الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عُبُودِيَّتِهِ، وَعَرَفَ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا، وَأَنَّ الَّذِي قَامَ بِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ، هَذَا إِذَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسَعُ عِبَادَهُ غَيْرُ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَتَغَمُّدِهِ لَهُمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ أَوِ الْهَلَاكَ، فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِمْ عَدْلَهُ فَعَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَإِنْ رَحِمَهُمْ فَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يُنْجِي أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُهُ.
[فَصْلٌ في مَعْنَى تَكْرِيرِ اللَّهِ لِلَفْظِ التَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ]
فَصْلٌ
وَتَأَمَّلْ تَكْرِيرَهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ، فَلَمَّا تَابُوا تَابَ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا بِقَبُولِهَا مِنْهُمْ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِفِعْلِهَا، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ وَفِي يَدَيْهِ، يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ إِحْسَانًا وَفَضْلًا، وَيَحْرِمُهُ مَنْ يَشَاءُ حِكْمَةً وَعَدْلًا.
[فَصْلٌ مَعْنَى كَلِمَةِ خُلِّفُوا فِي الْآيَةِ]
فَصْلٌ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118][التَّوْبَةِ: 118] ، قَدْ فَسَّرَهَا كعب بِالصَّوَابِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ خُلِّفُوا مِنْ بَيْنِ مَنْ حَلَفَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاعْتَذَرَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ، فَخَلَّفَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ عَنْهُمْ، وَأَرْجَأَ أَمْرَهُمْ دُونَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَخَلُّفَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: تَخَلَّفُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120][التَّوْبَةِ: 120] ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا بِأَنْفُسِهِمْ، بِخِلَافِ تَخْلِيفِهِمْ عَنْ أَمْرِ الْمُتَخَلِّفِينَ سِوَاهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَّفَهُمْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ بِأَنْفُسِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنْ تَبُوكَ]
فَصْلٌ
فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنْ تَبُوكَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ بَقِيَّةَ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ بَعَثَ أبا بكر أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجَّهُمْ، وَالنَّاسُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ حَجِّهِمْ، فَخَرَجَ أبو بكر وَالْمُؤْمِنُونَ.
قَالَ ابن سعد: فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعِشْرِينَ بَدَنَةً قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا بِيَدِهِ، عَلَيْهَا ناجية بن جندب الأسلمي، وَسَاقَ أبو بكر خَمْسَ بَدَنَاتٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَضْبَاءِ.
قَالَ ابن سعد: فَلَمَّا كَانَ بِالْعَرْجِ - وابن عائذ يَقُولُ: بِضَجَنَانَ - لَحِقَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَلَى الْعَضْبَاءِ، فَلَمَّا رَآهُ أبو بكر قَالَ: أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ؟ قَالَ: لَا بَلْ مَأْمُورٌ، ثُمَّ مَضَيَا.
وَقَالَ ابن سعد: فَقَالَ لَهُ أبو بكر: «أَسْتَعْمَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي أَقْرَأُ بَرَاءَةٌ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْبِذُ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَأَقَامَ أبو بكر لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ بِالَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَبَذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ.
» وَقَالَ الحميدي: حَدَّثَنَا سفيان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ زيد بن يثيع، قَالَ: «سَأَلْنَا عليا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الْحَجَّةِ؟ قَالَ: (بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى
مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ، فَأَجَلُهُ إِلَى أَرْبَعِ أَشْهُرٍ) » .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ( «بَعَثَنِي أبو بكر فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنَيْنِ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ، قَالَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةٌ، وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ) .
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَجَّةِ الصِّدِّيقِ هَذِهِ، هَلْ هِيَ الَّتِي أَسْقَطَتِ الْفَرْضَ، أَوِ الْمُسْقِطَةُ هِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَالْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: هَلْ كَانَ الْحَجُّ فُرِضَ قَبْلَ عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوْ لَا؟ وَالثَّانِي: هَلْ كَانَتْ حَجَّةُ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فِي ذِي الْحَجَّةِ، أَوْ وَقَعَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ أَجْلِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانَ الْجَاهِلِيَّةُ يُؤَخِّرُونَ لَهُ الْأَشْهُرَ وَيُقَدِّمُونَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي: قَوْلُ مجاهد وَغَيْرِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يُؤَخِّرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّ بَعْدَ فَرْضِهِ عَامًا وَاحِدًا، بَلْ بَادَرَ إِلَى الِامْتِثَالِ فِي الْعَامِ الَّذِي فُرِضَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهَدْيِهِ وَحَالِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ بِيَدِ مَنِ ادَّعَى تَقَدُّمَ فَرْضِ الْحَجِّ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ دَلِيلٌ وَاحِدٌ. وَغَايَةُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196][الْبَقَرَةِ: 196] ، وَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ابْتِدَاءُ فَرْضِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ إِذَا شُرِعَ فِيهِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ وُجُوبِ ابْتِدَائِهِ، وَآيَةُ فَرْضِ الْحَجِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ} [آل عمران: 97]