الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاجِرٌ أَوْ جَارِيَتُكَ تَزْنِي، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ غُلَامٌ عَفِيفٌ حُرٌّ، وَجَارِيَةٌ عَفِيفَةٌ حُرَّةٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ حُرِّيَّةَ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حُرِّيَّةَ الْعِفَّةِ، فَإِنَّ جَارِيَتَهُ وَعَبْدَهُ لَا يُعْتَقَانِ بِهَذَا أَبَدًا، وَكَذَا إِذَا قِيلَ لَهُ: كَمْ لِغُلَامِكَ عِنْدَكَ سَنَةً؟ فَقَالَ هُوَ عَتِيقٌ عِنْدِي، وَأَرَادَ قِدَمَ مُلْكِهِ لَهُ، لَمْ يُعْتَقْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ، فَسُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ، وَلَمْ يَخْطِرْ بِقَلْبِهِ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا فِي طَلْقِ الْوِلَادَةِ لَمْ تُطَلَّقْ بِهَذَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ صَرِيحَةٌ إِلَّا فِيمَا أُرِيدَ بِهَا وَدَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا، فَدَعْوَى أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ مُكَابَرَةٌ، وَدَعْوَى بَاطِلَةٌ قَطْعًا.
[فصل في سُجُودُ الشُّكْرِ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ]
فَصْلٌ
وَفِي سُجُودِ كعب حِينَ سَمِعَ صَوْتَ الْمُبَشِّرِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ عَادَةَ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَالنِّقَمِ الْمُنْدَفِعَةِ، وَقَدْ سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا جَاءَهُ قَتْلُ مسيلمة الكذاب، وَسَجَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا وَجَدَ ذَا الثُّدَيَّةِ مَقْتُولًا فِي الْخَوَارِجِ، وَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَشَّرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَسَجَدَ حِينَ شَفَعَ لِأُمَّتِهِ فَشَفَّعَهُ اللَّهُ فِيهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَتَاهُ بَشِيرٌ فَبَشَّرَهُ بِظَفَرِ جُنْدٍ لَهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عائشة، فَقَامَ فَخَرَّ سَاجِدًا، وَقَالَ أبو بكرة:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا» ، وَهِيَ آثَارٌ صَحِيحَةٌ لَا مَطْعَنَ فِيهَا.
وَفِي اسْتِبَاقِ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالرَّاقِي عَلَى سِلَعٍ لِيُبَشِّرَا كعبا دَلِيلٌ عَلَى حِرْصِ الْقَوْمِ عَلَى الْخَيْرِ، وَاسْتِبَاقِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَنَافُسِهِمْ فِي مَسَرَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَفِي نَزْعِ كعب ثَوْبَيْهِ وَإِعْطَائِهِمَا لِلْبَشِيرِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِعْطَاءَ الْمُبَشِّرِينَ مِنْ
مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ وَعَادَةِ الْأَشْرَافِ، وَقَدْ أَعْتَقَ العباس غُلَامَهُ لَمَّا بَشَّرَهُ أَنَّ عِنْدَ الحجاج بن علاط مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَسُرُّهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِعْطَاءِ الْبَشِيرِ جَمِيعَ ثِيَابِهِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ، وَالْقِيَامِ إِلَيْهِ إِذَا أَقْبَلَ، وَمُصَافَحَتِهِ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ جَائِزٌ لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَهُ: لِيَهْنِكَ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ، وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّ فِيهِ تَوْلِيَةَ النِّعْمَةِ رَبَّهَا، وَالدُّعَاءَ لِمَنْ نَالَهَا بِالتَّهَنِّي بِهَا.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَيْرَ أَيَّامِ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَفْضَلَهَا يَوْمُ تَوْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» . فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ خَيْرًا مِنْ يَوْمِ إِسْلَامِهِ؟
قِيلَ: هُوَ مُكَمِّلٌ لِيَوْمِ إِسْلَامِهِ، وَمِنْ تَمَامِهِ، فَيَوْمُ إِسْلَامِهِ بِدَايَةُ سَعَادَتِهِ، وَيَوْمُ تَوْبَتِهِ كَمَالُهَا وَتَمَامُهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَفِي سُرُورِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَفَرَحِهِ بِهِ وَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ كَمَالِ الشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ وَالرَّأْفَةِ، حَتَّى لَعَلَّ فَرَحَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ كعب وَصَاحِبَيْهِ.
وَقَوْلُ كعب: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي» . دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ بِمَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» ) ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ جَمِيعِهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْقِيَ لَهُ مِنْهُ بَقِيَّةً، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "«أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ» "، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ قَدْرًا، بَلْ أَطْلَقَ، وَوَكَلَهُ إِلَى اجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ مَا نَقَصَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ أَهْلِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَنَذْرُهُ لَا يَكُونُ طَاعَةً، فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِ وَحَاجَتِهِ، فَإِخْرَاجُهُ وَالصَّدَقَةُ بِهِ أَفْضَلُ، فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ إِذَا نَذَرَهُ، هَذَا قِيَاسُ
الْمَذْهَبِ، وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَلِهَذَا تُقَدَّمُ كِفَايَةُ الرَّجُلِ، وَكِفَايَةُ أَهْلِهِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا لِلَّهِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ، أَوْ حَقًّا لِلْآدَمِيِّينَ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ، فَإِنَّا نَتْرُكُ لِلْمُفْلِسِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَكُسْوَةٍ وَآلَةِ حِرْفَةٍ، أَوْ مَا يَتَّجِرُ بِهِ لِمُؤْنَتِهِ إِنْ فُقِدَتِ الْحِرْفَةُ، وَيَكُونُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِيمَا بَقِيَ.
وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَجْزَاهُ ثُلُثُهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ أَصْحَابُهُ بِمَا رُوِيَ «فِي قِصَّةِ كعب هَذِهِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَدَقَةً، قَالَ: " لَا "، قُلْتُ: فَنِصْفُهُ؟ قَالَ: " لَا "، قُلْتُ: فَثُلُثُهُ، قَالَ: " نَعَمْ "، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ» ، رَوَاهُ أبو داود. وَفِي ثُبُوتِ هَذَا مَا فِيهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي قِصَّةِ كعب هَذِهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ وَلَدِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ:" «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ» " مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِقَدْرِهِ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْقِصَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَلَدُهُ، وَعَنْهُ نَقَلُوهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ "«أَنَّ أبا لبابة بن عبد المنذر لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي وَأُسَاكِنَكَ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ عز وجل وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ» ) . قِيلَ: هَذَا هُوَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أحمد، لَا بِحَدِيثِ كعب، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عبد الله: إِذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَوْ بِبَعْضِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَكْثَرُ مِمَّا يَمْلِكُهُ، فَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أبا لبابة بِالثُّلُثِ، وأحمد أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ أَنْ يَحْتَجَّ بِحَدِيثِ كعب
هَذَا الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الثُّلُثِ، إِذِ الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ» "، وَكَأَنَّ أحمد رَأَى تَقْيِيدَ إِطْلَاقِ حَدِيثِ كعب هَذَا بِحَدِيثِ أبي لبابة.
وَقَوْلُهُ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَوْ بِبَعْضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهُ: إِنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ، دَلِيلٌ عَلَى انْعِقَادِ نَذْرِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ مَالَهُ، ثُمَّ إِذَا قَضَى الدَّيْنَ أَخْرَجَ مِقْدَارَ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ النَّذْرِ، وَهَكَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عبد الله: إِذَا وَهَبَ مَالَهُ، وَقَضَى دَيْنَهُ، وَاسْتَفَادَ غَيْرُهُ، فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ ثُلُثِ مَالِهِ يَوْمَ حِنْثِهِ، يُرِيدُ بِيَوْمِ حِنْثِهِ يَوْمَ نَذْرِهِ، فَيَنْظُرُ قَدْرَ الثُّلُثِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرِجُهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ بِبَعْضِهِ. يُرِيدُ أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ بِمِقْدَارٍ كَأَلْفٍ وَنَحْوِهَا، فَيُجْزِئُهُ ثُلُثُهُ كَنَذْرِ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ لُزُومُ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ الْمُعَيَّنِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الْمُعَيَّنَ إِنْ كَانَ ثُلُثَ مَالِهِ فَمَا دُونَهُ، لَزِمَهُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَزِمَهُ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَهِيَ أَصَحُّ عِنْدَ أَبِي الْبَرَكَاتِ.
وَبَعْدُ: فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كعبا وأبا لبابة نَذَرَا نَذْرًا مُنَجَّزًا، وَإِنَّمَا قَالَا: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِنَا أَنْ نَنْخَلِعَ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي النَّذْرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْعَزْمُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِأَمْوَالِهِمَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِمَا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَعْضَ الْمَالِ يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجَانِ إِلَى إِخْرَاجِهِ كُلِّهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ لسعد وَقَدِ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدْفَعُهُ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: " يُجْزِئُكَ "، وَالْإِجْزَاءُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، إِذِ الشَّارِعُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقُرَبِ، وَنَذْرُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ.
قِيلَ: أَمَّا قَوْلُهُ: " يُجْزِئُكَ "، فَهُوَ بِمَعْنَى يَكْفِيكَ، فَهُوَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَلَيْسَ مِنْ " جَزَى عَنْهُ " إِذَا قَضَى عَنْهُ، يُقَالُ: أَجْزَأَنِي: إِذَا كَفَانِي، وَجَزَى عَنِّي: إِذَا قَضَى عَنِّي، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ، وَمِنْهُ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لأبي بردة فِي الْأُضْحِيَّةِ: " تَجْزِي عَنْكَ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ، وَالْكِفَايَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ.
وَأَمَّا مَنْعُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَهُوَ إِشَارَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْأَرْفَقِ بِهِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مَنْفَعَةُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَإِنَّهُ لَوْ مَكَّنَهُ مِنْ إِخْرَاجِ مَالِهِ كُلِّهِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْفَقْرِ وَالْعَدَمِ، كَمَا فَعَلَ بِالَّذِي جَاءَهُ بِالصُّرَّةِ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا، فَضَرَبَهُ بِهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ. وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ أَرْجَحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَرَادَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ، فَمَكَّنَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ مِنْ إِخْرَاجِ مَالِهِ كُلِّهِ، وَقَالَ: ( «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ "