الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال في إعلاء السنن: " دلالته على بعض ألفاظ الخطبة، ورفع الصوت فيها ظاهرة "(1) .
ثانيا: من المعقول: أن رفع الصوت بالخطبة أبلغ في إعلام الناس، فيتحقق المقصود بها (2) .
- ومع ما سبق من سنية الجهر بالخطبة زيادة عن القدر الواجب إلا أن ذلك تيسر في وقتنا الحاضر بفضل الله - تعالى - ثم بفضل وجود مكبرات الصوت، فما على الخطيب لتطبيق هذه السنة إلا الاعتناء بهذه الأجهزة ومراعاة وضعها عند الإلقاء.
[المطلب الحادي عشر الجلسة بين الخطبتين]
[المسألة الأولى حكم الجلوس بين الخطبتين]
المطلب الحادي عشر
الجلسة بين الخطبتين وفيه مسألتان:
المسألة الأولى حكم الجلوس بين الخطبتين.
المسألة الثانية مقدار هذا الجلوس.
(1) إعلاء السنن 8 / 57.
(2)
ينظر: المهذب مع المجموع 4 / 526، وكشاف القناع 2 / 36.
المسألة الأولى: حكم الجلوس بين الخطبتن: اختلف الفقهاء في حكم جلوس الخطيب بين الخطبتين الأولى والثانية، وذلك على قولين:
القول الأول: أن الجلوس بين الخطبتين سنة.
وبهذا قال الحنفية (1) والمالكية (2) وهو وجه عند الشافعية (3) لكن قال عنه النووي: " وهو شاذ ومردود "(4) وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد، والصحيح من المذهب عند أصحابه، وعليه جمهورهم، وقطع به كثير منهم (5) .
(1) ينظر: المبسوط 2 / 26، والهداية للمرغيناني 1 / 83، وبدائع الصنائع 1 / 263، وتبيين الحقائق 1 / 220، والفتاوى الهندية 1 / 147.
(2)
ينظر: الإشراف 1 / 133، والكافي لابن عبد البر 1 / 251، ومواهب الجليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 171، والفواكه الدواني 1 / 307.
(3)
ينظر: المجموع 4 / 515، وروضة الطالبين 2 / 27.
(4)
ينظر: المجموع 4 / 515، وروضة الطالبين 2 / 27.
(5)
ينظر: الهداية لأبي الخطاب 1 / 52، والتمام 1 / 235، وشرح الزركشي 2 / 176، والمغني 3 / 176، والفروع 2 / 118 - 119، والمحرر 1 / 151، والإنصاف 2 / 397.
القول الثاني: أن الجلوس بين الخطبتين شرط لصحتهما.
وهو الوجه الصحيح والمشهور عند الشافعية (1) ورواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه (2) .
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بأدلة من الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والمعقول:
أولا: من الكتاب: قول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية (3) .
وجه الدلالة: أن الله - تعالى - أمر بالذكر مطلقا عن قيد الجلسة بين الخطبتين، فلا تجعل شرطا بخبر الواحد؛ لأنه يصير
(1) ينظر: الأم 1 / 199، والوجيز 1 / 64، وحلية العلماء 2 / 276، والمجموع 4 / 514، وروضة الطالبين 2 / 27، ومغني المحتاج 1 / 287.
(2)
ومنهم أبو بكر النجاد، ينظر التمام 1 / 235، وشرح الزركشي 2 / 177، والفروع 2 / 119، والمبدع 2 / 162، والإنصاف 2 / 397.
(3)
سورة الجمعة، جزء من الآية رقم (9) .
ناسخا لحكم الكتاب، ولا يصلح ناسخا له ولكن يصلح مكملا له، فيقال: إن قدر ما ثبت بالكتاب يكون فرضا، وما ثبت بخبر الواحد يكون سنة عملا بهما بقدر الإمكان (1) .
مناقشة هذا الاستدلال: يناقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الاستدلال بالإطلاق له نصيب من القوة، لكن بناء على أن خبر الواحد لا يكون ناسخا للكتاب الذي هو رأي الحنفية فيه نظر، وهو قول مرجوح.
الوجه الثاني: أنه ليس فيه نسخ، وإنما هو تقييد لمطلق، والله أعلم.
ثانيا: من السنة: 1 - ما رواه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كان صلى الله عليه وسلم يخطب قائما، ويجلس بين الخطبتين، ويقرأ آيات، ويذكّر الناس» (2) .
وفي رواية: «ثم يقعد قعدة لا يتكلم» الحديث (3) .
(1) ينظر: بدائع الصنائع 1 / 263.
(2)
تقدم تخريجه ص (145) .
(3)
أخرجها أبو داود في سننه في كتاب الصلاة، باب الخطبة قائما 1 / 286 الحديث رقم (1095) وغيره وقال الألباني في إرواء الغليل 2 / 71:" وسندها جيد ".
2 -
ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقطع بينهما» (1) .
وفي رواية: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما، ثم يقعد، ثم يقوم، كما تفعلون الآن» (2) .
وكلاهما واضح الدلالة.
ثالثا: من آثار الصحابة رضي الله عنهم: 1 - ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب فلم يجلس حتى فرغ (3) .
وجه الدلالة: أن عليا رضي الله عنه ترك الجلسة بين الخطبتين، ولو كانت شرطا لما تركها.
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه متكلم في سنده كما تقدم عند تخريجه (4) .
(1) أخرجها البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة 1 / 223.
(2)
تقدم تخريجها ص (31) .
(3)
تقدم تخريجه ص (42) .
(4)
ص (42) .
2 -
ما روي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب فلم يجلس بين الخطبتين (1) .
ووجه الدلالة كالذي قبله.
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه لم يتحقق ثبوته كما تقدم عند تخريجه (2) وإن ثبت فهو فعل صحابي، وهو مختلف في الاحتجاج به.
3 -
ما روي عن عبد الله (3) بن عباس رضي الله عنهما أنه كان يخطب خطبة واحدة، فلما ثقل - أي أسن - جعلها خطبتين وقعد بينهما (4) .
(1) تقدم تخريجه ص (43) .
(2)
ص (43) .
(3)
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وتعليمه التأويل، فكان يسمى " حبر الأمة "، ولاه علي على البصرة، وتوفي سنة 68 هـ.
(ينظر: أسد الغابة 3 / 192، والإصابة 4 / 90) .
(4)
هكذا ذكره الكاساني في بدائع الصنائع 1 / 263 مستدلا به لهذا القول، ولم يعزه لشيء من كتب السنة والآثار، ولم أطلع عليه فيما بين يدي منها، وذكره في التمام 1 / 235 حديثا ولم يعزه أيضا، ولم أطلع عليه فيما بين يدي من كتب السنة بهذا اللفظ.
وجه الدلالة: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يجلس، فلما أسن جلس، فهذا دليل على أن الجلسة للاستراحة وليست بشرط للخطبة (1) .
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه لم يتحقق لي ثبوته؛ لعدم الاطلاع على سنده، وعلى تقدير ثبوته فهو فعل صحابي، وهو مختلف في الاحتجاج به.
رابعا: من المعقول: 1 - أن الجلسة بين الخطبتين جلسة ليس لها ذكر مشروع، فلم تكن واجبة، كالجلسة الأولى أي قبل الخطبة (2) .
2 -
أن الخطبتين ذكران يتقدمان الصلاة، فلم يكن الجلوس بينهما شرطا، كالأذان والإقامة (3) .
3 -
أن الجلسة بين الخطبتين قعود على المنبر قبل خطبته، فلم تكن شرطا كالجلسة الأولى (4) .
4 -
أن الغرض بهذه الجلسة الفصل بين الخطبتين والإعلام
(1) ينظر: بدائع الصنائع 1 / 263.
(2)
ينظر: المغني 3 / 176، والمبدع 2 / 162.
(3)
ينظر: الإشراف 1 / 133، ورؤوس المسائل الخلافية للعكبري 1 / 329 - 330.
(4)
ينظر: الإشراف 1 / 133.
بالفراغ من الأولى، وذلك لا يوجب كونه شرطا كقوله:«اذكروا الله يذكركم» (1) .
5 -
الغرض من الخطبة هو الوعظ والتذكير، وهو يتحقق بدون هذه الجلسة، فلا تكون شرطا (2) .
دليل أصحاب القول الثاني: استدلوا بأدلة من السنة، والمعقول:
أولا: من السنة: ما رواه مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي - صلى عليه وسلم - قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (3) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة كما صلى، وقد جلس بين الخطبتين في الجمعة وواظب على ذلك كما في حديثي جابر بن سمرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم كما تقدم في أدلة القول الأول، فيجب أن نفعل كما فعل (4) .
(1) المرجع السابق.
(2)
شرح الزركشي 2 / 176.
(3)
تقدم تخريجه ص (32) ، وممن استدلوا به لهذا القول النووي في شرح مسلم 6 / 150، وابن حجر في فتح الباري 2 / 406.
(4)
ينظر: فتح الباري 2 / 406.
مناقشة هذا الدليل: يناقش من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن خطبة الجمعة ليست جزءا من الصلاة كما تقدم أكثر من مرة.
الوجه الثاني: على تقدير التسليم بأنها من الصلاة فإن هذا الحديث لا يدل على وجوب كل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فإن من أفعاله ما هو سنة باتفاق.
الوجه الثالث: إذا كانت المواظبة تدل على الشرطية فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد واظب على الجلسة الأولى، فيلزم القول بشرطيتها، وهم - أي الشافعية - لا يقولون بذلك كما سيأتي (1) .
الإجابة عن هذا الوجه: أجيب عنه بأن جل الروايات عن ابن عمر ليس فيها الجلسة الأولى، وإنما وردت في رواية ضعيفة، فلم تثبت المواظبة عليها بخلاف التي بين الخطبتين (2) .
وأما ما استدلوا به من مواظبته صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر، وجابر بن سمرة رضي الله عنهم فإنه مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل على الاستحباب،
(1) المرجع السابق.
(2)
المرجع السابق.
والله أعلم.
ثانيا: من المعقول: أن الخطبة أحد فرضي الجمعة، فوجب فيها القيام والقعود، كالصلاة (1) .
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأنه لا يلزم من التماثل في الحكم المماثلة في الأفعال وإلا لزم القول بوجوب الركوع والسجود وغيرهما من أركان الصلاة في الخطبة.
كما أنه يلزمكم - أي الشافعية - بناء على هذا القول بوجوب الأولى حال الأذان؛ لأنها قعود بعد دخول الإمام للخطبة.
الترجيح: الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بأن الجلسة بين الخطبتين سنة؛ لقوة ما استدلوا به، وعدم قيام الدليل على الشرطية.
(1) ينظر: المهذب مع المجموع 4 / 514.