الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والبخت، لا بالذات، فرد عليهم بأن فضله كان بذاته، وفضيلته في نفسه؛ فإنه كان الحسيب الذي لا يشبهه في حسبه الشجاع الكريم العارف بالله تعالى، وبكتابه وأحكامه رضي الله تعالى عنه.
-
وممَّا يوصف به الظبي: الرشاقة
؛ أعني: الخفة والسرعة، وهي ثمرة رشاقة قَدِّه واعتداله.
وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون رشيق الحركة في مصالح دينه ودنياه، غير فتور ولا كسلان من غير مجاوزة إلى حد الرعونة والطيش، ويعينه على ذلك التقلل من المآكل والمشارب، والنعيم والرفاهية، والرياضة بالصيام والقيام، وبذلك يحصل له رشاقة القد وخفة البدن، ولا يسعى في التسمن والتبدن باستعمال الأدوية ونحوها؛ فإن التسمن للبهائم للانتفاع بلحمها وشحمها.
روى الإمام أحمد، وأبو نعيم عن معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ؛ فَإِنَّ عِبَادَ الله لَيْسُوْا بِالْمُتَنَعِّمِيْنَ"(1).
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: اخشوشنوا وتمَعْدَدوا، وإياكم وزي الأعاجم. رواه ابن حبان وغيره (2).
وروى ابن شاهين في "الصحابة"، والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "المعرفة" عن القعقاع بن أبي حدرد رضي الله تعالى عنه: أن
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَمَعْدَدُوْا، وَاخْشَوْشِنُوْا، وَاخْلَوْلقُوْا، وَانتُعِلُوْا، وَامْشُوْا حُفَاء"(1).
وقوله: "تَمَعْدَدُوْا"؛ أي: تزيُّوا بزي معد بن عدنان، واقتدوا به من الخشونة في العيش، والتقشف، ودعوا التنعم وزي العجم.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قوم وهنتهم الحمى، فلما كان الغد جلسوا مما يلي الحجر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين نزعم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء كأنهم الغزلان (2).
وفي الحديث إشارة إلى استحباب إظهار الشجاعة والنشاط والنعمة؛ خصوصاً عند الدخول على الأعداء؛ فإن ذلك أشد عليهم وأقمع لهم، وعلى الإخوان والأصدقاء؛ فإن ذلك أشرح لصدورهم وأدخل للسرور عليهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "إِنَّكمْ قَادِمُوْنَ عَلَىْ إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوْا رِحَالَكُمْ وَأَصْلِحُوْا شَأْنكُمْ حَتَّىْ
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 40). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 136): فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ضعيف.
(2)
رواه أبو داود (1889)، وأصل الحديث عند البخاري (4009)، ومسلم (1266).
تَكُوْنُوْا كَأَنَّكمْ شَامَةٌ فِيْ النَّاسِ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ". رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما من حديث سهل ابن الحنظلية وصححه الحاكم (1).
وروى الترمذي وحسنه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَىْ أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَىْ عَبْدهِ"(2).
وروى أبو داود عن أبي الأحوص، عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال:"ألكَ مَالٌ؟ ".
قلت: نعم.
قال: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ ".
قال: قد آتاني الله من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق.
قال: "إِذَا آتَاكَ اللهُ فَلْيَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ"((3).
وروى ابن سعد في "طبقاته" عن جندب بن مكيث رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم الوفد لبس خير ثيابه، وأمر عامة أصحابه بذلك (4).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 179)، وأبو داود (4089)، والحاكم في "المستدرك"(3717).
(2)
رواه الترمذي (2819) وحسنه.
(3)
رواه أبو داود (4063)، وكذا النسائي (5224).
(4)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(4/ 346).
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحرورية أتيت علياً فقال: ائت هؤلاء القوم.
قال: فلبست أحسن ما يكون من حُلل اليمن فأتيتهم.
فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟
قلت: ما تعيبون عليَّ؟ رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحُلل (1).
وفي وصية بعض الحكماء: ادخل على عدوك جوعان، ولا تدخل عليه عريان.
ووجهه: أن الجوع يخفى ويكتم، والثياب ظاهرة تلحظ؛ فإذا كان عليك ثوب يزري بك لخَلَاقته وغيرها، فدخلت فيه على عدوك، شَمَت بك.
وروى الطبراني - ورجاله رجال الصحيح - عن أبي يعفور قال: سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنه يسأله رجل: ما ألبس من الثياب؟
قال: ما لا يزدريك فيه السفهاء، ولا يعيبك به الحكماء.
قال: وما هو؟ قال: ما بين الخمسة دراهم إلى العشرين (2).
وهذا الذي قاله ابن عمر من القول الفصل في هذا الباب، والمنهج
(1) رواه أبو داود (4037).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13051). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 135): رجاله رجال الصحيح.
العدل في هذا الأمر، وأراد بالحكماء علماء الشرع، وهم أهل الحكمة الذين أوتوها:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا} [البقرة: 269].
وما يعيبه العلماء هو ما خالف الشرع والسنة، وما يزدري فيه المرء السفهاء شامل لأن يلبس المفتي أو القاضي، أو المدرس ثياب الصوفية وغيرهم، أو البزاز ثياب البقال والجزار، ونحو ذلك، أو العامي ثياب الفقهاء وزي العلماء، أو التاجر زي الأمراء، أو العالم زي الأجناد، أو زي الولاة؛ فإن السفهاء يزدرون هؤلاء بذلك، ويصير الواحد منهم ضحكة.
- ومن الظباء ما له نافجة مسك، ومنها ما ليس له ذلك، وهو الأكثر، وغزلان المسك بأرضِ تِبْت من بلاد الهند وغيرها.
وحكى الشرف بن يونس شارح "التنبيه"، و"مختصر الإحياء": أنه لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض جاءته الوحوش تسلم عليه وتزوره، وكان يدعو لكل جنس بما يليق به، فجاءته طائفة من الظباء، فدعا لهن، ومسح على ظهورهن، فظهرت فيهن نوافج المسك، فلما رأى بواقيها ذلك قلن: ومن أين لك هذا؟
فقلن لهن: زرنا صفي الله آدم عليه السلام، ومسح على ظهورنا.
فمضى البواقي إليه، فدعا لهن، ومسح على ظهورهن، فلم يظهر لهن من ذلك شيء، فقلن: قد فعلنا كما فعلتن، فلم نر شيئاً مما حصل لكُنَّ.
فقيل لهن: أنتن كان عملكن لتنَلْنَ كما نال إخوتكن، وأولئك عملهن لله من غير شوب، فظهر ذلك في نسلهن وعقبهن إلى يوم القيامة.
وكذلك ينبغي للعبد الإخلاص في كل أعماله لتظهر آثار بركة الإخلاص عليه وعلى عقبه إلى يوم القيامة.
وعلى ذكر ظباء المسك، فقد روى البخاري عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالحِ وَالْجَلِيسِ السُّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ؛ لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً"(1).
وروى أبو داود، وأبو يعلى، والرامهرمزي في "الأمثال"، وابن حبان في "روضة العقلاء"، والضياء المقدسي في "المختارة" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ مَثَلُ العَطَّار؛ إن لم يُعْطِكَ مِنْ عِطْرِهِ أصابَكَ مِنْ رِيحِهِ، ومَثَلُ الجليسِ السُّوءِ مَثَلُ القَيْنِ - أي: الحدَّاد - إن لم يُحْرِقْ ثوبَكَ أصابَكَ مِنْ رِيحِهِ"(2).
(1) رواه البخاري (1995)، وكذا مسلم (2628).
(2)
رواه أبو داود (4829)، وأبو يعلى في "المسند"(4295)، والرامهرمزي في "الأمثال" (ص: 113)، وابن حبان في "روضة العقلاء" (ص: 118)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(2215).
وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْعَطَّار؛ إِنْ جَالَسْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ مَاشَيْتَهُ نَفَعَكَ، وَإِنْ شَارَكْتَهُ نَفَعَكَ"(1).
وروى الشيرازي عن أحمد بن عمر الوزان، قال: سمعت بعض النساء يقول: كنت أصيد على شاطئ البحر الظباء بالشَّرَك، فأقبل ظبي كبير له جمال وهيبة، فطمِعْتُ أن يقع في يدي، فلما نظر إلى الشَّرَك رجع عن الماء وخاف، ثم أراد الهجوم لما به من العطش، فلما عظم ذلك عليه طلع إلى ذروة الجبل، فبسط يديه ومد رجليه، ثم صرخ صرخة ففزعت من شدتها، فما كان إلا يسير حتى أقبلت سحابة فأمطرت حتى صار بين يديه بركة، فشرب من الماء وهو نائم، فتبت من الصيد.
قلت: وما في هذه القصة من إلهام هذا الظبي من التوجه إلى الله تعالى في حال الاضطرار إلى الماء وقد حِيل بينه وبينه حتى سأل الله تعالى فأجابه وأغاثه= كافٍ في إرشاد العبد في حال اضطراره إلى التوجه إلى الله تعالى بالدعاء، والتوسل بالالتجاء:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
وهذا النوع من المعرفة أنفع شيء للعبد، وقد وقع التعريف به في غير موضع من كتاب الله عز وجل، لكن العارفين به قليل، والمهتدين به
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13541). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(ص: 83): فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس.
سالكون أوضح السبيل، ونيلهم منه أعظم النيل، وهم متقلدون به آناء النهار والليل.
وفي المعنى يقول (1): [من الطويل]
إِذا لَمْ يَكُنْ لِي فِي اضْطِرارِي وَشِدَّتِي
…
مُعِينٌ سِوى اللهِ الْمُقَدَّسِ مَجْدُهُ
فَما فِي شُهودِي غَيْرَهُ غَيْرُ خَيْبَةٍ
…
وَما نافِعِي إِلَاّ إِذا احْتَجْتُ قَصْدُهُ
وَلا أَهْتَدِي لِلْقَصْدِ إِلَّا بِفَضْلِهِ
…
وَتَوْفيقِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَوَدُّهُ
فَيا رَبِّ ما لِي غَيْرُ بابِكَ مَقْصِدٌ
…
وَأَنْتَ الَّذِي فِي كُلِّ أَمْرٍ أَعُدُّهُ
فَكُنْ بِيْ رَحِيماً وَاعْفُ عَنِّي تَكَرُّماً
…
فَأنْتَ العَظِيمُ الشَّامِلُ الْخَلْقِ رِفْدُهُ
فَما اقْتَدَحَ العَبْدُ الزِّنادَ لِمَقْصِدٍ
…
وَأَوْرَى بِغَيْرِ اللهِ ذِي العَرْشِ زِنْدُهُ
(1) كذا في "أ" و "ت"، ويظهر على هذا الشعر أنه من نظم المؤلف رحمه الله تعالى.