الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْجَبْلِ لَا الْجَبْرِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَجْبِلُ عَبْدَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، كَمَا جَبَلَ الأشج عَلَى الْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ، وَهُمَا فِعْلَانِ نَاشِئَانِ عَنْ خُلُقَيْنِ فِي النَّفْسِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَبَلَ الْعَبْدَ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: نَقُولُ ( «إِنَّ اللَّهَ جَبَلَ الْعِبَادَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَا نَقُولُ جَبَرَهُمْ عَلَيْهَا» )
وَهَذَا مِنْ كَمَالِ عِلْمِ الْأَئِمَّةِ، وَدَقِيقِ نَظَرِهِمْ، فَإِنَّ الْجَبْرَ أَنْ يُحْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ، كَجَبْرِ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَجَبْرِ الْحَاكِمِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى أَدَائِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْدَرُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَ عَبْدَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ يَجْبُلُهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ الرَّبُّ بِإِرَادَةِ عَبْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَالْجَبْرُ لَوْنٌ.
وَفِيهَا: أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالضَّالَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا كَالْإِبِلِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجَوِّزْ للجارود رُكُوبَ الْإِبِلِ الضَّالَّةِ، وَقَالَ:( «ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ» ) ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِتَرْكِهَا، وَأَنْ لَا يَلْتَقِطَهَا حِفْظًا عَلَى رَبِّهَا حَتَّى يَجِدَهَا إِذَا طَلَبَهَا، فَلَوْ جَوَّزَ لَهُ رُكُوبَهَا وَالِانْتِفَاعَ بِهَا، لَأَفْضَى إِلَى أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهَا رَبُّهَا، وَأَيْضًا تَطْمَعُ فِيهَا النُّفُوسُ وَتَتَمَلَّكُهَا، فَمَنَعَ الشَّارِعُ مِنْ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ فِي
قُدُومِ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ]
[قُدُومِ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ]
فَصْلٌ فِي قُدُومِ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ فِيهِمْ مسيلمة الكذاب، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِي دَارِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَأَتَوْا بمسيلمة إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْتَرُ بِالثِّيَابِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي يَدِهِ عَسِيبٌ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَسْتُرُونَهُ بِالثِّيَابِ كَلَّمَهُ وَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعَسِيبَ الَّذِي فِي يَدِي مَا أَعْطَيْتُكَ» ) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ لِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ: إِنَّ حَدِيثَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذَا، زَعَمَ أَنَّ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَخَلَّفُوا مسيلمة فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا لَهُ مَكَانَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا قَدْ خَلَّفْنَا صَاحِبًا
لَنَا فِي رِحَالِنَا وَرِكَابِنَا يَحْفَظُهَا لَنَا، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ، وَقَالَ:( «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا» ) ، يَعْنِي حِفْظَهُ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ انْصَرَفُوا وَجَاءُوهُ بِالَّذِي أَعْطَاهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْيَمَامَةَ ارْتَدَّ عَدُوُّ اللَّهِ وَتَنَبَّأَ، وَقَالَ: إِنِّي أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ، أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ حِينَ ذَكَرْتُمُونِي لَهُ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْجَعُ السَّجَعَاتِ، فَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُ مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ: لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْحُبْلَى، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، وَمِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَا. وَوَضَعَ عَنْهُمُ الصَّلَاةَ، وَأَحَلَّ لَهُمُ الْخَمْرَ وَالزِّنَى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَصْفَقَتْ مَعَهُ بَنُو حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ كَتَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ مسيلمة رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَمْرِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ قُرَيْشٌ قَوْمًا يَعْدِلُونَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولُهُ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مسيلمة الكذاب، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ) ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي سعد بن طارق، عَنْ سلمة بن نعيم بن مسعود، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ رَسُولَا مسيلمة الكذاب بِكِتَابِهِ يَقُولُ لَهُمَا: ( «وَأَنْتُمَا تَقُولَانِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ؟ " قَالَا: نَعَمْ. فَقَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» ) .
وَرُوِّينَا فِي " مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ " عَنْ أبي وائل، عَنْ عبد الله، قَالَ: جَاءَ ابن النواحة وابن أثال رَسُولَيْنِ لمسيلمة الكذاب إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «تَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ مسيلمة رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا» )، قَالَ عبد الله: فَمَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، قَالَ:«لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْنَا بِهِ، لَحِقْنَا بمسيلمة الكذاب، فَلَحِقْنَا بِالنَّارِ، وَكُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، أَلْقَيْنَا ذَلِكَ وَأَخَذْنَاهُ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا، جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، وَكُنَّا إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ، قُلْنَا: جَاءَ مُنْصِلُ الْأَسِنَّةِ، فَلَا نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ، وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهَا وَأَلْقَيْنَاهَا» .
قُلْتُ: وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ مسيلمة الكذاب عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ، وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مسيلمة فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:( «إِنْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وَإِنِّي أُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يُجِيبُكَ عَنِّي» )، ثُمَّ انْصَرَفَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ» )، فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا