الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟
قالت: أقول: تذكروا يا غافلين، وتهيؤوا لسفركم؛ سبحان خالق النور!
فقال سليمان عليه السلام: ليس طير من الطير أنصح لبني آدم، وأشفق من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها (1).
يشير إلى أن الجهال لا يحبون الناصحين.
-
ومن أوصاف الطير، وسائر البهائم والسباع والهوام:
التراحم الذي يكون بين الجنس منها، أو بين النوع والتعاطف إلا ما شذ كمناقرة بعض الديوك، ومناطحة بعض الكباش، وإحالة الذئاب على الذئب إذا دَمِي كما قَدَّمناه، وأخص من ذلك عطف سائر الحيوانات على أولادها ورحمتها لها، وشفقتها عليها إلا ما شذ من ذلك كالهرة التي تأكل أولادها كما قال الشاعر:[من السريع]
أَما تَرى الدَّهْرَ وَهذا الوَرى
…
كَهِرَّةٍ تَأكلُ أَوْلادَها (2)
والأناسي أخص المخلوقات بهذه الرحمة؛ ولاسيما الشفقة على أطفالهم، وأطفال غيرهم، وعلى ضعفائهم.
روى مسلم عن أبي هريرة، وسلمان رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ للهِ تَعَالَىْ مِائَةُ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 391).
(2)
البيت لابن المعتز، انظر:"جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 243).
بَيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُوْنَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُوْنَ، وَأَخَّرَ تِسْعًا وَتِسْعِيْنَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1).
فالمطلوب من العبد المؤمن الرحمة والشفقة على إخوانه من الإنس، وعلى سائر الخلق خصوصاً الضعيف من المخلوقات، وهي صفة المؤمن؛ وقسوة القلب صفة المنافق.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خِيَارُ أُمَّتِيْ عُلَمَاؤُهَا وَخِيَارُ عُلَمَائِهَا رُحَمَاؤُهَا، أَلا وَإِنَّ اللهَ لَيَغْفِرُ لِلْعَالِمِ أَرْبَعِيْنَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يَغْفِرَ لِلْجَاهِلِ ذَنْبًا وَاحِدًا، أَلا وَإِنَّ الْعَالِمَ الرَّحِيْمَ يَجِيْءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ نُوْرَهُ قَدْ أَضَاءَ يَمْشِيْ بِهِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَمَا يُضِيْءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ". رواه أبو نعيم، والخطيب وقال: منكر، وابن عساكر (2).
وهذا الحديث - وإن كان منكر الإسناد - فإنَّ معناه صحيح (3).
روى الشيخان عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لا يَرْحَمِ النَّاسَ لا يَرْحَمُهُ اللهُ تَعَالَىْ"(4).
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: جاء أعرابي إلى
(1) رواه مسلم (2752) عن أبي هريرة رضي الله عنه، (2753) عن سلمان رضي الله عنه.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 188)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(1/ 238)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(56/ 118).
(3)
قال الذهبي في "ميزان الاعتدال"(6/ 64): خبر باطل متنه.
(4)
رواه البخاري (6941)، ومسلم (2319).
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان ولا نقبلهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَ أَمْلِكَ لَكَ أَنْ نزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ"(1).
وروى أبو داود، والترمذي وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الرَّاحِمُوْنَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تَعَالَىْ، اِرْحَمُوْا مَنْ فِيْ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِيْ السَّمَاءِ"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله الصادقَ الصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَاّ مِنْ شَقِىٍّ".
هذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن، وفي بعض نسخه: حسن صحيح (3).
وروى الإمام أحمد، والحاكم وصححه، والأصبهاني - واللفظ له - عن معاوية بن قرة [عن أبيه] رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني آخذ شاة وأريد أن أذبحها فأرحمها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ الله"(4).
(1) رواه البخاري (5652)، ومسلم (2317).
(2)
رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924) وقال: حسن صحيح.
(3)
رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1923).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 436)، والحاكم في "المستدرك"(6481).
وروى ابن ماجه عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَيُّهَا الْبَعِيْرُ! اسْكُنْ؛ فَإِنْ تَكُ صَادِقًا فَلَكَ صِدْقُكَ، وَإِنْ تَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْكَ كَذِبُكَ؛ مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَىْ قَدْ آمَنَ عَائِذَناَ وَلَيْسَ بِخَائِبٍ لائِذُنَا".
فقلنا: يا رسول الله! ما يقول هذا البعير؟
فقال: "هَذَا بَعِيْرٌ قَدْ هَمَّ أَهْلُهُ بِنَحْرِهِ وَأَكْلِ لَحْمِهِ فَاسْتَغَاثَ بِنَبِيِّكُمْ".
قال: فبينا نحن كذلك إذ أقبل أصحابه يتعادون، فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله! هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام، فلم نلقه إلا بين يديك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّهُ يَشْكُوْ لِيْ فَبِئْسَتِ الشِّكَايَةُ".
فقالوا: يا رسول الله! ما يقول؟
قال: "إِنَّهُ يَقُوْلُ: إِنَّهُ رُبِّيَ فِيْ أَمْنِكُمْ أَحْوَالاً، وَكُنتمْ تَحْمِلُوْنَ عَلَيْهِ فِيْ الصَّيْفِ إِلَىْ مَوْضعِ الْكَلأِ، فَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ رَحَلْتُمْ إِلَىْ مَوْضعِ الدِّفْءِ، فَلَمَّا كَبُرَ اسْتَفْحَلْتُمُوْهُ فَرَزَقَكُمْ اللهُ مِنْهُ إِبِلاً سَائِمَةً، فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ هَذهِ السَّنَةُ الْخَصْبَةُ هَمَمْتُمْ بِنَحْرِهِ وَأَكْلِ لَحْمِهِ".
فقالوا: قد والله كان ذلك يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَا جَزَاءُ الْمَمْلُوْكِ الصَّالِحِ مِنْ مَوَالِيْهِ".
قالوا: يا رسول الله! فإنا لا نبيعه ولا ننحره.
فقال صلى الله عليه وسلم: "كَذَبْتُم، قَدْ اسْتَغَاثَ بِكُم فَلَم تَغِيْثُوْه، وَأَنَا أَوْلَى بِالرَّحْمَةِ مِنْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ نزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوْبِ الْمُنَافِقِيْنَ، وَأَسْكَنَهَا فِيْ قُلُوْبِ الْمُؤْمِنِيْنَ".
فاشتراه النبي صلى الله عليه وسلم منهم بمئة درهم، وقال:"أَيُّهَا الْبَعِيْرُ! اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَىْ".
فرغا على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"آمِيْنَ"، ثم رغا فقال:"آمِيْنَ"، ثم رغا، فقال:"آمِيْنَ"، ثم رغا الرابعة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يارسول الله! ما يقول هذا البعير؟
قال: "قَالَ: جَزَاكَ اللهُ أَيُّهَا النَّبِيُّ عَن الإِسْلامِ وَالْقُرْآنِ خَيْرًا، فَقُلْتُ: آمِيْنَ، ثُمَّ قَالَ: سَكَّنَ اللهُ رُعْبَ أُمَّتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا سَكَّنْتَ رُعْبِيْ، فَقُلْتُ: آمِيْنَ، ثُمَّ قَالَ: حَقنَ اللهُ دِمَاءَ أُمَّتِكَ مِنْ أَعْدَائِهَا - يَعْنِيْ: مِنْ الْكُفَّارِ - كَمَا حَقَنْتَ دَمِي، فَقُلْتُ: آمِيْنَ، ثُمَّ قَالَ: لا جَعَلَ اللهُ بَأْسَ أُمَّتِكَ بَيْنَهَا، فَبَكَيْتُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ سَأَلتُ رَبِّي فَأْعْطَانِيْهَا، وَمَنَعَنِيْ هَذِهِ، وَأَخْبَرَنِيْ جِبْرِيْلُ عليه السلام عَن اللهِ تَعَالَىْ أَنَّ فَنَاءَ أُمَّتِيْ بِالسَّيْفِ، جَرىْ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ"(1).
وروى ابن حبان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، [عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال: "دَنَا رجُلٌ إلى بئرٍ، فنزَلَ فشَرِبَ منها،
(1) كذا عزاه المنذري في "الترغيب والترهيب"(3/ 144) لابن ماجه.
وعلى البئرِ كلبٌ يَلْهَثُ، فرَحِمَهُ، فَنَزَعَ أحدَ خُفَّيهِ فَسَقَاهُ، فَشَكَرَ اللهُ له، فأدخلَهُ الجنَّةَ" (1).
وهو عند مالك في "الموطأ"، والشيخين، وأبي داود أبسط من هذا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِيْ بِطَرِيْقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيْهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَىْ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلَ الَّذِيْ بَلَغَ مِنِّيْ فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَ بِفِيْهِ حَتَّىْ رَقِيَ فَسَقَىْ الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللهَ لَه".
فقالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّ لَنَا فِيْ الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟
فقال: "فِيْ كُلِّ كَبْدٍ حَرَّى رَطْبَةٍ أَجْرٌ"(2).
وروى الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصْغي للهرة الإناء فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها (3).
ولا شك أنَّ هذا من الرحمة.
وروى أبو داود الطيالسي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(543).
(2)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 929)، والبخاري (2234)، ومسلم (2244)، وأبو داود (2550).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7949)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 308).
رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالعيال (1).
وأخرجه ابن عساكر، وقال: كان أرحم الناس بالصبيان والعيال (2).
وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً، وكان لا يأتيه أحد إلا وعده وأنجز له إن كان عنده (3).
ويكفي في وصفه بالرأفة والرحمة قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك متخلقاً بهذه الأخلاق الكريمة، ولا تتم له إلا بالعلم، فمن جمع بين العلم والرحمة، وأجراهما مجراهما، فهو أفضل الناس اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أرحم الأمة بالأمة؛ أي: بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن جرير عن أبي صالح الحنفي رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ رَحِيْمٌ يُحِبُّ الرَّحِيْمَ، يَضَعُ رَحْمَتَهُ عَلَى كُلِّ رَحِيْمٍ".
قالوا: يا رسول الله! إنَّا لنرحم أنفسنا وأموالنا وأزواجنا.
(1) رواه الطيالسي في "المسند"(2115).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(278).
قال: "لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ كُوْنُوْا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَىْ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] "(1).
وقلت: [من الخفيف]
أَرْحَمُ النَّاسِ بِالأَنامِ نَبِيٌّ
…
وَصَفَ اللهُ بِالرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ
وَالَّذِي يَقْتَدِي بِهِ فِي هُداهُ
…
فَهْوَ أَوْلَى الوَرَى بِوَصْفِ العَلِيمِ
كُنْ رَؤُوفاً بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
…
تَلْقَ رُحْمَى مِنَ الرَّحِيمِ العَظِيمِ
وَقُساةُ القُلُوبِ أَحْرى مِنَ اللـ
…
ـه بِبُعْدٍ عَنِ الْمَقامِ الكَرِيمِ
وَذَوو الرَّحْمَةِ الكِرامُ حَرِيُّو
…
نَ بِها وَهْيَ عَيْنُ دارِ النَّعِيمِ
ومن شأن الطير اللازم لها ما وقعت الإشارة إليه بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19].
قوله: {صَافَّاتٍ} ؛ أي: أجنحتهن يبسطنها مصفوفة.
{وَيَقْبِضْنَ} ؛ أي: يضربن بأجنحتهن بسطاً وقبضاً، وبذلك يتيسر لها الطيران كما قال تعالى:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
والتشبه بالطير، والطيران على وجهين:
الأول: أن يكون بالهمة وطلب المعالي والمعارف كما قال
(1) رواه الطبري في "التفسير"(11/ 78).
الشيخ نجم الدين المعروف بالكبري: المريد سيار، والعارف طيار.
والثاني: أن يكون على الحقيقة، وذلك لا يتهيأ إلا لبعض أولياء الله تعالى على وجه الكرامة وخرق العادة، ولا يكون ذلك بالتعمل، وإنما يكون إكراما من الله تعالى لمن شاء من عباده من أهل اليقين.
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عيسى عليه السلام وقد ذكر أنه كان يمشي على الماء - قال: "لَو ازْدادَ يَقِيْناً لَمَشى فِيْ الْهَوَاءِ"(1).
قال أبو علي الدقاق: أشار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى مقام نفسه ليلة المعراج؛ أشار إليه الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" في باب اليقين.
وقال في باب الكرامات: وحكيَ عن أبي عمران الواسطي قال: انكسرت بنا السفينة، وبقيت أنا وامرأتي على لوح، وقد ولدت في تلك الحالة صبية فصاحت بي، وقالت: يقتلني العطش.
فقلت: هو ذا تَرَينَ حالنا.
فرفعت رأسي فإذا رجل جالس في الهواء وفي يده سلسلة من ذهب وفيها كوز من ياقوت أحمر، وقال: هاك اشربا.
قال: فأخذت الكوز، وشربنا منه، فإذا هو أطيب من المسك، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، فقلت: مَنْ أنت يرحمك الله تعالى؟
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 156) عن وهيب المكي. قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1022): حديث منكر.
فقال: عبد لمولاك.
فقلت: بم وصلت إلى هذا؟
فقال: تركت هواي لمرضاته، فأجلسني في الهواء، ثم غاب عني فلم أره.
قال: وقيل: كان لإبراهيم بن أدهم صاحب يقال له: يحيى، يتعبد في غرفة ليس لها سلم ولا درج، فكان إذا أراد أن يتطهر يحرك باب الغرفة، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويمر في الهواء كأنه طائر ثم يتطهر، فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويعود إلى غرفته.
وقد تقدم أن هذه الكلمة هي التي تقولها الملائكة عليهم السلام إذا أراد الواحد منهم هبوطاً أو صعوداً، وبها أقلت حملة العرش العرش بعد أن لم يقدروا عليه، ولهذه الكلمة سر عظيم، وهي من كنوز العرش، وقد سبق فضلها.
ثم إن الكرامة بالمشي على الماء أو في الهواء لا ينبغي أن يتعجب من وقوعهما لبعض أولياء الله تعالى بعد أن تيسر ذلك للحوت والطير.
وقد يتفق مثل هذا الخارق لغير ولي؛ إما على سبيل الاستدراج، وإما من باب السيمياء والإيهامات، وذلك لا فضلية فيه بخلاف ما كان على وجه الكرامة.