الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَصْلَحَةَ هَذَا التَّأْلِيفِ، وَجَمْعِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ، كَانَتْ أَعْظَمَ عِنْدَهُ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِقَتْلِ مَنْ سَبَّهُ وَآذَاهُ، وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةُ الْقَتْلِ، وَتَرَجَّحَتْ جِدًّا قَتَلَ السَّابَّ كَمَا فَعَلَ بكعب بن الأشرف، فَإِنَّهُ جَاهَرَ بِالْعَدَاوَةِ وَالسَّبِّ، فَكَانَ قَتْلُهُ أَرْجَحَ مِنْ إِبْقَائِهِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ ابن خطل، ومقيس وَالْجَارِيَتَيْنِ وَأُمِّ وَلَدِ الْأَعْمَى، فَقَتَلَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَكَفَّ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى نُوَّابِهِ وَخُلَفَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوا حَقَّهُ.
[فَصْلٌ فِيمَا فِي خُطْبَتِهِ الْعَظِيمَةِ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ]
[تَحْرِيمُ اللَّهِ لِمَكَّةَ]
فَصْلٌ
فِيمَا فِي خُطْبَتِهِ الْعَظِيمَةِ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ
فَمِنْهَا قَوْلُهُ ( «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ» ) فَهَذَا تَحْرِيمٌ شَرْعِيٌّ قَدَرِيٌّ سَبَقَ بِهِ قَدَرُهُ يَوْمَ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، كَمَا فِي " الصَّحِيحِ " عَنْهُ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ» ) فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ ظُهُورِ التَّحْرِيمِ السَّابِقِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِهَذَا لَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِهَا، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ تَحْرِيمُهَا، إِذْ قَدْ صَحَّ فِيهِ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا مَطْعَنَ فِيهَا بِوَجْهٍ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ ( «فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا» ) هَذَا التَّحْرِيمُ لِسَفْكِ الدَّمِ الْمُخْتَصُّ بِهَا، وَهُوَ الَّذِي يُبَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَيَحْرُمُ فِيهَا لِكَوْنِهَا حَرَمًا، كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ عَضْدِ الشَّجَرِ بِهَا، وَاخْتِلَاءِ خَلَائِهَا، وَالْتِقَاطِ لُقَطَتِهَا، هُوَ أَمْرٌ مُخْتَصٌّ بِهَا، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي غَيْرِهَا، إِذِ الْجَمِيعُ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَنِظَامٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ، وَهَذَا أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا_ وَهُوَ الَّذِي سَاقَهُ أبو شريح العدوي لِأَجْلِهِ -: أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ بِهَا مِنْ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ لَا تُقَاتَلُ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ لَهَا تَأْوِيلٌ، كَمَا امْتَنَعَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مُبَايَعَةِ يزيد، وَبَايَعُوا ابن الزبير، فَلَمْ يَكُنْ قِتَالُهُمْ وَنَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمَا، وَإِحْلَالُ حَرَمِ اللَّهِ جَائِزًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْفَاسِقُ وَشِيعَتُهُ، وَعَارَضَ نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَوْ لَمْ يُعِذْهُ مِنْ سَفْكِ دَمِهِ لَمْ يَكُنْ حَرَمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآدَمِيِّينَ، وَكَانَ حَرَمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، وَهُوَ لَمْ يَزَلْ يُعِيذُ الْعُصَاةَ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعِذْ مقيس بن صبابة، وابن خطل، وَمَنْ سُمِّيَ مَعَهُمَا، لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لَمْ يَكُنْ حَرَمًا، بَلْ حِلًّا، فَلَمَّا انْقَضَتْ سَاعَةُ الْحَرْبِ عَادَ إِلَى مَا وُضِعَ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي
جَاهِلِيَّتِهَا يَرَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ، أَوِ ابْنَهُ فِي الْحَرَمِ، فَلَا يَهِيجُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ خَاصِّيَّةَ الْحَرَمِ الَّتِي صَارَ بِهَا حَرَمًا، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ وَقَوَّاهُ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِنَ الْأُمَّةِ مَنْ يَتَأَسَّى بِهِ فِي إِحْلَالِهِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، فَقَطَعَ الْإِلْحَاقَ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:( «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقَتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: " إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ» ) وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَتَى حَدًّا أَوْ قِصَاصًا خَارِجَ الْحَرَمِ يُوجِبُ الْقَتْلَ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:(لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ الخطاب مَا مَسِسْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ) .
وَذُكِرَ عَنْ عبد الله بن عمر أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ لَقِيتُ فِيهِ قَاتِلَ عمر مَا نَدَهْتُهُ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:(لَوْ لَقِيتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ) وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، بَلْ لَا يُحْفَظُ عَنْ تَابِعِيٍّ وَلَا صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو حنيفة وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ مالك وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن المنذر، وَاحْتُجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، ( «وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ ابن خطل، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» ) .
وَبِمَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ( «إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا بِخَرْبَةٍ» ) وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ أَتَى فِيهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا، لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ خَارِجَهُ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، إِذْ كَوْنُهُ حَرَمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِصْمَتِهِ، لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ
وَبِأَنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِفَسَادِهِ، فَلَمْ يَفْتَرِقِ الْحَالُ بَيْنَ قَتْلِهِ لَاجِئًا إِلَى الْحَرَمِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ قَدْ أَوْجَبَ مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ فِيهِ كَالْحَيَّةِ وَالْحِدَأَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» ) فَنَبَّهَ بِقَتْلِهِنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ فِسْقُهُنَّ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْتِجَاءَهُنَّ إِلَى الْحَرَمِ مَانِعًا مِنْ قَتْلِهِنَّ، وَكَذَلِكَ فَاسِقُ بَنِي آدَمَ الَّذِي قَدِ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ.
قَالَ الْأَوَّلُونَ: لَيْسَ فِي هَذَا مَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97][آلِ عِمْرَانَ: 97] ، وَهَذَا إِمَّا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِاسْتِحَالَةِ الْخُلْفِ فِي خَبَرِهِ تَعَالَى، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي حَرَمِهِ، وَإِمَّا إِخْبَارٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمَعْهُودِ الْمُسْتَمِرِّ فِي حَرَمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67][الْعَنْكَبُوتِ: 67]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57][الْقَصَصِ: 57] وَمَا عَدَا هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] مِنَ النَّارِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: كَانَ آمِنًا مِنَ الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَكَمْ مِمَّنْ دَخَلَهُ وَهُوَ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ. وَأَمَّا الْعُمُومَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَيُقَالُ أَوَّلًا: لَا تَعَرُّضَ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ لِزَمَانِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا مَكَانِهِ، كَمَا لَا تَعَرُّضَ فِيهَا لِشُرُوطِهِ وَعَدَمِ مَوَانِعِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِوَضْعِهِ وَلَا بِتَضَمُّنِهِ، فَهُوَ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَلِهَذَا إِذَا كَانَ لِلْحُكْمِ شَرْطٌ أَوْ مَانِعٌ، لَمْ يَقُلْ: إِنَّ تَوَقُّفَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ تَخْصِيصٌ لِذَلِكَ الْعَامِّ فَلَا يَقُولُ مُحَصِّلٌ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24][النِّسَاءِ: 24] مَخْصُوصٌ بِالْمَنْكُوحَةِ فِي عِدَّتِهَا، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ، فَهَكَذَا النُّصُوصُ الْعَامَّةُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، لَا تَعَرُّضَ فِيهَا لِزَمَنِهِ وَلَا مَكَانِهِ وَلَا شَرْطِهِ وَلَا مَانِعِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ
لِذَلِكَ، لَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَنْعِ، لِئَلَّا يَبْطُلَ مُوجَبُهَا، وَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى مَا عَدَاهَا كَسَائِرِ نَظَائِرِهِ، وَإِذَا خَصَّصْتُمْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ بِالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ وَالْحَالِ الْمُحَرِّمَةِ لِلِاسْتِيفَاءِ كَشِدَّةِ الْمَرَضِ أَوِ الْبَرْدِ أَوِ الْحَرِّ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَخْصِيصِهَا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا، بَلْ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِهَا، كِلْنَا لَكُمْ بِهَذَا الصَّاعِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَأَمَّا قَتْلُ ابن خطل، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الْحِلِّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ الْإِلْحَاقَ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:( «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» ) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا أُحِلَّ لَهُ سَفْكُ دَمٍ حَلَالٍ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ خَاصَّةً، إِذْ لَوْ كَانَ حَلَالًا فِي كُلِّ وَقْتٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِتِلْكَ السَّاعَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدَّمَ الْحَلَالَ فِي غَيْرِهَا حَرَامٌ فِيهَا، فِيمَا عَدَا تِلْكَ السَّاعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ( «الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا» ) فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْفَاسِقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ، يَرُدُّ بِهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَوَى لَهُ أبو شريح الكعبي هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي " الصَّحِيحِ "، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لَوْ كَانَ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ مِنْهُ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَمَنْ مَنَعَ الِاسْتِيفَاءَ نَظَرَ إِلَى عُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْعَاصِمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَمَنْ فَرَّقَ قَالَ: سَفْكُ الدَّمِ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَتْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِهِ فِي الْحَرَمِ تَحْرِيمُ مَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَعْظَمُ وَالِانْتِهَاكَ بِالْقَتْلِ أَشَدُّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَدَّ بِالْجَلْدِ أَوِ الْقَطْعِ يَجْرِي مَجْرَى التَّأْدِيبِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أبو بكر: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتُهَا لحنبل عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تُقَامُ فِي الْحَرَمِ إِلَّا الْقَتْلَ، قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، قَالُوا: وَحِينَئِذٍ فَنُجِيبُكُمْ بِالْجَوَابِ الْمُرَكَّبِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَ النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي ذَلِكَ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ بَطَلَ الْإِلْزَامُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ، سَوَّيْنَا
بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَبَطَلَ الِاعْتِرَاضُ، فَتَحَقَّقَ بُطْلَانُهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ مَنِ انْتَهَكَ فِيهِ الْحُرْمَةَ، إِذْ أَتَى فِيهِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَكَذَلِكَ اللَّاجِئُ إِلَيْهِ، فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالصَّحَابَةُ بَيْنَهُمَا، فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عبد الرزاق، حَدَّثَنَا معمر، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:(مَنْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ فِي الْحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلَّمُ وَلَا يُؤْوَى، وَلَكِنَّهُ يُنَاشَدُ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُؤْخَذَ فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ) وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:(مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ مَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) .
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَتْلِ مَنْ قَاتَلَ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191][الْبَقَرَةِ: 191] .
وَالْفَرَقُ بَيْنَ اللَّاجِئِ وَالْمُنْتَهِكِ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْجَانِيَ فِيهِ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْجِنَايَةِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَنْ جَنَى خَارِجَهُ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُعَظِّمٌ لِحُرْمَتِهِ مُسْتَشْعِرٌ بِهَا بِالْتِجَائِهِ إِلَيْهِ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بَاطِلٌ.
الثَّانِي: أَنَّ الْجَانِيَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْسِدِ الْجَانِي عَلَى بِسَاطِ الْمَلِكِ فِي دَارِهِ وَحَرَمِهِ، وَمَنْ جَنَى خَارِجَهُ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَنَى خَارِجَ بِسَاطِ السُّلْطَانِ وَحَرَمِهِ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى حَرَمِهِ مُسْتَجِيرًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَانِيَ فِي الْحَرَمِ قَدِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحُرْمَةَ بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ، فَهُوَ هَاتِكٌ لِحُرْمَتَيْنِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَمِ الْحَدُّ عَلَى الْجُنَاةِ فِي الْحَرَمِ لَعَمَّ الْفَسَادُ، وَعَظُمَ الشَّرُّ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَغَيْرِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَى صِيَانَةِ نَفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يُشْرَعِ الْحَدُّ فِي حَقِّ مَنِ ارْتَكَبَ الْجَرَائِمَ فِي الْحَرَمِ، لَتَعَطَّلَتْ حُدُودُ اللَّهِ وَعَمَّ الضَّرَرُ لِلْحَرَمِ وَأَهْلِهِ.