الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهُمَّ ارْزُقْنَا مِنْ فَضْلِكَ، وَلَا تَحْرِمْنَا رِزْقَكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيْمَا رَزَقْتَنَا، وَاجْعَلْ غِنَانَا فيْ أَنْفُسِنَا، وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيْمَا عِنْدَكَ"(1).
وقال أكثر المفسرين في قوله تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]؛ يعني: في الآخرة (2).
وعندي: أنه أعم من ذلك في الدنيا وفي الآخرة؛ فإن الله تعالى قد يثيبُ على الفضل، والمراد به الطاعة في الدنيا بأن يوسع رزقه عليه، ويدفع عنه الآفات والبلايا، وتوفيقه إلى طاعة أخرى، ويُصلح له أهله وولده ورفيقه ودابته إلى غير ذلك، وذلك كله من فوائد التوبة والاستغفار المأمول بهما في الآية الكريمة، فافهم.
*
الفائِدَةُ الثَّانِيةَ عَشْرَةَ:
أنَّ التوبة ترقِّع ما خرَّقته الذنوب من الأستار.
روى ابن أبي الدنيا عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: كم للمؤمن من ستر؟
قال: "هِيَ أكثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَىْ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا عَمِلَ خَطِيْئَة هَتَكَ مِنْهَا سِتْراً، فَإِذَا تَابَ رَجَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ السِّتْرُ وَتسْعَةٌ مَعَهُ، وَإِذَا لَمْ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 66).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 399).
يَتُبْ هُتِكَ مِنْهَا سِتْرًا وَاحِدًا حَتَّى إِذا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ قَالَ اللهُ تَعَالى لِمَنْ شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ: إِنَّ بَنيْ آدَمَ يُعيرُوْنَ وَلَا يُغيرُوْنَ، فَحُفُّوْهُ بِأَجْنِحَتِكُمْ، فَيَفْعَلُوْنَ بِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ رَجَعَتْ إِلَيْهِ تِلْكَ الأَسْتَارُ كُلُّهَا، وَإِذا لَمْ يَتُبْ عَجِبَتْ مِنْهُ الملائِكَةُ، فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالى: أَسْلِمُوْهُ، فَيُسْلِمُوْنهُ حَتَّى لَا يُسْتَرُ مِنْهُ عَوْرَةٌ" (1).
وسبق حديث جُبير بن نُفير في معناه في التشبه بالملائكة عليهم السلام.
وكان ابن السماك يتمثل كما رواه ابن أبي الدنيا: [من السريع]
يا مُذنِبَ الذَّنْبِ أَما تَسْتَحِي
…
وَاللهُ في الْخَلْوَةِ ثانِيكا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهالُهُ
…
وَسَتْرُهُ طُولَ مَساوِيكا (2)
وروى ابن جهضم عن أحمد بن الفتح قال: قال لي بشر -يعني: الحافي- رحمه الله تعالى: يا أحمد! إن قومًا غرَّهم ستر الله، وفتنهم حسن ثناء الناس عليهم، فلا يغلبنَّ جهل غيرك لك على علمك بنفسك، أعاذنا الله وإيّاك من الاغترار بالستر والاتكال على حسن الذكر (3).
* فائِدَةٌ:
قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: الناس يعملون أعمالهم
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "التوبة "(77).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "التوبة"(10).
(3)
ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(10/ 212).
من تحت كَنَف الله، فإذا أراد الله تعالى بعبد فضيحة أخرجه من تحت كنفه، فبدت منه عورته (1).
وقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَهْتِكُ اللهُ عَبْداً وَفِيْهِ مِثْقَالُ حبةٍ مِنْ خَيْرٍ"(2). رواهما ابن أبي الدنيا في "التوبة"، والثاني حديث مرسل.
ورواه ابن أبي شيبة، وأبو نعيم من قول أبي إدريس، ولفظه: لا يَهتكُ اللهُ سِتر عبدٍ وفِيهِ مِثقَال حَبَّةٍ مِن خَيرٍ (3).
وفي معناه ما رواه البيهقي في "سننه" عن أنس رضي الله عنه قال: أُتِي عمر بن الخطاب بسارق، فقال: والله ما سرقت قط قبلها.
فقال له عمر: كذبت وربِّ عمر؛ ما أخذ الله عبدًا عند أول ذنب، فَقَطَعَه (4).
قال ابن حجر في "أطرافه": رواه ابن وهب في جامعه، وهو موقوف حكمه حكم الرفع، كتبته لصحة سنده.
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "التوبة"(78).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "التوبة"(79)، وكذا البيهقي في "شعب الإيمان"(7219).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26569)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 124).
(4)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(17054). قال ابن حجر في "التلخيص الحبير"(3/ 224): إسناده قوي.
وروي معناه عن ابن شهاب، عن أبي بكر، وهو منقطع.
وروى ابن جهضم عن معروف الكرخي رحمه الله تعالى قال: يقول الله تعالى في بعض الكتب: ابن آدم! ما أجسرك! تسألني فأمنعك لعلمي بما يصلحك، ثم تلح عليَّ في المسألة، فأجود برحمتي وكرمي عليك، فأعطيك ما سألتني، فتستعين بما أعطيك على معصيتي، فأهم بهتك سترك، فتسألني فأستر عليك، ثم تعاود المعصية فأستر عليك، فكم من جميل أصنعه بك، وكم من قبيح تعمله معي، يوشك أن أغضب عليك غضبة لا أرضى بعدها أبدًا.
وقال ابن مفلح الحنبلي في "آدابه": هل يفضح الله عاصيًا بأول مرَّة أم بعد التكرار؟
قولان للعلماء.
والثاني: مروي عن عمر، وغيره من الصحابة.
واختار ابن عقيل في "الفنون" الأول، واعترض على من قال بالثاني: ترى آدم عليه السلام كان عصى قبل أكل الشجرة بماذا؟ فسكت، انتهى (1).
وهذا الاعتراض غير وارد؛ لأنَّ معصية آدم كانت من باب اللَّمم والزلة، لا على سبيل القصد لمخالفة أمر الله تعالى، فلم يكن ذنبا يقتضي العقوبة والفضيحة.
(1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 164).
وأيضًا فإنَّ إهباط آدم عليه السلام من الجنة لم يكن من باب رفع الستر عنه والعقوبة له، بل من باب التأديب والتكميل، ومثل ذلك إذا كان في أول مرة من الذنب كان أمنع للعبد من الذنب، وأنفع له من الانتهاك، وعادة الله تعالى كثيرًا ما تجري بالستر مراراً على العاصي الذي يراد إمهاله، ثم أَخْذُه آخِرًا لإقامة الحجة عليه والإعذار فيه كما أمهل الله تعالى فرعون وغيرَه، ثم أخذهم، أو على الذي جرى عليه في القضاء والقدر أمور من المعاصي لا بد له من استيفائها، ثم يعود الله عليه بالتوبة، أو يُجْرِي عليه العقوبة في الذنب تمحيصاً وتكفيراً كما في قصة السارق الذي قطعه عمر رضي الله تعالى عنه.
* فائِدَةٌ أُخْرَى:
من أراد أن يستر الله تعالى عليه فليستتر إذا ابتلي بالمعصية، وليستر على أخيه المؤمن ما عسى أن يطلع عليه من عورته؛ فإنَّ ذلك من مقتضيات الستر من الله، كما أنَّ الامتهان بالذنب، وفضيحة المسلمين من مقتضيات فضيحة العبد العاصي.
روى مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم: أنَّ رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط؛ وذكر الحديث، وفيه: ثم قال: "أيها النَّاسُ! قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوْا عَنْ حُدُوْدِ اللهِ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُوْرَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَبْدَىْ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ"(1).
(1) رواه مالك في "الموطأ"(1508).
وروى الحاكم وصححه، والبيهقي في "السنن" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجْتَنِبُوْا هَذِهِ القَاذُوْرَاتِ الَّتيْ نهَىْ اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ وَلْيتبْ إِلى اللهِ، فَإِنَّهُ مِنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ الله"(1).
وروى الإِمام عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن العلاء بن بدر قال: لا يُعذِّبُ الله قومًا وهم يستترون بالذنوب (2).
وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي -واللفظ له - والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَىْ مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا في الدُّنْيَا سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ فيْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فيْ عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فيْ عَوْنِ أَخِيْهِ"(3).
وروى الإِمام أحمد، وأبو داود عن أبي برزة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلمْ يَدْخُلِ الإيمَانُ
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(7615)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 330). قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 57): صححه ابن السكن، وذكره الدارقطني في "العلل"، وقال: روي عن عبد الله بن دينار مسندًا ومرسلاً، والمرسل أشبه.
(2)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (5/ 338).
(3)
تقدم تخريجه.