الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَاتَلَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي دِينِهِ مِنْهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالصَّغَارِ وَالْجِزْيَةِ، فَبُهِتَ الْكَافِرُ، وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ فِي جِدَالِ الْكُفَّارِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِجِدَالِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَبِهَذَا قَامَ الدِّينُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السَّيْفُ نَاصِرًا لِلْحُجَّةِ، وَأَعْدَلُ السُّيُوفِ سَيْفٌ يَنْصُرُ حُجَجَ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَهُوَ سَيْفُ رَسُولِهِ وَأُمَّتِهِ.
[فَصْلٌ مَنْ عَظَّمَ مَخْلُوقًا بِحَيْثُ أَخْرَجَهُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ فَقَدْ أَشْرَكَ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ عَظَّمَ مَخْلُوقًا فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا، بِحَيْثُ أَخْرَجَهُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ، فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَعَبَدَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:«إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى نَجْرَانَ: (بِاسْمِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ» ) ، فَلَا أَظُنُّ ذَلِكَ مَحْفُوظًا، وَقَدْ «كَتَبَ إِلَى هرقل:(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ) ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ فِي كُتُبِهِ إِلَى الْمُلُوكِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هَذَا، وَقَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ:{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 1][النَّمْلِ: 1] ، وَذَلِكَ غَلَطٌ عَلَى غَلَطٍ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَكِتَابُهُ إِلَى نَجْرَانَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ.
وَفِيهَا: جَوَازُ إِهَانَةِ رُسُلِ الْكُفَّارِ، وَتَرْكِ كَلَامِهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّعَاظُمُ وَالتَّكَبُّرُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُكَلِّمِ الرُّسُلَ، وَلَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَبِسُوا ثِيَابَ سَفَرِهِمْ، وَأَلْقَوْا حُلَلَهُمْ وَحُلَاهُمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ السُّنَّةَ فِي مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ، وَلَمْ يَرْجِعُوا، بَلْ أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَدَعَا إِلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَعْضَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ
وَدَعَا إِلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فِي مَسْأَلَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْحُجَّةِ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ صُلْحِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا يُرِيدُ الْإِمَامُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا، وَيُجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِزْيَةٍ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَالُ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ يَقْتَسِمُونَهَا كَمَا أَحَبُّوا، وَلَمَّا بَعَثَ معاذا إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُسْلِمٌ، وَكَانُوا أَهْلَ صُلْحٍ، وَأَمَّا الْيَمَنُ فَكَانَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ فِيهِمْ يَهُودُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْجِزْيَةَ عَلَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَالْفُقَهَاءُ يَخُصُّونَ الْجِزْيَةَ بِهَذَا الْقِسْمِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَكِلَاهُمَا جِزْيَةٌ، فَإِنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ فِي كُلِّ عَامٍ.
مِنْهَا: جَوَازُ ثُبُوتِ الْحُلَلِ فِي الذِّمَّةِ، كَمَا تَثْبُتُ فِي الدِّيَةِ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَبِالضَّمَانِ وَبِالتَّلَفِ، كَمَا تَثْبُتُ فِيهَا بِعَقْدِ الصَّدَاقِ وَالْخُلْعِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاوَضَتُهُمْ عَلَى مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ بِغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِحِسَابِهِ.
وَمِنْهَا: اشْتِرَاطُ الْإِمَامِ عَلَى الْكُفَّارِ أَنْ يُؤْوُوا رُسُلَهُ وَيُكْرِمُوهُمْ، وَيُضَيِّفُوهُمْ أَيَّامًا مَعْدُودَةً.
وَمِنْهَا: جَوَازُ اشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِمْ عَارِيَةَ مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ مِنْ سِلَاحٍ، أَوْ مَتَاعٍ، أَوْ حَيَوَانٍ، وَأَنَّ تِلْكَ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ، لَكِنْ هَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ بِالشَّرْطِ أَوْ بِالشَّرْعِ؟ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ صَرَّحَ هَاهُنَا بِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالرَّدِّ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِضَمَانِ التَّلَفِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُقِرُّ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ الرَّبَوِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ، وَهَذَا كَمَا لَا يُقِرُّهُمْ عَلَى السُّكْرِ، وَلَا عَلَى اللُّوَاطِ وَالزِّنَى، بَلْ يَحُدُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِظُلْمِ آخَرَ، كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَكِلَاهُمَا ظُلْمٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ عَقْدَ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ مَشْرُوطٌ بِنُصْحِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ وَإِصْلَاحِهِمْ، فَإِذَا غَشُّوا الْمُسْلِمِينَ وَأَفْسَدُوا فِي دِينِهِمْ فَلَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا ذِمَّةَ، وَبِهَذَا أَفْتَيْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا فِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ لَمَّا حَرَقُوا الْحَرِيقَ الْعَظِيمَ فِي دِمَشْقَ حَتَّى سَرَى إِلَى الْجَامِعِ، وَبِانْتِقَاضِ عَهْدِ مَنْ وَاطَأَهُمْ وَأَعَانَهُمْ بِوَجْهٍ مَا، بَلْ وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْغِشِّ وَالضَّرَرِ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. .
وَمِنْهَا: بَعْثُ الْإِمَامِ الرَّجُلَ إِلَى أَهْلِ الْهُدْنَةِ فِي مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، وَهُوَ الَّذِي لَا غَرَضَ لَهُ وَلَا هَوَى، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مُجَرَّدَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا يَشُوبُهَا بِغَيْرِهَا، فَهَذَا هُوَ الْأَمِينُ حَقَّ الْأَمِينِ، كَحَالِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ.
وَمِنْهَا: مُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَجَوَابُهُمْ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ، فَإِنْ أُشْكِلَ عَلَى الْمَسْئُولِ سَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُشْكِلْ عَلَى المغيرة قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] هَذَا وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِشْكَالُ، بَلِ الْمُورِدُ ضَمَّ إِلَى هَذَا أَنَّهُ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِيرَادُهُ إِيرَادٌ فَاسِدٌ وَهُوَ إِمَّا مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ أَوْ فَسَادِ الْقَصْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ لِيَجْمَعَ صَدَقَاتِهِمْ، وَيَقْدَمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْجِزْيَةَ لَا تَجْتَمِعَانِ، وَأَشْكَلُ مِنْهُ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أَوْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ عَشْرٍ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ