الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا، وَصَلُحَتْ، وَأَخَذَ أبو عبيدة ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَنَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ، وَأَطْوَلِ جَمَلٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ، وَمَرَّ تَحْتَهُ وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ:" «هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ تُطْعِمُونَا؟ فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَأَكَلَ» ".
قُلْتُ: وَهَذَا السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَزْوَةَ كَانَتْ قَبْلَ الْهُدْنَةِ، وَقَبْلَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ حِينِ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَكُنْ يَرْصُدُ لَهُمْ عِيرًا، بَلْ كَانَ زَمَنَ أَمْنٍ وَهُدْنَةٍ إِلَى حِينِ الْفَتْحِ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ سَرِيَّةُ الْخَبَطِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً قَبْلَ الصُّلْحِ وَمَرَّةً بَعْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي فِقْهِ هَذِهِ الْقِصَّةِ]
فَصْلٌ
فِي فِقْهِ هَذِهِ الْقِصَّةِ
لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ غَزَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا أَغَارَ فِيهِ وَلَا بَعَثَ فِيهِ سَرِيَّةً
فَفِيهَا جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِنْ كَانَ ذِكْرُ التَّارِيخِ فِيهَا بِرَجَبٍ مَحْفُوظًا، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ وَهْمٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، إِذْ لَمْ يُحْفَظْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ غَزَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا أَغَارَ فِيهِ، وَلَا بَعَثَ فِيهِ سَرِيَّةً، وَقَدْ عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِهِمْ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ فِي قِصَّةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَالُوا: اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 217] ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ هَذَا بِنَصٍّ
يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَلَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَسْخِهِ، وَقدِ اسْتُدِلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5][التَّوْبَةِ: 5] ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ هَاهُنَا هِيَ أَشْهُرُ التَّسْيِيرِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي سَيَّرَ اللَّهُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَرْضِ يَأْمَنُونَ فِيهَا، وَكَانَ أَوَّلُهَا يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عَاشِرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَآخِرُهَا عَاشِرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا.
وَفِيهَا: جَوَازُ أَكْلِ وَرَقِ الشَّجَرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَذَلِكَ عُشْبُ الْأَرْضِ.
وَفِيهَا: جَوَازُ نَهْيِ الْإِمَامِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ لِلْغُزَاةِ عَنْ نَحْرِ ظُهُورِهِمْ وَإِنِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى ظَهْرِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهمُ الطَّاعَةُ إِذَا نَهَاهُمْ.
وَفِيهَا: جَوَازُ أَكْلِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ وَأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3][الْمَائِدَةِ: 3]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96][الْمَائِدَةِ: 5] ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا صِيدَ مِنْهُ وَطَعَامَهُ مَا مَاتَ فِيهِ، وَفِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا:" «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» "، حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا الْمَوْقُوفُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: أُحِلَّ لَنَا كَذَا، وَحُرِّمَ
عَلَيْنَا، يَنْصَرِفُ إِلَى إِحْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَحْرِيمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَالصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَانُوا مُضْطَرِّينَ، وَلِهَذَا لَمَّا هَمُّوا بِأَكْلِهَا قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، وَقَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ، فَأَكَلُوا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهَا لَمَا أَكَلُوا مِنْهَا.
قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَرِّينَ وَلَكِنْ هَيَّأَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ أَطْيَبَهُ وَأَحَلَّهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدِمُوا:" «هَلْ بَقِيَ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، فَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:" إِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ لَكُمْ» " وَلَوْ كَانَ هَذَا رِزْقَ مُضْطَرٍّ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ أَكْلُهُمْ مِنْهَا لِلضَّرُورَةِ، فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ أَنْ يَدَّهِنُوا مِنْ وَدَكِهَا، وَيُنَجِّسُوا بِهِ ثِيَابَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ، وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يُجَوِّزُ الشِّبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ، إِنَّمَا يُجَوِّزُونَ مِنْهَا سَدَّ الرَّمَقِ، وَالسَّرِيَّةُ أَكَلَتْ مِنْهَا حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْهِمْ أَجْسَامُهُمْ، وَسَمِنُوا، وَتَزَوَّدُوا مِنْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَتِمُّ لَكُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الدَّابَّةُ قَدْ مَاتَتْ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا مَيْتَةً، وَمنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ قَدْ جَزَرَ عَنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَاتَتْ بِمُفَارَقَةِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ ذَكَاتُهَا وَذَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، كَيْفَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ:"فَجَزَرَ الْبَحْرُ عَنْ حُوتٍ كَالظَّرِبِ " قِيلَ: هَذَا الِاحْتِمَالُ مَعَ بُعْدِهِ جِدًّا فَإِنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ خَرْقًا لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الدَّابَّةِ إِذَا كَانَتْ حَيَّةً إِنَّمَا تَكُونُ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ وَثَبَجِهِ دُونَ سَاحِلِهِ وَمَا رَقَّ مِنْهُ وَدَنَا مِنَ الْبَرِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي الْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شُكَّ فِي السَّبَبِ الَّذِي مَاتَ بِهِ الْحَيَوَانُ، هَلْ هُوَ سَبَبٌ مُبِيحٌ لَهُ أَوْ غَيْرُ مُبِيحٍ؟ لَمْ يَحِلَّ الْحَيَوَانُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّيْدِ يُرْمَى بِالسَّهْمِ، ثُمَّ يُوجَدُ فِي الْمَاءِ: وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ " فَلَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ الْبَحْرِيُّ حَرَامًا إِذَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ لَمْ يُبَحْ. وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ.
وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّصُوصُ مَعَ الْمُبِيحِينَ، لَكَانَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ