الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والغل إلا ما كان من الديكة والكباش، ونحوهما في بعض الأحيان.
وسبب ذلك: أن الطير لمَّا كان مسيرها في الهواء ومَرَاحها في الفضاء اتسعت أخلاقها، وسلمت قلوبها.
وكذلك ينبغي للعبد أن يكون واسع الأخلاق دمثها، سليم القلب من الغل والحقد والحسد، والشقاق والنفاق.
قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47].
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ"(1)؛ أي: فارغة من كل شيء سوى ذكر الله تعالى، وطلب ما يعنيها.
-
ومن أحوال كثير من الطير: الاستئناس بالله تعالى والانفراد عن الخلق
.
وذلك مطلوب من الآدمي في محله على ما سبق بيانه.
وروى الدينوري عن وهب قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل إن أردتَ أن تسكن معي غداً حظيرة القدس فكن في الدنيا وحيداً فريداً مهموماً محزوناً كالطائر الوحداني، يطير في رياض الفلا، وَيرِدُ ماء العيون، يأكل أطراف الشجر، فإذا جَنَّ عليه الليل آوى وحده استيحاشاً من الطير، واستئناساً بربه (2).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 331)، ومسلم (2840).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 209).
وروى الحارث بن أبي أسامة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيَأْتِيْ عَلَىْ النَّاسِ زَمَانٌ لا يَسْلَمُ لِذِيْ دِينٍ دِيْنُهُ إِلَاّ مَنْ فَرَّ بِدِيْنِهِ مِنْ شَاهِقٍ إِلَىْ شَاهِقٍ، وَمِنْ جُحْرٍ إِلَىْ جُحْرٍ كَالطَّيْرِ بِأَفْرَاخِهِ، وَكَالثَّعْلَبِ بِأَشْبَالِهِ"(1).
ومن شواهده حديث الأئمة مالك، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، وأبي داود، والنسائي عن أبي سعيد رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يُوْشِكُ أَنْ يَكُوْنَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا، يَتَتَبَّعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِيْنِهِ مِنَ الْفِتَنِ"(2).
وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُوْشِكُ أَنْ يَكُوْنَ خَيْرَ النَّاسِ رَجُلٌ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ، يُجَاهِدُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، وَيعْتَزِلُ شِرَارَ النَّاسِ، وَرَجُلٌ بَادٍ فِيْ نَعْمٍ لَهُ يُؤَدِّيْ حَقَّهَا وَيُقرِيْ الضَّيْفَ"(3).
ومن الطير ما يأنس بالناس كاليمام، وهي التي تألف البيوت من الحمام كما قال الكسائي (4).
والفواخت والعصافير؛ فإنها إذا خلت مدينة من أهلها ذهبت معها العصافير، فإن عادوا إليها عادَتْ كما تقدم.
(1) رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(774).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(9596).
(4)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 648)(مادة: يمم).
والخطاف؛ روى الثعلبي، وغيره: أن آدم عليه السلام لمَّا أُخرج من الجنة شكا إلى الله الوحشة، فآتاه الخطاف، فأسكنها البيوت، وألزمها إياه، فهي لا تفارق بني آدم أُنساً بهم (1).
وكذلك شأن المؤمن التآلف، وفي حديث عامر المتقدم:"الْمُؤْمِنُ يَألَفُ ويُؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيْمَنْ لا يَألَفُ وَلا يُؤْلَفُ"(2).
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِيْنَ فِيْ تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتكَىْ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّىْ"(3).
ويجمع بين هذا الخُلق والذي قبله بأن ألفة المؤمن بالمؤمن محلها إذا كانت للإفادة والاستفادة، والنفع والانتفاع في غير إثم ولا إرادة [غير] وجه الله تعالى.
وفرار المؤمن من الناس حين لا يجد في الاجتماع فائدة أُخروية، وحين يكون الاجتماع شاغلاً للقلب عن الطاعة، أو سبباً للوقوع في المعصية.
وفي مثل ذلك قال إبراهيم بن أدهم وغيره:
(1) وانظر: "تفسير القرطبي"(13/ 166).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 270)، ومسلم (2586).
اتَّخِذِ اللهَ صاحِباً
…
وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جانِبا (1)
ومن لطائف الخطاف ما ذكره الدميري، والسيوطي أنه من الطير القواطع إلى الناس، تقطع من البلاد البعيدة إليهم رغبةً في القرب منهم، ثم إنَّ الخطاطيف تبني بيوتها في أبعد المواضع عن الوصول إليها، وتُعرف عند الناس بعصفور الجنة لأنه زهد فيما في أيديهم من الأقوات، وإنما تَقْتَاتُ بالبعوض والذباب، ولا يرى واقفاً على شيء يأكله أبداً.
وفي المعنى قيل: [من الكامل]
كُنْ زاهِداً فِيما حَوَتْهُ يَدُ الوَرَى
…
تَضْحَى إِلَى كُلِّ الأَنامِ حَبِيبا
أَوَ ما تَرى الْخَطَّافَ حَرَّمَ زادَهُمْ
…
فَغَدا مُقِيماً فِي البِلادِ رَبِيبا
قلت: وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن سهل بن سعد رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس.
فقال: "ازْهَدْ فِيْ الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيْمَا فِيْ أَيْدِيْ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ"(2).
وقال الشيخ زين الدين بن الوردي: [من البسيط]
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 373).
(2)
رواه ابن ماجه (4102). وحسن النووي إسناده في "رياض الصالحين"(ص: 107).