الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
103 -
] يَقُولُ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] فَأَخَذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَكَانَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ لَمْ يُوثِقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي، فَأُرْجِئُوا لَا يَدْرُونَ أَيُعَذَّبُونَ أَمْ يُتَابُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] تَابَعَهُ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ
[فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْغَزْوَةُ مِنَ الْفِقْهِ وَالْفَوَائِدِ]
[جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ]
فَصْلٌ
فِي الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْغَزْوَةُ مِنَ الْفِقْهِ وَالْفَوَائِدِ
فَمِنْهَا: جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِنْ كَانَ خُرُوجُهُ فِي رَجَبٍ مَحْفُوظًا عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحَرِّمُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي نَسْخِ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهِ قَوْلَيْنِ وَذَكَرْنَا حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَمِنْهَا: تَصْرِيحُ الْإِمَامِ لِلرَّعِيَّةِ وَإِعْلَامُهُمْ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَضُرُّهُمْ سَتْرُهُ وَإِخْفَاؤُهُ ; لِيَتَأَهَّبُوا لَهُ وَيُعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَجَوَازُ سَتْرِ غَيْرِهِ عَنْهُمْ وَالْكِنَايَةِ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ
وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا اسْتَنْفَرَ الْجَيْشَ لَزِمَهُمُ النَّفِيرُ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ النَّفِيرِ تَعْيِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، بَلْ مَتَى اسْتَنْفَرَ الْجَيْشَ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْخُرُوجُ مَعَهُ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَصِيرُ فِيهَا الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ.
وَالثَّانِي: إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ الْبَلَدَ.
وَالثَّالِثُ: إِذَا حَضَرَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ.
وَمِنْهَا: وُجُوبُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ كَمَا يَجِبُ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد، وَهِيَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ بِالْمَالِ شَقِيقُ الْأَمْرِ
بِالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَرِينُهُ ـ بَلْ جَاءَ مُقَدَّمًا عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ ـ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا مَوْضِعًا وَاحِدًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ بِهِ أَهَمُّ وَآكَدُ مِنَ الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا» ) فَيَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ بِالْبَدَنِ، وَلَا يَتِمُّ الْجِهَادُ بِالْبَدَنِ إِلَّا بِبَذْلِهِ، وَلَا يَنْتَصِرُ إِلَّا بِالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكْثِرَ الْعَدَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُدَّ بِالْمَالِ وَالْعُدَّةِ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَجُّ بِالْمَالِ عَلَى الْعَاجِزِ بِالْبَدَنِ فَوُجُوبُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى
وَمِنْهَا: مَا بَرَزَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِنَ النَّفَقَةِ الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَسَبَقَ بِهِ النَّاسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عثمان مَا أَسْرَرْتَ وَمَا أَعْلَنْتَ، وَمَا أَخْفَيْتَ وَمَا أَبْدَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: مَا ضَرَّ عثمان مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» ) وَكَانَ قَدْ أَنْفَقَ أَلْفَ دِينَارٍ وَثَلَاثَمِائَةِ بَعِيرٍ بِعُدَّتِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا
وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَاجِزَ بِمَالِهِ لَا يُعْذَرُ حَتَّى يَبْذُلَ جُهْدَهُ وَيَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا نَفَى الْحَرَجَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْعَاجِزِينَ بَعْدَ أَنْ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْمِلَهُمْ فَقَالَ:{لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] فَرَجَعُوا يَبْكُونَ لِمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ، فَهَذَا الْعَاجِزُ الَّذِي لَا حَرَجَ عَلَيْهِ
وَمِنْهَا: اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ إِذَا سَافَرَ رَجُلًا مِنَ الرَّعِيَّةِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالْمَعْذُورِينَ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَيَكُونُ نَائِبُهُ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ لَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَخْلِفُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ فَاسْتَخْلَفَهُ بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً
وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَثَرِ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: ( «خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ) وَلَكِنَّ هَذِهِ كَانَتْ خِلَافَةً خَاصَّةً عَلَى أَهْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ الْعَامُّ فَكَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا أَرْجَفُوا بِهِ وَقَالُوا: خَلَّفَهُ اسْتِثْقَالًا أَخَذَ سِلَاحَهُ ثُمَّ لَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:( «كَذَبُوا، وَلَكِنْ خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ» )
وَمِنْهَا: جَوَازُ الْخَرْصِ لِلرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، وَأَنَّهُ مِنَ الشَّرْعِ، وَالْعَمَلِ بِقَوْلِ الْخَارِصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزَاةِ خَيْبَرَ، وَأَنَّ الْإِمَامَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرِصَ بِنَفْسِهِ كَمَا خَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيقَةَ الْمَرْأَةِ
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي بِآبَارِ ثَمُودَ لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَلَا الطَّبْخُ مِنْهُ، وَلَا الْعَجِينُ بِهِ، وَلَا الطَّهَارَةُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْقَى الْبَهَائِمَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ، وَكَانَتْ مَعْلُومَةً بَاقِيَةً إِلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عِلْمُ النَّاسِ بِهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، فَلَا يَرِدُ الرُّكُوبُ بِئْرًا غَيْرَهَا، وَهِيَ مَطْوِيَّةٌ مُحْكَمَةُ الْبِنَاءِ وَاسِعَةُ الْأَرْجَاءِ، آثَارُ الْعِتْقِ عَلَيْهَا بَادِيَةٌ، لَا تَشْتَبِهُ بِغَيْرِهَا
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ مَرَّ بِدِيَارِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالْمُعَذَّبِينَ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا وَلَا يُقِيمَ بِهَا، بَلْ يُسْرِعُ السَّيْرَ وَيَتَقَنَّعُ بِثَوْبِهِ حَتَّى يُجَاوِزَهَا، وَلَا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ إِلَّا بَاكِيًا مُعْتَبِرًا
وَمِنْ هَذَا إِسْرَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم السَّيْرَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ بَيْنَ مِنًى وَعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي أَهْلَكَ اللَّهُ فِيهِ الْفِيلَ وَأَصْحَابَهُ
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ جَاءَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ معاذ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرْنَا عِلَّةَ الْحَدِيثِ وَمَنْ أَنْكَرَهُ، وَلَمْ يَجِئْ جَمْعُ التَّقْدِيمِ عَنْهُ فِي سَفَرٍ إِلَّا هَذَا، وَصَحَّ عَنْهُ جَمْعُ
التَّقْدِيمِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ دُخُولِهِ إِلَى عَرَفَةَ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لِأَجْلِ النُّسُكِ كَمَا قَالَ أبو حنيفة، وَقِيلَ: لِأَجْلِ السَّفَرِ الطَّوِيلِ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وأحمد، وَقِيلَ: لِأَجْلِ الشُّغْلِ وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِالْوُقُوفِ وَاتِّصَالُهُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَالَ أحمد: يَجْمَعُ لِلشُّغْلِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا: جَوَازُ التَّيَمُّمِ بِالرَّمْلِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ قَطَعُوا الرِّمَالَ الَّتِي بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَتَبُوكَ وَلَمْ يَحْمِلُوا مَعَهُمْ تُرَابًا بِلَا شَكٍّ، وَتِلْكَ مَفَاوِزُ مُعْطِشَةٌ شَكَوْا فِيهَا الْعَطَشَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَطْعًا كَانُوا يَتَيَمَّمُونَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هُمْ فِيهَا نَازِلُونَ، هَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ، مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ» )
وَمِنْهَا: ( «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» ) وَلَمْ يَقُلْ لِلْأُمَّةِ: لَا يَقْصُرُ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ إِذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنِ اتَّفَقَتْ إِقَامَتُهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَهَذِهِ الْإِقَامَةُ فِي حَالِ السَّفَرِ لَا تَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ، سَوَاءٌ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ وَلَا عَازِمٍ عَلَى الْإِقَامَةِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:( «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» ) ، فَنَحْنُ إِذَا أَقَمْنَا تِسْعَ عَشْرَةَ نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ زِدْنَا عَلَى ذَلِكَ أَتْمَمْنَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ أحمد أَنَّ ابْنَ عباس أَرَادَ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ زَمَنَ الْفَتْحِ، فَإِنَّهُ قَالَ:( «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ زَمَنَ الْفَتْحِ» ) ; لِأَنَّهُ أَرَادَ حُنَيْنًا وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَجْمَعَ الْمُقَامَ، وَهَذِهِ إِقَامَتُهُ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُقَامَهُ بِتَبُوكَ، كَمَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: ( «أَقَامَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» ) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ "
(وَقَالَ عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة: أَقَمْنَا مَعَ سعد بِبَعْضِ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُهَا سعد وَنُتِمُّهَا)
وَقَالَ نافع: (أَقَامَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ)
وَقَالَ حفص بن عبيد الله: أَقَامَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِالشَّامِ سَنَتَيْنِ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ
وَقَالَ أنس: أَقَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَامَهُرْمُزَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ
وَقَالَ الحسن: أَقَمْتُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ بِكَابُلَ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَا يَجْمَعُ
وَقَالَ إبراهيم: كَانُوا يُقِيمُونَ بِالرَّيِّ السَّنَةَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَسِجِسْتَانَ السَّنَتَيْنِ
فَهَذَا هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ كَمَا تَرَى، هُوَ الصَّوَابُ
وَأَمَّا مَذَاهِبُ النَّاسِ:
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِذَا نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ، وَإِنْ نَوَى دُونَهَا قَصَرَ، وَحَمَلَ هَذِهِ الْآثَارَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُجْمِعُوا الْإِقَامَةَ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْيَوْمَ نَخْرُجُ، غَدًا نَخْرُجُ
وَفِي هَذَا نَظَرٌ لَا يَخْفَى، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ ـ وَهِيَ مَا هِيَ ـ وَأَقَامَ فِيهَا يُؤَسِّسُ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَيَهْدِمُ قَوَاعِدَ الشِّرْكِ وَيُمَهِّدُ أَمْرَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْعَرَبِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ أَيَّامٍ لَا يَتَأَتَّى فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِقَامَتُهُ بِتَبُوكَ، فَإِنَّهُ أَقَامَ يَنْتَظِرُ الْعَدُوَّ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عِدَّةُ مَرَاحِلَ يَحْتَاجُ قَطْعُهَا إِلَى أَيَّامٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُوَافُونَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ ابْنِ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مِنْ أَجْلِ الثَّلْجِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّلْجِ لَا يَتَحَلَّلُ وَيَذُوبُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِحَيْثُ تَنْفَتِحُ الطُّرُقُ، وَكَذَلِكَ إِقَامَةُ أنس بِالشَّامِ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ، وَإِقَامَةُ الصَّحَابَةِ بِرَامَهُرْمُزَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحِصَارِ وَالْجِهَادِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ أحمد: إِنَّهُ لَوْ أَقَامَ لِجِهَادِ
عَدُوٍّ أَوْ حَبْسِ سُلْطَانٍ أَوْ مَرَضٍ قَصَرَ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْقِضَاءُ الْحَاجَةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ أَوْ طَوِيلَةٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لَكِنْ شَرَطُوا فِيهِ شَرْطًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا عَمَلِ الصَّحَابَةِ
فَقَالُوا: شَرْطُ ذَلِكَ احْتِمَالُ انْقِضَاءِ حَاجَتِهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، وَهِيَ مَا دُونَ الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ، فَيُقَالُ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا الشَّرْطُ؟ وَالنَّبِيُّ لَمَّا أَقَامَ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ وَتَبُوكَ، لَمْ يَقُلْ لَهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى إِقَامَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي صَلَاتِهِ، وَيَتَأَسَّوْنَ بِهِ فِي قَصْرِهَا فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ حَرْفًا وَاحِدًا: لَا تَقْصُرُوا فَوْقَ إِقَامَةِ أَرْبَعِ لَيَالٍ، وَبَيَانُ هَذَا مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَكَذَلِكَ اقْتِدَاءُ الصَّحَابَةِ بِهِ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَقُولُوا لِمَنْ صَلَّى مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
وَقَالَ مالك وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ نَوَى إِقَامَةً أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ، وَإِنْ نَوَى دُونَهَا قَصَرَ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ نَوَى إِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ، وَإِنْ نَوَى دُونَهَا قَصَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ; عمر وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا أَقَمْتَ أَرْبَعًا فَصَلِّ أَرْبَعًا، وَعَنْهُ كَقَوْلِ أبي حنيفة
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنْ أَقَامَ عَشْرًا أَتَمَّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَقَالَ الحسن: يَقْصُرُ مَا لَمْ يَقْدَمْ مِصْرًا
وَقَالَتْ عائشة: يَقْصُرُ مَا لَمْ يَضَعِ الزَّادَ وَالْمَزَادَ
وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَقَامَ لِحَاجَةٍ يَنْتَظِرُ قَضَاءَهَا يَقُولُ: الْيَوْمَ أَخْرُجُ، غَدًا أَخْرُجُ، فَإِنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا، إِلَّا الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَقْصُرُ عِنْدَهُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا يَقْصُرُ بَعْدَهَا، وَقَدْ قَالَ