الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ في غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ]
فَصْلٌ ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَهِي غَزْوَةُ نَجْدٍ، فَخَرَجَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَقِيلَ: فِي الْمُحَرَّمِ يُرِيدُ مُحَارِبَ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ غَطَفَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ، وَقِيلَ: عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَخَرَجَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقِيلَ سَبْعِمِائَةٍ، فَلَقِيَ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، فَتَوَاقَفُوا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ إلَّا أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي فِي تَارِيخِ هَذِهِ الْغَزَاةِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ بِهَا، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ عَنْهُمْ وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ ( «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ» ) .
وَفِي " السُّنَنِ " و " مُسْنَدِ أحمد "، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( «أَنّهُمْ حَبَسُوهُ عَنْ
صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَصْلَاهُنَّ جَمِيعًا» ) .
وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْخَنْدَقُ بَعْدَ ذَاتِ الرِّقَاعِ سَنَةَ خَمْسٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِلْخَوْفِ بِعُسْفَانَ كَمَا قَالَ أبو عياش الزرقي: ( «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعُسْفَانَ، فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالُوا: لَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً، ثُمَّ قَالُوا: إنَّ لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَ هَذِهِ هِي أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ، فَفَرَّقَنَا فِرْقَتَيْنِ» ) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أحمد وَأَهْلُ السُّنَنِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلًا بَيْنَ ضَجْنَانَ وَعُسْفَانَ مُحَاصِرًا لِلْمُشْرِكَيْنِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِي أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ، ثُمَّ مِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ أَصْحَابَهُ نِصْفَيْنِ» ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ غَزْوَةَ عُسْفَانَ كَانَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَعْدَ عُسْفَانَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ شَهِدَا ذَاتَ الرِّقَاعِ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ
أَبِي مُوسَى أَنَّهُ شَهِدَ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَلُفُّونَ عَلَى أَرْجُلِهِمُ الْخِرَقَ لَمَّا نُقِبَتْ.
وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السُّنَنِ " أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ سَأَلَهُ: هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَتَى؟ قَالَ: عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَأَنَّ مَنْ جَعَلَهَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ فَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا ظَاهِرًا، وَلَمَّا لَمْ يَفْطُنْ بَعْضُهُمْ لِهَذَا ادَّعَى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ مَرَّتَيْنِ، فَمَرَّةً قَبْلَ الْخَنْدَقِ، وَمَرَّةً بَعْدَهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي تَعْدِيدِ الْوَقَائِعِ إذَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا أَوْ تَارِيخُهَا، وَلَوْ صَحَّ لِهَذَا الْقَائِلِ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا يَصِحُّ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُسْفَانَ، وَكَوْنِهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ تَأْخِيرَ يَوْمِ الْخَنْدَقِ جَائِزٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَأَنَّ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِهَا، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أحمد رحمه الله وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي قِصَّةِ عُسْفَانَ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِلْخَوْفِ بِهَا، وَأَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ. فَالصَّوَابُ تَحْوِيلُ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ بَلْ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا تَقْلِيدًا لِأَهْلِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا وَهْمُهُمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ مَا رَوَاهُ مسلم فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ جابر قَالَ: ( «أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ: كُنَّا إذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بِالشَّجَرَةِ، فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاخْتَرَطَهُ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقَالَ: فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ» ) .
وَصَلَاةُ الْخَوْفِ إنَّمَا شُرِعَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ عُسْفَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ قِصَّةَ بَيْعِ جابر جَمَلَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وَقِيلَ: فِي مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ، وَلَكِنْ فِي إخْبَارِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثَيِّبًا تَقُومُ عَلَى أَخَوَاتِهِ، وَتَكْفُلُهُنَّ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ بَادَرَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ، وَلَمْ يُؤَخَّرْ إِلَى عَامِ تبوك، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي مَرْجِعِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ سَبَوُا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَذَرَ زَوْجُهَا أَلَّا يَرْجِعَ حَتَّى يُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ لَيْلًا، وَقَدْ أَرْصَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ رَبِيئَةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهُمَا عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَضَرَبَ عَبَّادًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِسَهْمٍ، فَنَزَعَهُ وَلَمْ يُبْطِلْ صَلَاتَهُ حَتَّى رَشَقَهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ مِنْهَا حَتَى سَلَّمَ، فَأَيْقَظَ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ