الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ الْمُشْرِكُونَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِالذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالْعُقُوبَةِ، لَا سِيَّمَا وَأَوْلِيَاؤُهُ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِي قِتَالِهِمْ ذَلِكَ، أَوْ مُقَصِّرِينَ نَوْعَ تَقْصِيرٍ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي جَنْبِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَاتِ، وَالْهِجْرَةِ مَعَ رَسُولِهِ، وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَهُمْ كَمَا قِيلَ:
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ
…
جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ
فَكَيْفَ يُقَاسُ بِبَغِيضِ عَدُوٍّ جَاءَ بِكُلِّ قَبِيحٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِشَفِيعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَحَاسِنِ.
[فصل في تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ]
فَصْلٌ
وَلَمَّا كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى]
[خَبَرُ الْعِيرِ الْمُقْبِلَةِ مِنَ الشَّامِ لِقُرَيْشٍ صُحْبَةَ أَبِي سُفْيَانَ]
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى
فَلَمَّا كَانَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرُ الْعِيرِ الْمُقْبِلَةِ مِنَ الشَّامِ لِقُرَيْشٍ صُحْبَةَ أبي سفيان، وَهِيَ الْعِيرُ الَّتِي خَرَجُوا فِي طَلَبِهَا لَمَّا خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَفِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ لِقُرَيْشٍ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا بِالنُّهُوضِ، وَلَمْ يَحْتَفِلْ لَهَا احْتِفَالًا بَلِيغًا؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُسْرِعًا فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا فَرَسَانِ: فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَفَرَسٌ للمقداد بن الأسود الكندي، وَكَانَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ عَلَى الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وعلي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَابْنُهُ وكبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا،
وأبو بكر وعمر وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَلَى الصَّلَاةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ رَدَّ أبا لبابة بن عبد المنذر، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالرَّايَةَ الْوَاحِدَةَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْأُخْرَى الَّتِي لِلْأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَجَعَلَ عَلَى السَّاقَةِ قيس بن أبي صعصعة، وَسَارَ فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الصَّفْرَاءِ بَعَثَ بسبس بن عمرو الجهني، وعدي بن أبي الزغباء إِلَى بَدْرٍ يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ الْعِيرِ.
وَأَمَّا أبو سفيان، فَإِنَّهُ بَلَغَهُ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَصْدَهُ إِيَّاهُ فَاسْتَأْجَرَ ضمضم بن عمرو الغفاري إِلَى مَكَّةَ مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بِالنَّفِيرِ إِلَى عِيرِهِمْ؛ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَبَلَغَ الصَّرِيخُ أَهْلَ مَكَّةَ، فَنَهَضُوا مُسْرِعِينَ وَأَوْعَبُوا فِي الْخُرُوجِ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ أَحَدٌ سِوَى أبي لهب، فَإِنَّهُ عَوَّضَ عَنْهُ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَحَشَدُوا فِيمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلَّا بَنِي عَدِيٍّ، فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47][الْأَنْفَالِ: 47] وَأَقْبَلُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، تُحَادُّهُ وَتُحَادُّ رَسُولَهُ» ) ، وَجَاءُوا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، وَعَلَى حَمِيَّةٍ، وَغَضَبٍ، وَحَنَقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، لِمَا يُرِيدُونَ مِنْ أَخْذِ عِيرِهِمْ، وَقَتْلِ مَنْ فِيهَا، وَقَدْ أَصَابُوا بِالْأَمْسِ عمرو بن الحضرمي، وَالْعِيرَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، فَجَمَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42][الْأَنْفَالِ: 42] .
وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُرُوجُ قُرَيْشٍ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَتَكَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ثَانِيًا، فَتَكَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ثَالِثًا،
فَفَهِمَتِ الْأَنْصَارُ أَنَّهُ يَعْنِيهِمْ، فَبَادَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا؟ وَكَانَ إِنَّمَا يَعْنِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فِي دِيَارِهِمْ، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، اسْتَشَارَهُمْ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ، فَقَالَ لَهُ سعد: لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى حَقًّا عَلَيْهَا أَنْ لَا يَنْصُرُوكَ إِلَّا فِي دِيَارِهَا، وَإِنِّي أَقُولُ عَنِ الْأَنْصَارِ، وَأُجِيبُ عَنْهُمْ: فَاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ.
فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَدْرٍ، وَخَفَضَ أبو سفيان فَلَحِقَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ نَجَا، وَأَحْرَزَ الْعِيرَ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ: أَنِ ارْجِعُوا، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ، وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ، فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ أبو جهل: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدَمَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنَ الْعَرَبِ، وَتَخَافُنَا الْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَشَارَ الأخنس بن شريق عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ، فَعَصَوْهُ، فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُو زُهْرَةَ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا زُهْرِيٌّ، فَاغْتَبَطَتْ بَنُو زُهْرَةَ بَعْدُ بِرَأْيِ الأخنس، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظَّمًا، وَأَرَادَتْ بَنُو هَاشِمٍ الرُّجُوعَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ أبو جهل، وَقَالَ: لَا تُفَارِقُنَا هَذِهِ الْعِصَابَةُ حَتَّى نَرْجِعَ فَسَارُوا، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلَ عَشِيًّا أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ، فَقَالَ:( «أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ» ) . فَقَالَ الحباب بن المنذر: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلُبِهَا، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ نَسِيرَ إِلَى قُلُبٍ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَهِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، عَذْبَةٌ، فَنَنْزِلَ عَلَيْهَا وَنَسْبِقَ الْقَوْمَ إِلَيْهَا وَنُغَوِّرَ مَا سِوَاهَا مِنَ الْمِيَاهِ.
وَسَارَ الْمُشْرِكُونَ سِرَاعًا يُرِيدُونَ الْمَاءَ وَبَعَثَ عليا وسعدا والزبير إِلَى بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ، فَقَدِمُوا بِعَبْدَيْنِ لِقُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَأَلَهُمَا أَصْحَابُهُ مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَحْنُ سُقَاةٌ لِقُرَيْشٍ، فَكَرِهَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَوَدُّوا لَوْ كَانَا لِعِيرِ أبي سفيان، ( «فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: أَخْبِرَانِي أَيْنَ قُرَيْشٌ؟ قَالَا:
وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ. فَقَالَ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَا: لَا عِلْمَ لَنَا، فَقَالَ كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ فَقَالَا: يَوْمًا عَشْرًا، وَيَوْمًا تِسْعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ تِسْعِمِائَةٍ إِلَى الْأَلْفِ» ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَطَرًا وَاحِدًا، فَكَانَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَابِلًا شَدِيدًا مَنَعَهُمْ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَلًّا طَهَّرَهُمْ بِهِ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ رِجْسَ الشَّيْطَانِ، وَوَطَّأَ بِهِ الْأَرْضَ، وَصَلَّبَ بِهِ الرَّمْلَ، وَثَبَّتَ الْأَقْدَامَ، وَمَهَّدَ بِهِ الْمَنْزِلَ، وَرَبَطَ بِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَسَبَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْمَاءِ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ شَطْرَ اللَّيْلِ، وَصَنَعُوا الْحِيَاضَ، ثُمَّ غَوَّرُوا مَا عَدَاهَا مِنَ الْمِيَاهِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْحِيَاضِ. وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرِيشٌ يَكُونُ فِيهَا عَلَى تَلٍّ يُشْرِفُ عَلَى الْمَعْرَكَةِ، وَمَشَى فِي مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ ( «وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَمَا تَعَدَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ مَوْضِعَ إِشَارَتِهِ» ) .
فَلَمَّا طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ، وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، جَاءَتْ تُحَادُّكَ، وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، وَقَامَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ " فَالْتَزَمَهُ الصِّدِّيقُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَبْشِرْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُنْجِزَنَّ اللَّهُ لَكَ مَا وَعَدَكَ» ) .
وَاسْتَنْصَرَ الْمُسْلِمُونَ اللَّهَ، وَاسْتَغَاثُوهُ، وَأَخْلَصُوا لَهُ، وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مَلَائِكَتِهِ:{أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12][الْأَنْفَالِ: 12]، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ:{أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9][الْأَنْفَالِ: 9] ، قُرِئَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا، فَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّهُمْ رِدْفٌ لَكُمْ. وَقِيلَ: يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْسَالًا لَمْ يَأْتُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً.
فَإِنْ قِيلَ: هَاهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ أَمَدَّهُمْ بِأَلْفٍ، وَفِي (سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) قَالَ:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ - بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124 - 125][آلِ عِمْرَانَ: 124- 125] فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟
قِيلَ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْإِمْدَادِ الَّذِي بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَالَّذِي بِالْخَمْسَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ إِمْدَادًا مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ، فَلَمَّا فَاتَ شَرْطُهُ، فَاتَ الْإِمْدَادُ، وَهَذَا قَوْلُ الضحاك ومقاتل، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عكرمة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ عكرمة، اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ - بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 123 - 125][آلِ عِمْرَانَ: 123 - 125] إِلَى أَنْ قَالَ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} [آل عمران: 126] أَيْ: هَذَا الْإِمْدَادَ {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] قَالَ هَؤُلَاءِ: فَلَمَّا اسْتَغَاثُوا، أَمَدَّهُمْ بِتَمَامِ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، ثُمَّ أَمَدَّهُمْ بِتَمَامِ خَمْسَةِ آلَافٍ لَمَّا صَبَرُوا وَاتَّقَوْا، فَكَانَ هَذَا التَّدْرِيجُ وَمُتَابَعَةُ الْإِمْدَادِ أَحْسَنَ مَوْقِعًا، وَأَقْوَى لِنُفُوسِهِمْ، وَأَسَرَّ لَهَا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُتَابَعَةِ الْوَحْيِ وَنُزُولِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
وَقَالَتِ الْفِرْقَةُ الْأُولَى: الْقِصَّةُ فِي سِيَاقِ أُحُدٍ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ ذِكْرَ بَدْرٍ اعْتِرَاضًا فِي أَثْنَائِهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 121][آلِ عِمْرَانَ: 121]، ثُمَّ قَالَ:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123][آلِ عِمْرَانَ: 123] ، فَذَكَّرَهُمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا نَصَرَهُمْ بِبَدْرٍ وَهُمْ أَذِلَّةٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى قِصَّةِ أُحُدٍ، وَأَخْبَرَ عَنْ قَوْلِ رَسُولِهِ لَهُمْ:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124] ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا، أَمَدَّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، فَهَذَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ، وَالْإِمْدَادُ الَّذِي بِبَدْرٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَهَذَا بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَإِمْدَادُ بَدْرٍ بِأَلْفٍ، وَهَذَا مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَذَلِكَ مُطْلَقٌ، وَالْقِصَّةُ فِي (سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) هِيَ قِصَّةُ أُحُدٍ مُسْتَوْفَاةٌ مُطَوَّلَةٌ، وَبَدْرٌ ذُكِرَتْ فِيهَا اعْتِرَاضًا، وَالْقِصَّةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ قِصَّةُ بَدْرٍ مُسْتَوْفَاةٌ مُطَوَّلَةٌ، فَالسِّيَاقُ فِي (آلِ عِمْرَانَ) غَيْرُ السِّيَاقِ فِي الْأَنْفَالِ.
يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125][آلِ عِمْرَانَ: 125] قَدْ قَالَ مجاهد: إِنَّهُ يَوْمُ أُحُدٍ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِمْدَادُ الْمَذْكُورُ فِيهِ،