الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَا يَسْقُطُ الْحَقُّ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ الْوَثِيقَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وأحمد: تَتَعَيَّنُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ، لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ إِسْقَاطٍ، فَوَجَبَ الدِّيَةُ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْوَرَثَةُ مِنَ الدَّمِ وَالدِّيَةِ مَجَّانًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوِ اخْتَارَ الْقِصَاصَ، ثُمَّ اخْتَارَ بَعْدَهُ الْعَفْوَ إِلَى الدِّيَةِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَعْلَى، فَكَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الْأَدْنَى. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَقَدْ أَسْقَطَ الدِّيَةَ بِاخْتِيَارِهِ لَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا بَعْدَ إِسْقَاطِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ قَتَلَ عَمْدًا، فَهُوَ قَوَدٌ» ) .
قِيلَ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ، وَقَوْلُهُ:" فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ "، يَدُلُّ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ لَهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ، فَأَيُّ تَعَارُضٍ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178][الْبَقَرَةِ: 178] ، وَهَذَا لَا يَنْفِي تَخْيِيرَ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ بَيْنَ مَا كُتِبَ لَهُ، وَبَيْنَ بَدَلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ في إِبَاحَةُ قَطْعِ الْإِذْخِرِ]
فَصْلٌ
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ " إِلَّا الْإِذْخِرَ "، بَعْدَ قَوْلِ العباس لَهُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ. يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِبَاحَةُ قَطْعِ الْإِذْخِرِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَلَا قَبْلَ فَرَاغِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ نَاوِيًا لِاسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرِ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ، أَوْ قَبْلَ تَمَامِهِ، لَمْ يَتَوَقَّفِ اسْتِثْنَاؤُهُ لَهُ عَلَى سُؤَالِ العباس لَهُ ذَلِكَ، وَإِعْلَامِهِ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، وَنَظِيرُ هَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم لسهيل بن بيضاء مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ:( «لَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ» ) فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ فَقَالَ:" إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ " وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فِي الصُّورَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ.
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُ الْمَلَكِ لِسُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ: ( «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَقُلْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَجْمَعُونَ، وَفِي لَفْظٍ لَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ» ) فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَنَفَعَهُ، وَمَنْ يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ يَقُولُ لَا يَنْفَعُهُ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، ثَلَاثًا، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ) فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ بَعْدَ سُكُوتٍ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِنْشَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ أحمد عَلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ، وَالْمُصِيرُ إِلَى مُوجَبِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ أَوْلَى. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.