الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْحَلْقَةَ، وَهِيَ السِّلَاحُ، وَكَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَوَائِبِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخَمِّسْهَا لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. وَخَمَّسَ قُرَيْظَةَ.
قَالَ مالك: خَمَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْظَةَ، وَلَمْ يُخَمِّسْ بَنِي النَّضِيرِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوجِفُوا بِخَيْلِهِمْ وَلَا رِكَابِهِمْ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ، كَمَا أَوْجَفُوا عَلَى قُرَيْظَةَ وَأَجْلَاهُمْ إِلَى خَيْبَرَ، وَفِيهِمْ حيي بن أخطب كَبِيرُهُمْ، وَقَبَضَ السِّلَاحَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَوَجَدَ مِنَ السِّلَاحِ خَمْسِينَ دِرْعًا، وَخَمْسِينَ بَيْضَةً، وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا، وَقَالَ:( «هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ» ) وَكَانَتْ قِصَّتُهُمْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
[فصل في نَقْضُ قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا قُرَيْظَةُ، فَكَانَتْ أَشَدَّ الْيَهُودِ عَدَاوَةً لِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَغْلَظَهُمْ كُفْرًا، وَلِذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ.
وَكَانَ سَبَبُ غَزْوِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ صُلْحٌ، جَاءَ حيي بن أخطب إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فِي دِيَارِهِمْ، فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِعِزِّ الدَّهْرِ، جِئْتُكُمْ بِقُرَيْشٍ عَلَى سَادَتِهَا، وَغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الشَّوْكَةِ وَالسِّلَاحِ، فَهَلُمَّ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ رَئِيسُهُمْ: بَلْ جِئْتَنِي وَاللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ، جِئْتَنِي بِسَحَابٍ قَدْ أَرَاقَ مَاءَهُ، فَهُوَ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ، فَلَمْ يَزَلْ حيي
يُخَادِعُهُ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ حَتَّى أَجَابَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي حِصْنِهِ، يُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ، فَفَعَلَ وَنَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَظْهَرُوا سَبَّهُ فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَ يَسْتَعْلِمُ الْأَمْرَ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَكَبَّرَ وَقَالَ:( «أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ» ) .
«فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: (أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا؟! فَانْهَضْ بِمَنْ مَعَكَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنِّي سَائِرٌ أَمَامَكَ أُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَأَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَارَ جِبْرِيلُ فِي مَوْكِبِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَثَرِهِ فِي مَوْكِبِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ،) وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» ) ، فَبَادَرُوا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَنَهَضُوا مِنْ فَوْرِهِمْ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّيهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا أُمِرْنَا، فَصَلَّوْهَا بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ الْخُرُوجِ، فَصَلَّوْهَا فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيُّهُمَا كَانَ أَصْوَبَ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الَّذِينَ أَخَّرُوهَا هُمُ الْمُصِيبُونَ، وَلَوْ كُنَّا مَعَهُمْ لَأَخَّرْنَاهَا كَمَا أَخَّرُوهَا، وَلَمَا صَلَّيْنَاهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَتَرْكًا لِلتَّأْوِيلِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلِ الَّذِينَ صَلَّوْهَا فِي الطَّرِيقِ فِي وَقْتِهَا حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ، وَكَانُوا أَسْعَدَ بِالْفَضِيلَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي الْخُرُوجِ، وَبَادَرُوا إِلَى مَرْضَاتِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ بَادَرُوا إِلَى اللِّحَاقِ بِالْقَوْمِ، فَحَازُوا فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، وَفَضِيلَةَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، وَفَهِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا أَفْقَهَ مِنَ الْآخَرِينَ، وَلَا سِيَّمَا تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا مَدْفَعَ لَهُ وَلَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَمَجِيءُ السُّنَّةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَالتَّبْكِيرِ بِهَا، وَأَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، أَوْ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، فَالَّذِي جَاءَ فِيهَا أَمْرٌ لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا الْمُؤَخِّرُونَ لَهَا، فَغَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، بَلْ مَأْجُورُونَ أَجْرًا وَاحِدًا لِتَمَسُّكِهِمْ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَقَصْدِهِمُ امْتِثَالَ الْأَمْرِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُصِيبِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَنْ بَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِلَى الْجِهَادِ مُخْطِئًا، فَحَاشَا وَكَلَّا، وَالَّذِينَ صَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ، جَمَعُوا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَحَصَّلُوا الْفَضِيلَتَيْنِ، فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَالْآخَرُونَ مَأْجُورُونَ أَيْضًا رضي الله عنهم.
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِلْجِهَادِ حِينَئِذٍ جَائِزًا مَشْرُوعًا، وَلِهَذَا كَانَ عَقِبَ تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إِلَى اللَّيْلِ، فَتَأْخِيرُهُمْ صَلَاةَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ، كَتَأْخِيرِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ إِلَى اللَّيْلِ سَوَاءٌ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ شُرُوعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ، وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا كَانَ جَائِزًا بَعْدَ بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا قِصَّةُ الْخَنْدَقِ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ قَالَ