الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ بَقَاؤُهُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي تَبْدُو لِمَنْ تَأَمَّلَهَا.
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ امْتَنَعَ بِعَشِيرَتِهِ، وَسَائِرُهُمْ تَصَدَّوْا لَهُ بِالْأَذَى وَالْعَذَابِ، مِنْهُمْ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأُمُّهُ سمية، وَأَهْلُ بَيْتِهِ عُذِّبُوا فِي اللَّهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ يَقُولُ:( «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» ) .
وَمِنْهُمْ: بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، فَإِنَّهُ عُذِّبَ فِي اللَّهِ أَشَدَّ الْعَذَابِ، فَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَكَانَ كُلَّمَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَيَمُرُّ بِهِ ورقة بن نوفل فَيَقُولُ: إِي وَاللَّهِ يَا بلال، أَحَدٌ أَحَدٌ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا.
[اشتداد أذى المشركين على من أسلم]
فَصْلٌ
وَلَمَّا اشْتَدَّ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَفُتِنَ مِنْهُمْ مَنْ فُتِنَ حَتَّى يَقُولُوا لِأَحَدِهِمْ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَحَتَّى إِنَّ الْجُعَلَ لَيَمُرُّ بِهِمْ فَيَقُولُونَ: وَهَذَا إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أبو جهل
بسمية أم عمار بن ياسر وَهِيَ تُعَذَّبُ وَزَوْجُهَا وَابْنُهَا، فَطَعَنَهَا بِحَرْبَةٍ فِي فَرْجِهَا حَتَّى قَتَلَهَا.
كَانَ الصِّدِّيقُ إِذَا مَرَّ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَبِيدِ يُعَذَّبُ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ وَأَعْتَقَهُ، مِنْهُمْ: بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عبيس، وزنيرة، والنهدية، وَابْنَتُهَا، وَجَارِيَةٌ لِبَنِي عَدِيٍّ كَانَ عمر يُعَذِّبُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ أَرَاكَ تَعْتِقُ رِقَابًا ضِعَافًا، فَلَوْ أَنَّكَ إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ قَوْمًا جُلْدًا يَمْنَعُونَكَ، فَقَالَ لَهُ أبو بكر:(إِنِّي أُرِيدُ مَا أُرِيدُ) .
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَهْلُ هَذِهِ الْهِجْرَةِ الْأُولَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ: عثمان وَامْرَأَتُهُ، وأبو حذيفة وَامْرَأَتُهُ سهلة بنت سهيل، وأبو سلمة وَامْرَأَتُهُ أم سلمة هند بنت أبي أمية، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَامْرَأَتُهُ ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو، وسهيل بن وهب، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ.
وَخَرَجُوا مُتَسَلِّلِينَ سِرًّا فَوَفَّقَ اللَّهُ لَهُمْ سَاعَةَ وُصُولِهِمْ إِلَى السَّاحِلِ سَفِينَتَيْنِ لِلتُّجَّارِ، فَحَمَلُوهُمْ فِيهِمَا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ مَخْرَجُهُمْ فِي رَجَبٍ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْمَبْعَثِ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى جَاءُوا الْبَحْرَ فَلَمْ يُدْرِكُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، ثُمَّ بَلَغَهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَفُّوا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَجَعُوا، فَلَمَّا كَانُوا دُونَ مَكَّةَ بِسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ بَلَغَهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا أَشَدُّ مَا كَانُوا عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ مَنْ دَخَلَ بِجِوَارٍ، وَفِي تِلْكَ الْمَرَّةِ دَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» ) هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَزَعَمَ ابن
سعد وَجَمَاعَةٌ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَدْخُلْ وَأَنَّهُ رَجَعَ إِلَى الْحَبَشَةِ حَتَّى قَدِمَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ مَنْ قَدِمَ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا، وَأَجْهَزَ عَلَى أبي جهل، وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْهِجْرَةِ إِنَّمَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ بَعْدَ بَدْرٍ بِأَرْبَعِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ.
قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: بَلْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابن سعد يُوَافِقُ قَوْلَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: ( «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [الْبَقَرَةِ: 238] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ» ) ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَحِينَئِذٍ فَابْنُ مَسْعُودٍ سَلَّمَ عَلَيْهِ لَمَّا قَدِمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى سَلَّمَ، وَأَعْلَمَهُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ، فَاتَّفَقَ حَدِيثُهُ وَحَدِيثُ ابن أرقم.
قِيلَ: يُبْطِلُ هَذَا شُهُودُ ابْنِ مَسْعُودٍ بَدْرًا، وَأَهْلُ الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ إِنَّمَا قَدِمُوا عَامَ خَيْبَرَ مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَلَوْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِمَّنْ قَدِمَ قَبْلَ بَدْرٍ لَكَانَ لِقُدُومِهِ ذِكْرٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ قُدُومَ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ إِلَّا فِي الْقَدْمَةِ الْأَوْلَى بِمَكَّةَ، وَالثَّانِيَةُ عَامَ خَيْبَرَ مَعَ جعفر، فَمَتَى قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ وَمَعَ مَنْ؟ وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الْحَبَشَةِ إِسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ بَلَغَهُمْ أَنَّ إِسْلَامَ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ بَاطِلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِجِوَارٍ أَوْ مُسْتَخْفِيًا. فَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ مِنْهُمْ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، فَذَكَرَ مِنْهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ؟ قِيلَ: قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَكَّةَ ثُمَّ أُذِنَ فِيهِ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَادَتِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيُ، فَلَمَّا بَلَغَهُمُ انْتَهَوْا، وَزَيْدٌ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَكَانَ وَهْمًا مِنْهُ.
ثُمَّ اشْتَدَّ الْبَلَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى مَنْ قَدِمَ مِنْ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَطَتْ بِهِمْ عَشَائِرُهُمْ، وَلَقُوا مِنْهُمْ أَذًى شَدِيدًا، فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُرُوجِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَكَانَ خُرُوجُهُمُ الثَّانِي أَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَأَصْعَبَ، وَلَقُوا مِنْ قُرَيْشٍ تَعْنِيفًا شَدِيدًا وَنَالُوهُمْ بِالْأَذَى، وَصَعُبَ عَلَيْهِمْ مَا بَلَغَهُمْ عَنِ النَّجَاشِيِّ مِنْ حُسْنِ جِوَارِهِ لَهُمْ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، إِنْ كَانَ فِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَإِنَّهُ يُشَكُّ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَمِنَ النِّسَاءِ تِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً.
قُلْتُ: قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا وَهْمًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَدْمَةٌ أُخْرَى قَبْلَ بَدْرٍ فَيَكُونُ لَهُمْ ثَلَاثُ قَدَمَاتٍ: قَدْمَةٌ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْمَةٌ قَبْلَ بَدْرٍ، وَقَدْمَةٌ عَامَ خَيْبَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابن سعد وَغَيْرُهُ: إِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا مُهَاجَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَمِنَ النِّسَاءِ ثَمَانِ نِسْوَةٍ، فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ، وَحُبِسَ بِمَكَّةَ سَبْعَةٌ، وَشَهِدَ بَدْرًا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا.
فَلَمَّا كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوِّلِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا إِلَى النّجَاشِيِّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، فَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَسْلَمَ، وَقَالَ لَئِنْ قَدَرْتُ أَنْ آتِيَهُ لَآتِيَنَّهُ» .
وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ أم حبيبة بنت أبي سفيان وَكَانَتْ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عبيد الله بن جحش، فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ وَمَاتَ، فَزَوَّجَهُ النَّجَاشِيُّ إِيَّاهَا وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ تَزْوِيجَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ مَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَحْمِلَهُمْ، فَفَعَلَ وَحَمَلَهُمْ فِي سَفِينَتَيْنِ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضَّمْرِيِّ، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ فَوَجَدُوهُ قَدْ فَتَحَهَا، فَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُدْخِلُوهُمْ فِي سِهَامِهِمْ فَفَعَلُوا.
وَعَلَى هَذَا فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَيَكُونُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدِمَ فِي الْمَرَّةِ الْوُسْطَى بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْعَهْدُ حَدِيثًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَيَكُونُ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِالنَّسْخِ الَّذِي وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّغْيِيرُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، كَجَعْلِهَا أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ، وَوُجُوبِ الِاجْتِمَاعِ لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ جَمْعٍ وَأَثْبَتَهُ لَوْلَا أَنَّ محمد بن إسحاق قَدْ قَالَ: مَا حَكَيْتُمْ عَنْهُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَبَشَةِ حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَهَذَا يَدْفَعُ مَا ذُكِرَ.
قِيلَ: إِنْ كَانَ محمد بن إسحاق قَدْ قَالَ هَذَا فَقَدْ قَالَ محمد بن سعد فِي " طَبَقَاتِهِ ": إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَكَثَ يَسِيرًا بَعْدَ مَقْدَمِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَحْمِيهِ، وَمَا حَكَاهُ ابن سعد قَدْ تَضَمَّنَ زِيَادَةَ أَمْرٍ خَفِيَ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ، وابن إسحاق لَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ، ومحمد بن سعد أَسْنَدَ مَا حَكَاهُ إِلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، فَاتَّفَقَتِ الْأَحَادِيثُ، وَصَدَّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَزَالَ عَنْهَا الْإِشْكَالُ، ولِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَهْلُ السِّيَرِ، مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ أَوْ عَلَى مَنْ دُونَهُ؟ .
قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى مَنْ دُونَ محمد بن إسحاق فَضْلًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَشَأَ الْوَهْمُ أَنَّ أبا موسى هَاجَرَ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى عِنْدِ جعفر وَأَصْحَابِهِ لَمَّا سَمِعَ بِهِمْ، ثُمَّ قَدِمَ مَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي " الصَّحِيحِ " فَعَدَّ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ لأبي موسى هِجْرَةً، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ.