجِمِ
يقال: وَجَم يَجِم - كوعد يَعِد -: إذا سكت على غيظ.
والمعنى: أنها تخضع له وتنزجر عنه.
وكأن البوصيري لمح بقصة سفينة رضي الله تعالى عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسد، وقد ذكرتُها فيما سبق.
ومن غريب طرقها: ما رواه ابن عساكر - بسند ليس فيه متهم كما قال السيوطي - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 128).
(2)
انظر: "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (3/ 236).
سفينة رضي الله عنه بكتاب إلى معاذ وهو باليمن، فلمَّا صار بالطريق إذا هو بالسبع رابض في وسط الطريق، فخاف أن يجوز فيقوم إليه، فقال: أيها السبع! إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ رضي الله عنه، وهذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ رضي الله عنه.
قال: فقام السبع فهرول قدامه غلوة، ثم همهم، ثم صرخ، ثم تنحَّى عن الطريق، فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ، ثم رجع بالجواب، فإذا هو بالسبع، فخاف أن يجوز، فقال: أيها السبع! إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ، وهذا جواب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم فقام السبع، فصرخ، ثم همهم، ثم تنحَّى عن الطريق، فلمَّا قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتَدْرُوْنَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّة؟ قَالَ: كَيْفَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه؟
وأمَّا الثَّانية فقال: أَقْرِئْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثمَانَ، وَعَلِيًّا، وَسَلْمَانَ، وَصُهَيْبًا، وَبِلالاً مِنِّي السَّلامَ" (1).
وروى الطبراني، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَدْرُوْنَ مَا يَقُوْلُ الأَسَدُ فِي زَئِيْرهِ؟ ".
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: "يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ لا تُسَلِّطْنِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرُوفِ"(2).
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(10/ 474).
(2)
رواه الطبراني في "مكارم الأخلاق"(115)، والديلمي في "مسند الفردوس"(2337).
ويؤيده ما في الحديث: "إِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوْءِ"(1).
والزئير صوت الأسد في عدوه؛ يقال: زأر يزأر زئاراً، وزئيراً - بالكسر - وتزارَّ؛ كتعلَّم.
وروى الحاكم وصححه، عن أبي عقرب رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: "اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلابِكَ"، فافترسه الأسد (2).
وروى البيهقي في "الدلائل" عن قتادة: أنَّ عتبة بن أبي لهب تسلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَمَا إِنِّي أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ".
فخرج في نفر من قريش حتى نزلوا بمكان من الشام يقال له: الزرقاء ليلاً، فأطاف بهم الأسد، فجعل عتبة يقول: يا ويل أمي! هو والله آكلي كما دعا محمدٌ عَلَيَّ، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد فقتله من بين القوم، وأخذ برأسه فضغمه ضغمة، فذبحه (3).
وفي حديث آخر أخرجه ابن عساكر: كان أبو لهب وابنه عتبة قد
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3984)، وكذا البيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 338).
(3)
رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 339).
تجهزا إلى الشام، فقال عتبة: والله لأذهبنَّ إلى محمد فلآذينه في ربه، فأتاه وهو في الحجر فقال: هو يكفر بالذي دنا فتدلَّى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهُّمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلابِكَ".
وفيه: أنهم ساروا حتى نزلوا الشراة وهي مَأْسَدة، فجمعوا متاعهم إلى صومعة هناك، وفرشوا لعتبة، وناموا حوله، وبات وهو فوق المتاع وهم حوله، فجاء الأسد فشم وجوههم، فلما لم يجد ما يريده تنفض، ثم وثب فإذا هو فوق المتاع، فشم وجه عتبة، ثم هزمه هزمة، ففضخ رأسه، فانطلق. رواه أبو نعيم، وابن عساكر من حديث أهبان بن الأسود رضي الله عنه، وأنه شهد القصة وكان معهم (1).
ورواه ابن إسحاق، وأبو نعيم من طريقة أخرى - مرسلة - عن محمد بن كعب القرظي، وزاد: أنَّ حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال ذلك: [من السريع]
سائِلْ بَنِي الأَشْقَرِ إِنْ جِئْتَهُمْ
…
ما كانَ أَنْباءُ أَبِي واسِعِ
لا وَسَّعَ اللهُ لَهُ قَبْرَهُ
…
بَلْ ضَيَّقَ اللهُ عَلى القاطِعِ
رُحْمُ نبيٍّ جَدُّهُ ثابِتٍ
…
يَدْعو إِلَى نُورٍ لَهُ ساطِعِ
اسالُ بِالْحجرِ لِتكْذِيبِهِ
…
دُونَ قُرَيْشٍ نُهزةَ القارعِ
فَاسْتَوْجِبِ الدَّعوةَ مِنْهُ بِما
…
بُيِّنَ لِلنَّاظِر وَالسَّامعِ
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(67/ 161).
أَنْ سَلَّطَ اللهُ بِها كَلْبَهُ
…
يَمْشِي الْهُوَينا مِشْيَةَ الْخادِعِ
حَتَّى أَتاهُ وَسْطَ أَصْحابِهِ
…
وَقَدْ عَلَتْهُمْ سُنَّةُ الْهاجِعِ
فَالْتَقَمَ الرَّأْسَ بِيافُوخِهِ
…
وَالنَّحْرَ مِنْهُ فغرةَ الْجائِعِ
مَنْ يَرْجِعِ الآنَ إِلَى أَهْلِهِ
…
فَما أَكْيَلُ السبعَ بِالرَّاجِعِ (1)
وهذا وأمثاله يدل على أن السبع إنما يتسلط على أحد بتسليط الله تعالى، وينكف عن أحد بكف الله تعالى، وأنَّ محل تسليطه أهل معصية الله بسخط من الله تعالى، ومحل انكفافه أهل ولاية الله تعالى والمعروف في شريعته لرحمة من الله تعالى ورضا منه.
وروى أبو نعيم عن ثور بن يزيد قال: بلغني أنَّ الأسد لا يأكل إلا من أتى مُحرماً (2).
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن جعفر بن زيد - أراه العبدي -: أنَّ أباه أخبره قال: خرجنا في غَزَاة إلى كابل، وفي الجيش صلة بن أشيم رحمه الله تعالى، فنزل الناس عند العتمة، ثم اضطجع، فلمَّا هدأت العيون وثب يدخل غيضة قريباً منَّا وبغلته في أثره، فتوضأ ثمَّ قام يصلي، فافتتح وجاء أسد حتى دنا منه، قال: فصعدت في شجرة، قال: فتراه التفت أو عدَّهُ جَرواً حتى سجد، فقلت: الآن يفترسه
(1) رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة"(ص: 220).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 95).
حتى سجد فلا شيء، ثمَّ سلَّم، فقال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولَّى وإنَّ له لزئيراً تصدع الجبال منه.
قال: فما زال كذلك حتى لمَّا كان الصبح جلس يحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثمَّ قال: اللهمَّ إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟
قال: ثمَّ رجع فأصبح كأنَّه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من القلق ما الله به عليم (1).
وروى اللالكائي في باب الكرامات من "السنة" عن الحسن بن دعابة قال: رأيت عتبة الغلام رحمه الله تعالى إذا استحسن الطير دعاءه فيجيء حتى يسقط على فخذه، فيمسه، ثم يسيبه فيطير (2).
وعن عبد الله بن موسى الطُّفَاوي، قال: بلغني أنَّ رابعة - يعني: العدوية - رحمها الله تعالى كانت تطبخ قدراً، فاشتهت بصلاً، فجاء طير في منقاره بصلة، فألقاها إليها (3).
وروى أبو نعيم عن بكر بن خليفة قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أيها الناس! إنكم والله لو حننتم حنين الوله
(1) ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 259)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 240).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه اللالكائي في "كرامات الأولياء"(ص: 228).
العجال، ودعوتم دعاء الحمام، وجأرتم تجؤر المتبتل الرهبان، ثم خرجتم إلى الله تعالى من الأموال والأولاد التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصاها كتبته، لكان قليلاً فيما أرجو لكم من جزيل ثوابه، وأتخوَّف عليكم من أليم عقابه (1).
وعن وهب بن منبِّه قال: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة (2).
والمعنى فيه: أنَّ البلاء يحرس المؤمن من الطغيان كما يمنع الشكال الدابة من الرَّمَح والعض ونحو ذلك، إذ المرض حبس للعبد المؤمن عن شهوات النفس التي إذا استرسل فيها فربَّما أدَّت به إلى الطغيان والعدوان.
وروى أبو نعيم عن الشعبي قال: حدثني عجلان مولى زياد، قال: كان زياد إذا خرج من منزله مشيت أمامه إلى المسجد، فإذا دخل مشيت أمامه إلى مجلسه ذات يوم، فإذا هو بهر في زاوية البيت، فذهبت أزجره، فقال: دعه يقارب ما له، ثمَّ صلَّى الظهر، فعاد إلى مجلسه، ثم صلى العصر فعاد إلى مجلسه؛ كل ذلك يلاحظ الهر، فلما كان قبل غروب الشمس خرج جرد فوثب إليه فأخذه، فقال زياد: من كانت له حاجة فليواظب عليها مراقبة الهر يظفر بها (3).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 77).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 56).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 317).
وحُكِي عن بعض المراقبين أنَّه سُئِل: من أين تعلمت هذه المراقبة؟
قال: من سنور كان عندنا يرقب الفئرة، ويصبر فلا يتحرك حتى يخرج الفأر فيتناوله.
وقال القشيري في "رسالته": سُئِل أبو الحسن بن هند: متى يهش الراعي غنمه بعصى الرعاية عن مراعي الهلكة؟
قال: إذا علم أنَّ عليه رقيباً.
وروى الدينوري في "المجالسة" عن حمَّاد بن زيد رحمه الله تعالى قال: قيل للحمار: ألا تجتر؟
فقال: أكره مضغ الباطل (1).
وهذا على طريق ضرب المثال والتكلم بلسان الحال، وله نظائر تقدم منها جملة.
وقال القمي في "الأمثال": تقول العرب فيما تضربه من الأمثال: إنَّ الأسد رأى الحمار فرأى شدة حوافره، وعظم أسنانه، وعظم بطنه وأذنيه، فهابه، وقال: إنَّ هذا لمنكر، وإنَّ هذا لخليق أن يغلبني، فلو زرته ونظرت ما عنده، فدنا منه الأسد، فقال: يا حمار! أرأيت حوافرك هذه المنكرة لأي شيء هي؟
قال: للحجارة.
فقال الأسد: أَمِنْتُ حوافره.
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 496).
ثم قال: أفرأيت أسنانك هذه المنكرة لأي شيء هي؟
قال: للحنظل.
قال الأسد: قد أمنت أسنانه.
قال: أفرأيت أذنيك هاتين المنكرتين لأي شيء؟
قال: للذباب.
قال: أفرأيت بطنك لأي شيء هو؟
قال: ضراط أكنزه، وضَرَطَ، فأرسلها مثلاً (1)، انتهى.
وما أحسن ما قيل: [من الوافر]
وَلَوْ لَبِسَ الْحِمارُ ثِيابَ خَزٍّ
…
لَقالَ النَّاسُ يا لَكَ مِنْ حِمارِ
وقالوا في المثل: الفرس العتيق لا يعيبه خلاقة جله.
وروى الشيخان، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ: مَنْ لَها يَومَ السَّبُعِ يَومَ لَيسَ لَها راعٍ غَيْرِي، وَبَيْنَما رَجُلٌ يَسوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْها فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَكَلَّمَتْهُ، فَقالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذا وَلَكِنْ خُلِقْتُ لِلْحَرْث".
فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم، بقرة تتكلم؟
(1) وانظر: "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 240).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا"(1).
وروى أبو الشيخ في "العظمة" عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: جاءت بقرة إلى بيت كان إلى مجلس داود عليه السلام من ظاهر الباب، فحركته، فقال داود عليه السلام لوصيف عنده: انظر من بالباب فأدخله، فخرج فلم يرَ أحداً، فقال: يا نبي الله! ما بالباب أحد.
فعادت البقرة فحركت البيت، فقال: اخرج فما وجدت على الباب من شيء فأدخله.
فخرج فوجد البقرة فأدخلها، فخرَّت له ساجدة، ثم قالت: يا نبي الله! قد وضعت عند أهلي كذا وكذا بطناً، وانتفعوا بلبني، وقد ائتمروا أن يذبحوني.
فبعث إلى أهلها فذكر لهم الذي قالت، فقالوا: صدقت؛ لحمها علينا حرام (2).
وروى الخطيب في "الجامع" عن حَمَّاد الرَّاوية قال: كانت العرب تقول: عجبنا من أربعة أشياء: من الغراب، والكلب، والخنزير، والسنور.
فأمَّا الغراب فسرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل.
(1) رواه البخاري (3463)، ومسلم (2388)، والنسائي في "السنن الكبرى"(8111).
(2)
رواه أبو الشيخ في "العظمة"(5/ 1766).
وأما الكلب فالمعرفة تنفع عنده.
وأما الخنزير فإنه إذا احتقر شيئاً لم يدعه حتى يأتي على أصله.
وأمَّا السنور فإنَّه يواظب على الشيء فلا يبرح حتى يأخذه.
فمن طلب حاجة فليطلبها طلب الهر (1).
وفي كتاب "العقد" لابن عبد ربه: وقالوا: من أخذ من الديك ثلاثة أشياء، ومن الغراب ثلاثة أشياء، تمَّ بها أدبه ومروءته.
من أخذ من الديك سخاءه، وشجاعته، وغيرته.
ومن الغراب بكوره في طلب الرزق، وشدة حذره، وستر (2) سفاده (3).
وروى الدينوري في "المجالسة" عن الأصمعي قال: قيل لبزرجمهر الحكيم: بم أدركت ما أدركت؟
قال: ببكور كبكور الغراب، وحرص كحرص الخنزير، وصبر كصبر الحمار (4).
وعن المدائني قال: كان عظماء الترك يقولون: ينبغي للقائد
(1) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع"(2/ 183).
(2)
في "أ" و"ت": "شدة" بدل "ستر".
(3)
انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 139).
(4)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 56).
العظيم أن يكون فيه خصال من أخلاق الحيوان: شجاعة الديك، وتحنن الدجاجة، وقلب الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وحيل الذئب (1).
وقال أبو الليث السمرقندي في "تنبيه الغافلين": ويقال: ينبغي للغازي عشر خصال:
- أن يكون في قلب الأسد لا يجبن.
- وفي كبر النمر لا يتواضع للعدو.
- وفي شجاعة الذئب يقاتل بجميع جوارحه.
- وفي الخنزير لا يول دبره إذا حمل.
- وفي إغارة الذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه.
- وفي حمل الثقيل كالنملة تحمل أضعاف وزنها.
- وفي ثباته كالحجر لا يزول عن مكانه.
- وفي صبره كالحمار إذا أثقله حمله صبر يصبر على نضل السهام وضرب السهام.
- وفي وفاء الكلب لو دخل سيده النار لاتبع أثره.
- وفي التماس الفرصة كالديك.
وذكر صاحب "شرعة الإسلام"(2) نحو ذلك إلا أنه قال: إنَّ مقدم
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 198).
(2)
هو الإمام الواعظ محمد بن أبى بكر، المعروف بإمام زاده الحنفي.
العسكر ينبغي أن يتشبه بأصناف من الخلق؛ فيكون له قلب الأسد لا يجبن، وفي كبر النمر إلى آخره.
وزاد: في الحراسة كالكركي، وفي التعب كاليعزوب، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء.
وقال في "حياة الحيوان": حكى المسعودي عن بعض حكماء الفرس قال: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه حتى انتهى ذلك بي إلى الكلب، والهرة، والخنزير، والغراب، فقيل له: فما أخذت من الكلب؟
قال: إلفه لأهله، وذبه عن صاحبه.
قيل: فما أخذت من الهرة؟
قال: حسن تأنيها وتأنقها عند المسألة.
قيل: فما أخذت من الخنزير؟
قال: السكون في حوائجه.
قيل: فما أخذت من الغراب؟
قال: شدة حذره.
وذكر القشيري في "رسالته" عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى أنَّه قال: إن كنت ممن يخشى السباع فلا تصحبني.
كأنه أشار إلى من يخاف غير الله تعالى فلا ينبغي أن يصحب لأنه يفارقك إذا خاف عدوك وخشي عتاب صديقك، ويهرب عنك إذا قصدك سبع أو نحوه.
وأيضًا فإنَّ المريد إذا تبع المُربِّي لا يتم اتباعه له حتى لا يجول بينه وبينه هول ولا هوى.
قال القشيري رضي الله عنه: والمريد لا يفتر آناء الليل والنهار، فهو في الظاهر بنعت المجاهدات، وفي الباطن بوصف المكابدات، فارق الفراش ولازم الانكماش، وتحمل المصاعب وركب المتاعب، وعالج الأخلاق ومارس المشاق، وعاين الأهوال وفارق الأشكال كما قيل:
كَمْ قَطَعْتُ اللَّيْلَ فِي مَهْمَهٍ
…
لا أَسَداً أَخْشَى وَلا ذيبا
يَغْلِبُنِي شَوْقِي فَأَطْوِي السُّرى
…
وَلَمْ يَزَلْ ذُو الشَّوْقِ مَغْلُوباً
قال: وسُئِل الجنيد رحمه الله تعالى عن المريد والمراد؟
فقال: المريد: تتولاه سياسة العلم، والمراد: رعاية الحق لأنَّ المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر.
وعن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى قال: اختلفت إلى مجلس قاص فأثَّرَ كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي شيء، فعدت ثانياً فبقي أثر كلامه في قلبي، فرجعت إلى منزلي فكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطريق.
فحكى أبو سليمان هذه الحكاية ليحيي بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى فقال يحيى: عصفور اصطاد كركياً.
وقال بعض العلماء: عليك بصحبة أهل الخير؛ فإنَّ كلباً صحب
قوماً صالحين فذكره الله معهم في كتابه العزيز؛ يريد كلب أصحاب الكهف.
وروى الدينوري في "المجالسة" عن وهب رحمه الله تعالى: أنَّ الله تعالى قال لشعياء عليه السلام: قم في قومك، أُوحي على لسانك.
فلمَّا قام شعياء عليه السلام أنطق الله تعالى لسانه بالوحي، فقال: يا سماء! استمعي، ويا أرض! أنصتي.
فاستمعت السماء وأنصتت الأرض، فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: إني استقبلت بني إسرائيل بالكرامة وهم كالغنم الضائعة لا راعي لها، فأويت شاردتها، وجبرت كسيرها، وداويت مريضها، وأسمنت مهزولها، فبطرت فتناطحت، فقتل بعضها بعضاً حتى لم يبق منها عظم صحيح.
إنَّ الحمار ربما يذكر أرِيَّه الذي يشبع عليه فيراجعه، وإنَّ الثور ربما يذكر مرجه الذي سمن فيه فينتابه، وإنَّ البعير ربما يذكر وطنه الذي نيخ فيه فينزع إليه؛ فإنَّ هؤلاء القوم لا يذكرون من أين جاءهم الخير وهم أهل الألباب والعقول، ليسوا بإبل ولا بقر ولا حمير.
وإني ضارب لهم مثلاً فاسمعوه؛ قل لهم: كيف ترون في أرض كانت زماناً من زمانها خربة مواتاً، لا زرع فيها ولا حرث، وكان لها رب قوي حليم، فأقبل عليها بالعمارة، وأحاط عليها سياجاً، وشيَّد فيها قصوراً، وأنبط فيها نهراً، وصنَّف فيها غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار، وولَّى ذلك ذا رأي وهمة حفيظاً قوياً
أميناً، فلما جاء إبان ثمرها أثمرت خروباً، ما كنتم قائلين له ومشيرين عليه؟
قال: كنَّا نقول له: بئس الأرض أرضك، ونشير عليه أن يقلع سياجها، ويهدم قصورها، ويدفن نهرها، ويحرق غرسها حتى تعود خربة مواتاً لا عمران فيها.
فقال الله تعالى لهم: إنَّ السياج ذمتي، وإنَّ القصر شريعتي، وإنَّ النهر كتابي، وإنَّ الغراس مثل لهم، والخروب أعمالهم الخبيثة، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم؛ يتقربون إليَّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدَّعون أن يتقربوا إليَّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرَّمتها عليهم، ويزوقون لي المساجد وليس لي إلى تزويقها حاجة، إنما أمرت برفعها لأُذكر فيها وأسبَّح، ويقولون: لو كان يقدر على جمع ألفتنا لجمعها، ولو كان يقدر على فقه قلوبنا لفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين فاكتب فيهما كتاباً: إنَّ الله يأمركما أن تعودا عوداً واحداً، فقال لهما ذلك، فاختلطا، فصارا عوداً واحداً، وصار الكتاب في طرفي العود كتاباً واحداً: يا معشر بني إسرائيل! إن الله يقول لكم إني قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة، وعلى أن أؤلف بينها، فكيف لا أقدر أن أجمع ألفتكم إن شئت؟
أم كيف لا أفقه قلوبكم؟
ويقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلينا فلم تنور صلاتنا، وزكينا فلم تزك زكاتنا، ودعونا فلم يستجب لنا.