الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ في جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، كَمَا عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ، لَمْ يُنْسَخِ الْبَتَّةَ، وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُؤَاجَرَةِ فِي شَيْءٍ، بَلْ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُضَارَبَةِ سَوَاءً، فَمَنْ أَبَاحَ الْمُضَارَبَةَ وَحَرَّمَ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ.
[فَصْلٌ في عَدَمُ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِمُ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِمُ الْبِذْرَ، وَلَا كَانَ يَحْمِلُ إِلَيْهِمُ الْبَذْرَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَطْعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَدْيَهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِلِ، وَهَذَا كَانَ هَدْيَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ فَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ بِمَنْزِلَةِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ، وَالْبَذْرُ يَجْرِي مَجْرَى سَقْيِ الْمَاءِ، وَلِهَذَا يَمُوتُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَاشْتُرِطَ عَوْدُهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ في خَرْصُ الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: خَرْصُ الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَقِسْمَتُهَا كَذَلِكَ، وَأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ بَيْعًا.
وَمِنْهَا: الِاكْتِفَاءُ بِخَارِصٍ وَاحِدٍ وَقَاسِمٍ وَاحِدٍ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ عَقْدًا جَائِزًا، لِلْإِمَامِ فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ تَعْلِيقِ عَقْدِ الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ بِالشَّرْطِ، كَمَا عَقَدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرْطِ أَنْ لَا يُغَيِّبُوا وَلَا يَكْتُمُوا.
وَمِنْهَا: جَوَازُ تَقْرِيرِ أَرْبَابِ التُّهَم بِالْعُقُوبَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ لَا مِنَ السِّيَاسَةِ الظَّالِمَةِ.
وَمِنْهَا: الْأَخْذُ في الْأَحْكَامِ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِكِنَانَةَ:( «الْمَالُ كَثِيرٌ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ» )، فَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى كَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ: أَذْهَبَتْهُ الْحُرُوبُ وَالنَّفَقَةُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى كَذِبِهِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْخَائِنِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إِذَا خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شُرِطَ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذِمَّةٌ، وَحَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَدَ لِهَؤُلَاءِ الْهُدْنَةَ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُغَيِّبُوا وَلَا يَكْتُمُوا، فَإِنْ فَعَلُوا حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَفُوا بِالشَّرْطِ اسْتَبَاحَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَبِهَذَا اقْتَدَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مَتَى خَالَفُوا شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ حَلَّ لَهُ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالْعَدَاوَةِ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ فِعْلِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِكَسْرِ الْقُدُورِ، ثُمَّ نَسَخَهُ عَنْهُمْ بِالْأَمْرِ بِغَسْلِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ، لَا جِلْدُهُ وَلَا لَحْمُهُ، وَأَنَّ ذَبِيحَتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، وَأَنَّ الذَّكَاةَ إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنَ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا قَبْلَ قِسْمَتِهَا لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَقِّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْلِكُهُ بِالْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا «قَالَ فِي صَاحِبِ الشَّمْلَةِ الَّتِي غَلَّهَا:(إِنَّهَا تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا) » . «وَقَالَ لِصَاحِبِ الشِّرَاكِ الَّذِي غَلَّهُ: (شِرَاكٌ مِنْ نَار) » .
وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ بَيْنَ قِسْمَتِهَا وَتَرْكِهَا وَقَسْمِ بَعْضِهَا وَتَرْكِ بَعْضِهَا.
وَمِنْهَا: جَوَازُ التَّفَاؤُلِ، بَلِ اسْتِحْبَابُهُ بِمَا يَرَاهُ أَوْ يَسْمَعُهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَامِهِ، كَمَا تَفَاءَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرُؤْيَةِ الْمَسَاحِي وَالْفُؤُوسِ وَالْمَكَاتِلِ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَأْلٌ فِي خَرَابِهَا.
وَمِنْهَا: جَوَازُ إِجْلَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا اسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ» )، وَقَالَ لِكَبِيرِهِمْ:( «كَيْفَ بِكَ إِذَا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّامِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا» ) ، وَأَجْلَاهُمْ عمر بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ قَوِيٌّ يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهِ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ.
وَلَا يُقَالُ: أَهْلُ خَيْبَرَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ، بَلْ كَانُوا أَهْلَ هُدْنَةٍ، فَهَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ تَحْتَهُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ قَدْ أَمِنُوا بِهَا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَمَانًا مُسْتَمِرًّا، نَعَمْ لَمْ تَكُنِ الْجِزْيَةُ قَدْ شُرِعَتْ وَنَزَلَ فَرْضُهَا، وَكَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ الْجِزْيَةِ اسْتُؤْنِفَ ضَرْبُهَا عَلَى مَنْ يُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَيْسُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ، بَلْ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَ فَرْضُهَا بَعْدُ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْعَقْدِ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ فَذَاكَ لِمُدَّةِ إِقْرَارِهِمْ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ، لَا لِمُدَّةِ حَقْنِ دِمَائِهِمْ، ثُمَّ يَسْتَبِيحُهَا الْإِمَامُ مَتَى شَاءَ، فَلِهَذَا قَالَ:( «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، أَوْ مَا شِئْنَا» )، وَلَمْ يَقُلْ: نَحْقِنُ دِمَاءَكُمْ مَا شِئْنَا. وَهَكَذَا كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ عَقْدًا مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يُحَارِبُوهُ وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ، وَمَتَى فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَكَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ بِلَا جِزْيَةٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فَرْضُهَا إِذْ ذَاكَ، وَاسْتَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْيَ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَجَعَلَ نَقْضَ الْعَهْدِ سَارِيًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَجَعَلَ حُكْمَ السَّاكِتِ وَالْمُقِرِّ حُكْمَ النَّاقِضِ وَالْمُحَارِبِ، وَهَذَا مُوجَبُ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْدَ الْجِزْيَةِ أَيْضًا أَنْ يَسْرِي نَقْضُ الْعَهْدِ فِي
ذُرِّيَّتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَلَكِنْ هَذَا إِذَا كَانَ النَّاقِضُونَ طَائِفَةً لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّاقِضُ وَاحِدًا مِنْ طَائِفَةٍ لَمْ يُوَافِقْهُ بَقِيَّتُهُمْ فَهَذَا لَا يَسْرِي النَّقْضُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَهْدَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِمَاءَهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَسُبُّهُ لَمْ يَسْبِ نِسَاءَهُمْ وَذُرِّيَّتَهُمْ، فَهَذَا هَدْيُهُ فِي هَذَا، وَهُوَ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ عِتْقِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صَدَاقًا لَهَا، وَيَجْعَلُهَا زَوْجَتَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَلَا شُهُودٍ وَلَا وَلِيٍّ غَيْرِهِ، وَلَا لَفْظِ إِنْكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ، كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم بصفية، وَلَمْ يَقِلْ قَطُّ: هَذَا خَاصٌّ بِي، وَلَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِهِ بِاقْتِدَاءِ أُمَّتِهِ بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ، بَلْ رَوَوُا الْقِصَّةَ وَنَقَلُوهَا إِلَى الْأُمَّةِ وَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ وَلَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَصَّهُ فِي النِّكَاحِ بِالْمَوْهُوبَةِ قَالَ:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50][الْأَحْزَابِ: 50] ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ أُمَّتِهِ لَكَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ مِنَ السَّادَاتِ مَعَ إِمَائِهِمْ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَهَبُ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ لِنُدْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ أَوْ مِثْلُهُ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيَانِ، وَلَا سِيَّمَا وَالْأَصْلُ مُشَارَكَةُ الْأُمَّةِ لَهُ وَاقْتِدَاؤُهَا بِهِ، فَكَيْفَ يَسْكُتُ عَنْ مَنْعِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ مَعَ قِيَامِ مُقْتَضَى الْجَوَازِ، هَذَا شِبْهُ الْمُحَالِ، وَلَمْ تَجْتَمِعِ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَمَنْفَعَةَ وَطْئِهَا وَخِدْمَتِهَا، فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَيَسْتَبْقِيَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ نَوْعًا مِنْهَا، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدُمَهُ مَا عَاشَ، فَإِذَا أَخْرَجَ الْمَالِكُ رَقَبَةَ مِلْكِهِ وَاسْتَثْنَى نَوْعًا مِنْ مَنْفَعَتِهِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَكَانَ إِعْتَاقُهَا يُزِيلُ مِلْكَ الْيَمِينِ عَنْهَا، كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِبَاحَةِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ جَعْلُهَا زَوْجَةً وَسَيِّدُهَا كَانَ يَلِي
نِكَاحَهَا وَبَيْعَهَا مِمَّنْ شَاءَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَاسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ مِنْهَا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ مَلَكَهُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ مِلْكِهِ الْمُسْتَثْنَى لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلسُّنَةِ الصَّحِيحَةِ، وَاللَّهِ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ كَذِبِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إِذَا كَانَ يَتَوَصَّلُ بِالْكَذِبِ إِلَى حَقِّهِ، كَمَا كَذَبَ الحجاج بن علاط عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لَحِقَتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَأَمَّا مَا نَالَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَذَى وَالْحُزْنِ فَمَفْسَدَةٌ يَسِيرَةٌ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْكَذِبِ، وَلَا سِيَّمَا تَكْمِيلُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ بَعْدَ هَذَا الْكَذِبِ، فَكَانَ الْكَذِبُ سَبَبًا فِي حُصُولِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ يُوهِمُ الْخَصْمَ خِلَافَ الْحَقِّ؛ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْحَقِّ، كَمَا ( «أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِشَقِّ الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ حَتَّى تَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْأُمِّ» )
وَمِنْهَا: جَوَازُ بِنَاءِ الرَّجُلِ بِامْرَأَتِهِ فِي السَّفَرِ وَرُكُوبِهَا مَعَهُ عَلَى دَابَّةٍ بَيْنَ الْجَيْشِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ بِسُمٍّ يَقْتُلُ مِثْلُهُ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا، كَمَا قُتِلَتِ الْيَهُودِيَّةُ بِبِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحِلُّ طَعَامِهِمْ.
وَمِنْهَا: قَبُولُ هَدِيَّةِ الْكَافِرِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ الْمَرْأَةَ قُتِلَتْ لِنَقْضِ الْعَهْدِ لِحِرَابِهَا بِالسُّمِّ لَا قِصَاصًا، قِيلَ: لَوْ كَانَ قَتْلُهَا لِنَقْضِ الْعَهْدِ لَقُتِلَتْ مِنْ حِينِ أَقَرَّتْ أَنَّهَا سَمَّتِ الشَّاةَ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ قَتْلُهَا عَلَى مَوْتِ الْآكِلِ مِنْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُتِلَتْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ؟ قِيلَ: هَذَا حَجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي نَاقِضِ الْعَهْدِ كَالْأَسِيرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ قَتْلَهُ حَتْمًا كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ أحمد، وَإِنَّمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمَنْ تَبِعَهُ قَالُوا: يُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ، قِيلَ: إِنْ كَانَتْ قِصَّةُ الشَّاةِ قَبْلَ الصُّلْحِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الصُّلْحِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَمَنْ لَمْ يَرَ النَّقْضَ بِهِ فَظَاهِرٌ، وَمَنْ رَأَى النَّقْضَ بِهِ فَهَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ أَوْ يُخَيَّرُ فِيهِ، أَوْ يُفْصَلُ بَيْنَ بَعْضِ الْأَسْبَابِ النَّاقِضَةِ وَبَعْضِهَا، فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ السَّبَبِ، وَيُخَيَّرُ فِيهِ إِذَا نَقَضَهُ بِحِرَابِهِ وَلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ نَقَضَهُ بِسِوَاهُمَا كَالْقَتْلِ وَالزِّنَى بِالْمُسْلِمَةِ وَالتَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِطْلَاعِ الْعَدُوِّ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ؟ فَالْمَنْصُوصُ تَعَيُّنُ الْقَتْلِ، وَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمَّا سَمَّتِ الشَّاةَ صَارَتْ بِذَلِكَ مُحَارِبَةً، وَكَانَ قَتْلُهَا مُخَيَّرًا فِيهِ، فَلَمَّا مَاتَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السُّمِّ قُتِلَتْ حَتْمًا؛ إِمَّا قِصَاصًا وَإِمَّا لِنَقْضِ الْعَهْدِ بِقَتْلِهَا الْمُسْلِمَ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتُلِفَ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ: هَلْ كَانَ عَنْوَةً أَوْ كَانَ بَعْضُهَا صُلْحًا وَبَعْضُهَا عَنْوَةً؟
فَرَوَى أبو داود مِنْ حَدِيثِ أنس ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً، فَجُمِعَ السَّبْيُ» )
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ» )
وَذَكَرَ أبو داود عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: ( «بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ خَيْبَرَ
عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ، وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلَاءِ بَعْدَ الْقِتَالِ» )
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ، أَنَّهَا كَانَتْ عَنْوَةً كُلُّهَا مَغْلُوبًا عَلَيْهَا، بِخِلَافِ فَدَكٍ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ جَمِيعَ أَرْضِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ لَهَا الْمُوجِفِينَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ مَقْسُومَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ تُقْسَمُ الْأَرْضُ إِذَا غُنِمَتِ الْبِلَادُ أَوْ تُوقَفُ؟
فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْضِ خَيْبَرَ، وَبَيْنَ إِيقَافِهَا كَمَا فَعَلَ عمر بِسَوَادِ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْسَمُ الْأَرْضُ كُلُّهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ غَنِيمَةٌ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ.
وَذَهَبَ مالك إِلَى إِيقَافِهَا اتِّبَاعًا لعمر؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَخْصُوصَةٌ مِنْ سَائِرِ الْغَنِيمَةِ بِمَا فَعَلَ عمر فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ إِيقَافِهَا لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَوَى مالك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عمر يَقُولُ: ( «لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا سُهْمَانًا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ سُهْمَانًا» )
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ قُسِمَتْ كُلُّهَا سُهْمَانًا كَمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ خَيْبَرَ كَانَ بَعْضُهَا صُلْحًا وَبَعْضُهَا عَنْوَةً، فَقَدْ وَهِمَ وَغَلِطَ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّبْهَةُ بِالْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنِكَ الْحِصْنَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ