الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح: الذي يظهر رجحانه في هذه المطلب - والله أعلم بالصواب - القول الأول القائل بعدم جواز كلام الخطيب حال الخطبة بما ليس منها إلا عند الحاجة ولا سيما ما ورد فيه نص، لقوة ما استدلوا به، ووجاهته.
[المسألة الثانية حكم كلام الحاضر للخطبة]
[الأمر الأول حكم كلامه إذا كان يسمع الخطبة]
المسألة الثانية: حكم كلام الحاضر للخطبة: وفيها خمسة أمور:
الأمر الأول: حكم كلامه إذا كان يسمع الخطبة.
الأمر الثاني: حكم كلامه إذا كان لا يسمع الخطبة.
الأمر الثالث: حكم رد السلام وتشميت العاطس.
الأمر الرابع: حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الخامس: حكم التأمين على الدعاء.
الأمر الأول: حكم كلام الحاضر للخطبة إذا كان يسمعها: اختلف الفقهاء في حكم كلام الحاضر للخطبة إذا كان يسمعها، وذلك على قولين:
القول الأول: يحرم الكلام، ويجب الإنصات، وتباح مخاطبة الإمام لحاجة.
وبهذا قال الحنفية (1) والمالكية (2) وهو القول القديم للإمام الشافعي (3) وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة (4) .
وبه قال ابن حزم (5) .
القول الثاني: لا يحرم الكلام، ولكنه يستحب الإنصات.
وهو القول الجديد للإمام الشافعي، والصحيح والمشهور عند أصحابه (6) ورواية عند الإمام أحمد (7) .
(1) ينظر: المبسوط 2 / 128، وبدائع الصنائع 1 / 263، والفتاوى الهندية 1 / 147، وعبر بعضهم بالكراهة، والظاهر أنه يقصدون كراهة التحريم.
(2)
ينظر: الإشراف 1 / 132، والكافي لابن عبد البر 1 / 251، والبيان والتحصيل 1 / 385، والقوانين الفقهية ص (86) ، ومواهب الجليل 2 / 178.
(3)
ينظر: الحاوي 3 / 41، وحلية العلماء 2 / 285، والمجموع 4 / 522، وروضة الطالبين 2 / 28، ومغني المحتاج 1 / 287.
(4)
ينظر: الهداية لأبي الخطاب 1 / 53، والمغني 3 / 153، والفروع 2 / 124، والمحرر 1 / 152، والإنصاف 2 / 417.
(5)
ينظر: المحلى 5 / 61 - 62.
(6)
ينظر: الحاوي 3 / 42، وحلية العلماء 2 / 285، والمجموع 4 / 522، وروضة الطالبين 2 / 28.
(7)
ينظر: المغني 3 / 193، والفروع 2 / 125.
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول: أولا: استدلوا على تحريم الكلام إذا لم يكن مخاطبة للإمام لحاجة بأدلة من الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والمعقول:
- فمن الكتاب: قول الله - تعالى -: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] الآية (1) .
فقد ورد عن بعض التابعين أنها نزلت في شأن الخطبة (2) وقد أمر بالاستماع والإنصات، ومطلق المسألة للوجوب (3) وذلك يقتضي تحريم الكلام.
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأنها محمولة على الاستحباب جمعا بين الأدلة، إن سلم بأن المراد الخطبة (4) .
الإجابة عن هذه المناقشة: يجاب بأن هذا الحمل مخالف لظاهر الآية المؤيدة بالأحاديث الآتية، والجمع بين الأحاديث يكون بإبقائها على ظاهر دلالتها وقصر ما ورد فيه الكلام على الحاجة
(1) سورة الأعراف، جزء من الآية رقم (204) .
(2)
ومنهم مجاهد وعطاء كما ذكر الطبراني في تفسيره 9 / 165.
(3)
بدائع الصنائع 1 / 264.
(4)
ينظر: المجموع 4 / 525، ومغني المحتاج 1 / 287.
حسب ما يدل عليه مضمونها.
- من السنة: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» (1) .
ومعنى " فقد لغوت " أي قلت اللغو، وهو الكلام الملغي الساقط الباطل المردود، وقيل: معناه قلت غير الصواب، وقيل: تكلمت بما لا ينبغي (2) .
ونقل في الفتح عن بعضهم قوله: " اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام "(3) .
قال النووي: " ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، ونبه بهذا على ما سواه؛ لأنه إذا قال: أنصت، وهو في الأصل أمر بمعروف، وسماه لغوا، فغيره من الكلام أولى "(4) .
(1) تقدم تخريجه ص (93) .
(2)
ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 6 / 138، وفتح الباري 2 / 414، ونيل الأوطار 3 / 273، وذكروا أقوالا أخرى.
(3)
فتح الباري 2 / 414.
(4)
ينظر: شرح صحيح مسلم 6 / 138.
مناقشة هذا الدليل: نوقش من وجهين:
الأول: أن المراد باللغو الكلام الفارغ، ومنه لغو اليمين فلا يدل على تحريم الكلام (1) .
الإجابة عن هذه المناقشة: يجاب عنها بأنه قد ورد في بعض الأحاديث ما يرد ذلك، ويفيد التحريم، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه سلم - قال:(ومن لغا أو تخطى كانت له ظهرا)(2) .
وفي لفظ: «ومن تكلم فلا جمعة له» (3) هذا بالإضافة إلى ما سيأتي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما من تشبيهه بالحمار يحمل أسفارا.
الثاني: أن معنى قوله: «فقد لغوت» أي أمرت بالإنصات من لا يجب عليه (4) .
(1) ينظر: المجموع 4 / 525.
(2)
أخرجه ابن خزيمة في كتاب الجمعة - باب ذكر الخبر المفسر. 3 / 156، الحديث رقم (1810)، وقال الأرنؤوط في هامش زاد المعاد 1 / 430:" وسنده حسن ".
(3)
أخرجه أحمد في المسند 1 / 93 لكن قال الأرنؤوط في هامش زاد المعاد 1 / 430: " إسناده ضعيف لجهالة مولى امرأة عطاء الخرساني، لكن يشهد له ما رواه ابن خزيمة. "، يعني ما تقدم تخريجه قبله.
(4)
نقله ابن حجر في فتح الباري 2 / 414 - 415 عن ابن التين عن بعض من قال بجواز الكلام.
الإجابة عن هذه المناقشة: أجيب عنها بأن هذا جمود؛ لأن الإنصات لم يختلف في مطلوبيته، فكيف يكون من أمر بما طلبه الشارع لاغيا؟ بل النهي عن الكلام مأخوذ من الحديث بدلالة الموافقة؛ لأنه جعل قوله:(أنصت) مع كونه أمرا بمعروف لغوا، فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا (1) .
2 -
ما رواه أُبي (2) بن كعب رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة (تبارك) وهو قائم، فذكرنا بأيام الله، وأبو الدرداء (3) أو أبو ذر (4) يغمزني،
(1) ينظر: فتح الباري 2 / 415.
(2)
هو أبي بن كعب بن قيس الأنصاري، الخزرجي، سيد القراء، شهد العقبة وبدرا وما بعدها، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:(أقرؤكم أبي)، وقال عمر:" أبي سيد المسلمين "، توفي سنة 22، وقيل 30هـ، وقيل غير ذلك.
(ينظر: أسد الغابة 1 / 49، والإصابة 1 / 16) .
(3)
هو عويمر بن مالك بن زيد قيس الخزرجي الأنصاري، مشهور بكنيته أبي الدرداء، تأخر إسلامه قليلا، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان فقيها عاقلا، حكيما، ولي قضاء دمشق في خلافة عثمان، وتوفي قبل مقتل عثمان بسنتين.
(ينظر: طبقات ابن سعد 7 / 391، والإصابة 5 / 46) .
(4)
اختلف في اسمه وأسم أبيه، فقيل: هو جندب بن جنادة، وقال ابن حجر: هو المشهور، وصححه ابن الأثير، وهو من بني غفار، وكان من كبار الصحابة وفضلائهم، أسلم قديما ثم انصرف إلى قومه فأقام عندهم حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصحبه، وتوفي سنة 31 هـ، وقيل غير ذلك.
(ينظر: أسد الغابة 5 / 186، والإصابة 7 / 60) .
فقال: متى أنزلت هذه السورة؟ فإني لم أسمعها إلا الآن، فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا قال: سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال: إنه ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، وأخبره بالذي قال له أبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق أُبي» (1) .
ووجه الدلالة فيه في تسمية الكلام حال الخطبة لغوا.
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأن المراد نقص جمعته بالنسبة إلى الساكت (2) .
الإجابة عن هذه المناقشة: يجاب عنها بأن هذا مخالف لظاهر الحديث، ثم إنه إذا كان الكلام ينقص الجمعة فهذا يدل على تحريمه ووجوب الإنصات؛ لأن ترك المستحب لا ينقصها، وإنما يفوت به أجر فعل المستحب، والله أعلم.
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة - باب ما جاء في الاستماع للخطبة 1 / 353، الحديث رقم (1111)، وقال في الزوائد:" إسناده صحيح رجاله ثقات "، وأحمد في مسنده 5 / 143، 198، وصححه الألباني في إرواء الغليل 3 / 80 - 81، وصحيح سنن ابن ماجه 1 / 183 وغيرهما. وقال الأرنؤوط في هامش زاد المعاد 1 / 431:" وإسناده حسن ".
وروي من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2)
ينظر: المجموع 4 / 525.
3 -
ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو، وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » (1)(2) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المنصت لخطبة الجمعة هو الحاصل على تكفير الذنوب، والمتكلم فيها لاغيا، وهذا يدل على وجوب الإنصات، وتحريم الكلام؛ لأن الإنسان مأمور بتحصيل فائدة العبادة والبعد عما يفسدها.
(1) سورة الأنعام، جزء من الآية رقم (161) .
(2)
أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة - باب الكلام والإمام يخطب 1 / 291، الحديث رقم (1113) ، والإمام أحمد في مسنده 2 / 214، والبيهقي في كتاب الجمعة - باب الإنصات للخطبة 3 / 219، وصححه، وقال النووي في المجموع 4 / 525:" حديث صحيح "، وقال الألباني في إرواء الغليل 3 / 80:" وإسناده جيد "، وقال في نيل الأوطار 3 / 272:" قال العراقي: وإسناده جيد "، وقال الأرنؤوط في هامش زاد المعاد 1 / 430:" وإسناده حسن ".
4 -
ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة» (1) .
وجه الدلالة: يدل على وجوب الإنصات وتحريم الكلام من وجهين:
الأول: أنه شبه المتكلم بالحمار، ومعلوم أن ذلك صفة ذم ونقص لا يوصف بها تارك الندب.
الثاني: نفي أن تكون له جمعة، وقد علمنا أنها جمعة، فلما استعار له لفظ نفي الإجزاء وعدم الصحة دل على تأكيد منعه وشدة تحريمه (2) .
ومن آثار الصحابة رضي الله عنهم: 1 - ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1 / 230، وابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات - باب في الكلام إذا صعد الإمام المنبر وخطب 2 / 125، وقال ابن حجر في بلوغ المرام ص (79) :" لا بأس بإسناده "، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2 / 184:" رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الناس ووثقه النسائي في رواية ".
(2)
ينظر: الإشراف 1 / 132.
قال: " كفى لغوا إذا صعد الإمام المنبر أن تقول لصاحبك أنصت "(1) .
وهذا الأثر واضح الدلالة كما تقدم في الأحاديث.
2 -
ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال للذي سأله عن كلامه مع صاحبه: " أما أنت فلا جمعة لك، وأما صاحبك فحمار "(2) .
وتوجيه الاستدلال كما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ومن المعقول: 1 - أن الإباحة للكلام وترك الإنصات أثناء الخطبة استخفاف بالخطيب، وإبطال لمعنى الخطبة، وإزالة لفائدتها، وذلك أوفى ما وصف بأنه محرم (3) .
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات - باب في الكلام إذا صعد المنبر وخطب 2 / 124، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2 / 186:" رواه الطبراني: في الكبير، ورجاله رجال الصحيح "، وقال في نيل الأوطار 3 / 272 - 273:" قال العراقي: ورجاله ثقات محتج بهم في الصحيح، قال: وهو إن كان موقوفا فمثله لا يقال من قبل الرأي، فحكمه الرفع ".
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب والباب السابقين 2 / 125، وابن حزم في المحلى 5 / 63.
(3)
ينظر: المبسوط 2 / 28، والإشراف 1 / 132 - 133.
2 -
أن الصلاة قربة وطاعة، وقد حرمت لأجل الخطبة، فلأن يحرم الكلام أولى (1) .
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن مبناه على القول بتحريم الصلاة أثناء الخطبة، وهذا قول مرجوح، لمخالفته للأحاديث على مشروعية تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب.
3 -
أنه لا يجوز أن يتعلق على الخاطب إظهار الخطبة إلا على الحاضرين وجوب استماعها، ألا ترى أنه لما حُظِرَ لشاهد كتمان الشهادة كان ذلك علما على إيجاب استماعها (2) .
4 -
أن الخطبتين بدل ركعتين، فحرم الكلام بينهما، كالصلاة (3) .
مناقشة هذا الدليل: يناقش بعدم التسليم بأنهما بدل ركعتين؛ لعدم ثبوت ذلك كما تقدم (4) .
(1) ينظر: الإشراف 1 / 132.
(2)
ينظر: الحاوي 3 / 42.
(3)
ينظر: المجموع 4 / 525.
(4)
ص (34 - 35) .
كما أن القياس لا يصح، لأن الصلاة تفسد بالكلام بخلاف الخطبة (1) .
ثانيا: واستدلوا على إباحة مخاطبة الإمام لحاجة بما يلي: 1 - ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قَزَعة (2) فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي، أو قال: غيره، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! تهدَّم البناء، وغرق المال فادع الله لنا، فرفع يده فقال: اللهم حوالينا ولا علينا،
(1) ينظر: المجموع 4 / 525.
(2)
قال النووي: هي بفتح القاف والزاي، وهي القطعة من السحاب.
(شرح صحيح مسلم 6 / 192) .
فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوْبة (1) وسال الوادي قناةُ (2) شهرا، ولم يجئ أحد، من ناحية إلا حَدَّثَ بالجود» (3) .
وهذا واضح الدلالة، وفي خطبتين.
2 -
ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «جاء أعرابي والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان؛ قال: لا، قال: قم فاركع» (4) .
قال النووي عنه برواياته المختلفة: " وفي هذه الأحاديث أيضا جواز الكلام في الخطبة لحاجة، وفيها جوازه للخطيب وغيره "(5) .
(1) قال النووي: هي بفتح الجيم وإسكان الواو وبالباء الموحدة، وهي الفجوة، ومعناه تقطع السحاب عن المدينة وصار مستديرًا حولها وهي خالية منه.
(المرجع السابق 6 / 194) .
(2)
قال النووي: قناة بفتح القاف اسم لواد من أودية المدينة، وعليه زروع لهم.
(المرجع السابق) .
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة 1 / 224 بهذا اللفظ، وفي مواضع آخر، ومسلم في كتاب الاستسقاء - باب الدعاء في استسقاء 2 / 612، الحديث رقم (897) .
(4)
تقدم تخريجه ص (304) .
(5)
شرح صحيح مسلم 6 / 164.
أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بأدلة من السنة، والمعقول:
أولا: من السنة: 1 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الأعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم واستسقائه في يوم الجمعة المتقدم قبل قليل.
وجه الدلالة: أن الأعرابي تكلم أثناء الخطبة، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو حرم عليه لأنكره (1) .
مناقشه هذا الدليل: نوقش بأن الاستدلال به على جواز الكلام في الخطبة مطلقا فيه نظر؛ لأنه استدلال بالأخص على الأعم، فيمكن أن يخص عموم المسألة بالإنصات بمثل ذلك كأمر عارض في مصلحة عامة، كما خص بعضهم رد السلام لوجوبه (2) .
2 -
ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا قام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: يا رسول
(1) ينظر: مغني المحتاج 1 / 287، والمغني 3 / 195.
(2)
ينظر: فتح الباري 2 / 415.
الله! متى الساعة؟ فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأومأ له بالسكوت، فلم يقبل، وأعاد الكلام، فلما كان في الثالثة قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(ويحك، ما أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، قال: إنك مع من أحببت» (1) .
ووجه الدلالة كالذي قبله.
ويناقش بما نوقش به الذي قبله.
ثانيا: من المعقول: 1 - أنه لو كان الإنصات للخطبة واجبا كان إبلاغهما برفع الصوت واجبا، فلما لم يجب على الإمام إبلاغها لم يجب على المأموين الإنصات لها (2) .
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن الجهر بها واجب على الإمام كما تقدم أما رفع الصوت فلم يجب دفعا للمشقة، ثم هذا يستقيم على القول بوجوب الإنصات مع عدم السماع، هذا مرجوح كما سيأتي - إن شاء الله -.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عمر بن الخطاب 4 / 200، وفي موضع آخر، ومسلم في كتاب البر والصلة - باب المرء مع من أحب 4 / 2032، الحديث رقم (2639) .
(2)
ينظر: الحاوي 3 / 43.
2 -
أن الخطبة عبادة لا يفسدها الكلام، فوجب أن لا يحرم فيها الكلام، كالطواف، والصيام.
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الكلام في الخطبة يفوت المقصود منها، وهو الاستماع والاتعاظ، بخلاف الطواف والصيام (1) .
الترجيح: الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بتحريم الكلام على الحاضرين لخطبة الجمعة إلا مخاطبة الإمام لحاجة؛ لقوة ما استدلوا به، وجمعه بين الأحاديث الواردة في ذلك، وتحقيقه المقصود من الخطبة وهو الاتعاظ.
(1) ينظر المرجع السابق.