الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ) ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، ( «وَأَقَرَّ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ بِشَطْرِ مَالِهِ» ) ، وَمَنَعَ صَاحِبَ الصُّرَّةِ مِنَ التَّصَدُّقِ بِهَا، وَقَالَ لِكَعْبٍ:( «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ» ) ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ الْمُخْرَجِ بِأَنَّهُ الثُّلُثُ، وَيَبْعُدُ جِدًّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُمْسَكُ ضِعْفَيِ الْمُخْرَجِ فِي هَذَا اللَّفْظِ، «وَقَالَ لأبي لبابة:(يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ) » ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَمْسَكَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى سُؤَالِ النَّاسِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ مِنْ رَأْسِ مَالٍ أَوْ عَقَارٍ، أَوْ أَرْضٍ يَقُومُ مَغَلُّهَا بِكِفَايَتِهِمْ، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ فَأَكْثَرَ أَخْرَجَ عُشُرَهُ وَإِنْ كَانَ أَلْفًا، فَمَا دُونَ فَسُبُعَهُ وَإِنْ كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَمَا دُونَ فَخُمُسَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة رحمه الله: يَتَصَدَّقُ بِكُلِّ مَالِهِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُهُ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَقَالَ مالك وَالزُّهْرِيُّ وأحمد: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ.
[فَصْلٌ في عَظَمَةُ الصِّدْقِ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: عِظَمُ مِقْدَارِ الصِّدْقِ، وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ شَرِّهِمَا بِهِ، فَمَا أَنْجَى اللَّهُ مَنْ أَنْجَاهُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا أَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَهُ إِلَّا
بِالْكَذِبِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119][التَّوْبَةِ: 119] .
وَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلْقَ إِلَى قِسْمَيْنِ: سُعَدَاءَ، وَأَشْقِيَاءَ، فَجَعَلَ السُّعَدَاءَ هُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْأَشْقِيَاءَ هُمْ أَهْلَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ. فَالسَّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالشَّقَاوَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ.
وَأَخْبَرَ سبحانه وتعالى: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا صِدْقُهُمْ؛ وَجَعَلَ عَلَمَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ هُوَ الْكَذِبَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَجَمِيعُ مَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ أَصْلُهُ الْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَالصِّدْقُ بَرِيدُ الْإِيمَانِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ، بَلْ هُوَ لُبُّهُ وَرُوحُهُ. وَالْكَذِبُ: بَرِيدُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَدَلِيلُهُ وَمَرْكَبُهُ وَسَائِقُهُ وَقَائِدُهُ وَحِلْيَتُهُ وَلِبَاسُهُ وَلُبُّهُ، فَمُضَادَّةُ الْكَذِبِ لِلْإِيمَانِ كَمُضَادَّةِ الشِّرْكِ لِلتَّوْحِيدِ، فَلَا يَجْتَمِعُ الْكَذِبُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا وَيَطْرُدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَيَسْتَقِرُّ مَوْضِعَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْجَى الثَّلَاثَةَ بِصِدْقِهِمْ، وَأَهْلَكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ بِكَذِبِهِمْ، فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِنِعْمَةٍ أَفْضَلَ مِنَ الصِّدْقِ الَّذِي هُوَ غِذَاءُ الْإِسْلَامِ وَحَيَاتُهُ، وَلَا ابْتَلَاهُ بِبَلِيَّةٍ أَعْظَمَ مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مَرَضُ الْإِسْلَامِ وَفَسَادُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117][التَّوْبَةِ: 117] ، هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعَرِّفُ الْعَبْدَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وَفَضْلَهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهَا غَايَةُ كَمَالِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُمْ هَذَا الْكَمَالَ بَعْدَ آخِرِ الْغَزَوَاتِ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ لِلَّهِ، وَكَانَ غَايَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ تَابَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تَوْبَةِ كَعْبٍ خَيْرَ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْهِ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا حَقَّ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللَّهَ، وَعَرَفَ حُقُوقَهُ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ