الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح: الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بسنية جلوس الخطيب على المنبر بعد صعوده حتى يفرغ المؤذن؛ لقوة ما استدلوا به، وخاصة حديث السائب رضي الله عنه.
[المطلب التاسع اعتماد الخطيب على قوس أو عصا أو سيفا أو نحوها]
[المسألة الأولى حكم الاعتماد على قوس أو عصا أو سيف أو نحوها]
المطلب التاسع
اعتماد الخطيب على قوس أو عصا أو سيفا أو نحوها وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: حكم الاعتماد على قوس، أو عصا، أو سيف، أو نحوها.
المسألة الثانية: اليد التي يمسك بها ذلك.
المسألة الثالثة: ما يفعل بيديه إذا لم يعتمد على شيء.
المسألة الأولى: حكم اعتماد الخطيب على قوس، أو عصا، أو سيف، أو نحوها: وفيها أمران:
الأمر الأول: حكم الاعتماد على قوس أو عصا أو نحوهما.
الأمر الثاني: حكم الاعتماد على سيف.
الأمر الأول: حكم اعتماد الخطيب على قوس، أو عصا، أو نحوهما: اختلف الفقهاء في حكم اعتماد الخطيب أثناء خطبة الجمعة على قوس، أو عصا، وذلك على قولين:
القول الأول: يسنّ اعتماده على ذلك.
وبهذا قال المالكية (1) والشافعية (2) والحنابلة (3) .
القول الثاني: يكره الاعتماد على ذلك.
وبه قال الحنفية (4) .
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
(1) ينظر: المدونة 1 / 156، والبيان والتحصيل 1 / 341، ومواهب الجليل 2 / 172، والشرح الصغير 1 / 181، والفواكه الدواني 1 / 307.
(2)
ينظر: الأم 1 / 230، والحاوي 3 / 53 - 54، والوجيز 1 / 64، والمجموع 4 / 528، وروضة الطالبين 2 / 32، ومغني المحتاج 1 / 290.
(3)
ينظر: الهداية لأبي الخطاب 1 / 52، والمغني 3 / 179، والفروع 2 / 119، والمحرر 1 / 151، والإنصاف 2 / 397، والمبدع 2 / 163.
(4)
ينظر: حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص (334) .
استدلوا بأدلة من السنة، والمعقول:
أولا: من السنة:
1 -
ما رواه الحكم (1) بن حَزْنٍ الكُلَفِيُّ قال: «وفدتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه فقلنا: زرناك فادع الله لنا بخير، فأمر بنا، أو أمر لنا بشيء من التمر والشأن إذ ذاك دُون، فأقمنا بها أياما شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام مُتوكئا على عصا، أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: أيها الناس إنكم لن تطيقوا، أو لن تفعلوا كل ما أمرتم به ولكن سددوا وابشروا» (2) .
(1) هو الحكم بن حزْن الكُلفي، التميمي، صحابي، قليل الحديث، قال مسلم: " لم يرو عنه إلا شعيب (يعني ابن زريق) .
(ينظر: طبقات ابن سعد 5 / 516، أسد الغابة 2 / 31) .
(2)
أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة - باب الرجل يخطب على قوس 1 / 287، الحديث رقم (1096) ، والإمام أحمد في 4 / 212، والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب الجمعة - باب الإمام يعتمد على عصا أو قوس أو ما أشبههما إذا خطب 3 / 206، وابن خزيمة في صحيحه في كتاب جماع أبواب صلاة العيدين - باب الاعتماد على القسي أو العصي على المنبر في الخطبة 2 / 352.
وقال عنه النووي في المجموع 4 / 526: " حديث حسن رواه أبو داود وغيره بأسانيد حسنة "، وقال ابن حجر في التلخيص بهامش المجموع 4 / 602:" وإسناده حسن "، كما حسنه الألباني في إرواء الغليل 3 / 78، وتوصل محمد بن عبد الوهاب العبدلي في تحفة الأريب بما جاء في العصا للخطيب ص (8) إلى تصحيحه.
2 -
ما رواه عبد الله (1) بن الزبير رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بمِخْصَرَةٍ (2) في يده» (3) .
3 -
ما روى عطاء (4) بن أبي رباح أنه سُئِل: أكان النبي -
(1) هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي، الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول مولود في الإسلام بعد الهجرة للمهاجرين، حنكه النبي صلى الله عليه وسلم وسماه، بويع بالخلافة بعد يزيد، وأطاعه أهل الحجاز والعراق واليمن، وجدد بناء الكعبة، وقتل سنة 73هـ.
(ينظر: أسد الغابة 3 / 161، والإصابة 4 / 69) .
(2)
قال في المصباح: الْمِخْصَرَةُ - بكسر الميم - قضيب أو عنزة ونحوه يشير به الخطيب إذا خاطب الناس.
(ينظر المصباح المنير، مادة " خصر " 1 / 171) .
(3)
أخرجه البزار كما في كشف الأستار 1 / 306 - 307، وأبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ص (128) ، وابن سعد في الطبقات 1 / 277، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكن قال العبدلي في تحفة الأريب ص (9) :" وحديثه يصح في الشواهد والمتابعات "، ثم قال عن الحديث:" حسن لغيره يشهد له حديث الحكم بن حزن الكلفي ".
(4)
هو عطاء بن أبي رباح القرشي، المكي، ولد في خلافة عمر، وقيل: في خلافة عثمان، وكان أحد الفقهاء المجتهدين، له آراء فقهية كثيرة، لقي كثيرا من الصحابة وأخذ عنهم، وانتهت إليه الفتوى في مكة، وتوفي سنة 114 هـ.
(ينظر: تذكرة الحفاظ 1 / 98، وتهذيب التهذيب 7 / 199) .
صلى الله عليه وآله وسلم - يقوم إذا خطب على عصا؟ قال: " نعم، كان يعتمد عليه اعتمادًا "(1) .
وهذا وإن كان مرسلا فقد جعله بعض المحدِّثين شاهدًا لحديث الحكم بن حزن المتقدم، فلهذا ذكرته.
4 -
ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نُووِلَ يوم العيد قوسًا فخطب عليه» (2) .
5 -
ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة قبل الخطبة في العيدين بغير أذان ولا إقامة، قال: ثم خطب الرجال وهو متكئ على
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجمعة - باب اعتماد رسول الله صلى الله عليه وسلم على العصا 3 / 183، رقم (5243) ، والبيهقي في سننه الكبرى في كتاب الجمعة - باب الإمام يعتمد على عصا أو قوس أو ما يشبهها إذا خطب 3 / 206، وقال الألباني في إرواء الغليل 3 / 78:" وهو مرسل صحيح "، وجعله شاهدا لحديث الحكم بن حزن، لكن ذكر العبدلي في تحفة الأريب ص (19) أنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، ولا يصلح في الشواهد والمتابعات، لأن التابعي قد يكون أخذه عن تابعي آخر فأكثر.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة - باب يخطب على قوس 1 / 298، رقم (1145) ، وجعله ابن حجر شاهدًا لحديث الحكم بن حزن المتقدم كما في التلخيص مع المجموع 4 / 602، وقال عنه:" وصححه ابن السكن "، وضعَّفه العبدلي في تحفة الأريب ص (17) .
قوس» . . . " الحديث (1) .
وهما وإن كانا في خطبة العيد إلا أن بعض أهل العلم (2) استدل بها للجمعة أيضا، ولعل وجه ذلك أن كليهما قيام لوعظ الناس وتذكيرهم، فما يسنّ في أحدهما يسنّ في الأخرى ولاتفاقهما في كثير من الأحكام.
هذه هي أبرز وأصح الأحاديث الواردة في سنية اعتماد الخطيب على قوس أو عصا - حسب اطلاعي -، وقد ذكر صاحب " تحفة الأريب بما جاء في العصا للخطيب " اثني عشر حديثا في ذلك من أبرزها ما ذكرت، والباقي شاذ أو ضعيف لإرسال أو غيره، أو موضوع.
وقد جعل ابن القيم فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا قبل اتخاذ المنبر، أما بعده فلم يعتمد على شيء (3) لكن ليس في الأحاديث السابقة دلالة على ذلك، والله أعلم.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3 / 314، وقال الألباني في إرواء الغليل 3 / 99:" بسند صحيح على شرط مسلم "، وقد أخرجه البخاري في صحيحه وغيره بلفظ:" وهو يتوكأ على بلال " لكن حكم العبدلي في تحفة الأريب ص (11) على هذه الرواية بالشذوذ.
(2)
ومنهم الألباني في إرواء الغليل 3 / 78، والعبدلي في تحفة الأريب ص (9) .
(3)
ينظر: زاد المعاد 1 / 429.
ثانيا: من المعقول: 1 - أن في الاعتماد على قوس أو عصا أو نحوهما شغلا عن مس اللحية والعبث باليد (1) .
2 -
أن اعتماد الخطيب على القوس أو العصا أو نحوهما أعون له، وأمكن لروعه، وأهدأ لجوارحه (2) .
دليل أصحاب القول الثاني: أن الاعتماد على القوس والعصا ونحوهما خلاف السنة، فيكره (3) .
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه ثبت في السنة الاعتماد على ذلك كما في أدلة أصحاب القول الأول.
الترجيح: الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - القول الأول القائل بسنية اعتماد الخطيب على قوس أو عصا
(1) ينظر: البيان والتحصيل 1 / 341، ومواهب الجليل 2 / 172، والفواكه الدواني 1 / 307.
(2)
ينظر: الحاوي 3 / 54، والمهذب مع المجموع 4 / 526، والمغني 3 / 179، والمبدع 2 / 163، وكشاف القناع 2 / 36.
(3)
حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص (334) .
أو نحوهما في خطبة الجمعة، لقوة ما استدلوا به، وخاصة حديث الحكم بن حزن الذي حسَّنه بعض العلماء المحققين في علم الحديث كالنووي وابن حجر كما في تخريجه.
وهذا ما اختاره سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله حيث قال في تقرير له في ذكر فوائد حديث الحكم ابن حزن: " منها شرعية الاعتماد في الخطبة على قوس، أو عصا، وذلك لكونه أرفق للخطيب وأثبت له، ولا سيما إذا كان يطول وقوفه أو مقصود مهم، فكونه معتمدا على قوس أوعصا هو السنة، وخص القوس والعصا لأنهما يستصحبان عادة زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما تستصحب العصا عندنا "(1) . الأمر الثاني: اعتماد الخطيب على سيف: اختلف الفقهاء في حكم اعتماد الخطيب على سيف أثناء خطبة الجمعة، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يشرع الاعتماد على السيف مطلقا.
(1) فتاوى ورسائل سماحته 3 / 21.
وبهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله (1) .
القول الثاني: يسنّ الاعتماد على السيف مطلقا كالقوس ونحوهما.
وبهذا قال المالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) .
القول الثالث: يسنّ الاعتماد على السيف في البلاد التي فتحت عنوة دون البلاد التي فتحت صلحًا.
وبهذا قال الحنفية (5) .
الأدلة:
دليل صاحب القول الأول: استدل بعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك (6) .
دليل أصحاب القول الثاني: أن في الاعتماد على السيف إشارة إلى أن هذا الدين فتح
(1) ينظر: زاد المعاد 1 / 429.
(2)
ينظر: الشرح الصغير 1 / 181، والفواكه الدواني 1 / 307.
(3)
ينظر: المجموع 4 / 528، وروضة الطالبين 2 / 32، ومغني المحتاج 1 / 290.
(4)
ينظر: الهداية لأبي الخطاب 1 / 52، والمغني 3 / 179، والفروع 2 / 119، والإنصاف 2 / 397، وكشاف القناع 2 / 36.
(5)
ينظر: مراقي الفلاح (103) ، وحاشية الطحطاوي عليه ص (334) .
(6)
ينظر: زاد المعاد 1 / 429.
به، وقام به، ولهذا يسنّ أن يكون ذلك في يده اليسرى كعادة من يريد الجهاد به (1) .
مناقشة هذا الدليل: ناقشه ابن القيم بأنه جهل قبيح من وجهين:
الوجه الأول: أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا والقوس.
الوجه الثاني: أن الدين قام بالوحي، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فُتحت بالقرآن، ولم تُفتح بالسيف (2) .
أدلة أصحاب القول الثالث: استدلوا على سنية الاعتماد على السيف في البلاد التي فتحت عنوة بما يلي:
أن الخطيب إذا اعتمد على السيف في هذه البلاد فإنه يُري أهلها أنها فُتِحَتْ بالسيف، وأنهم إذا رجعوا عن الإسلام فذلك باقٍ بأيدي المسلمين، يقاتلونهم به حتى يرجعوا إلى الإسلام (3) .
(1) ينظر: مغني المحتاج 1 / 290، والمبدع 2 / 163، وكشاف القناع 2 / 36.
(2)
ينظر: زاد المعاد 1 / 190، وفتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 3 / 21.
(3)
مراقي الفلاح ص (103) .
مناقشه هذا الدليل: يناقش بالوجه الثاني من مناقشة دليل القول السابق من أن الإسلام انتشر بالوحي، وبقاؤهم على الإسلام يكون بنشر الإسلام بينهم، لا بفرضه عليهم بحد السيف.
وأما قولهم بعدم مشروعية الاعتماد على السيف في البلاد التي فتحت صلحا فالظاهر أنهم يستدلون بما استدل به صاحب القول الأول.
الترجيح: الراجح في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول الذي قال به ابن القيم رحمه الله، وهو عدم مشروعية اعتماد الخطيب في الجمعة على السيف؛ لقوة دليله، وعدم قيام الدليل على سنيته.
وهو ما اختاره سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله حيثما قال بعد الكلام على سنية الاعتماد على القوس والعصا: ". . . وأما السيف فليس بمشروع. . . "(1) .
(1) فتاوى ورسائل سماحته 3 / 21.