الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في جَوَازُ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ]
فَصْلٌ
وَفِيهَا: جَوَازُ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، كَمَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ إِلَّا بِإِحْرَامٍ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الدُّخُولُ لِحَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ، كَالْحَشَّاشِ وَالْحَطَّابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا إِلَّا بِإِحْرَامٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، وأحمد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْحَشَّاشِ وَالْحَطَّابِ، فَيَدْخُلُهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أحمد.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ، جَازَ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ لَمْ يَدْخُلْ إِلَّا بِإِحْرَامٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ أبي حنيفة، وَهَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْلُومٌ فِي الْمُجَاهِدِ، وَمُرِيدِ النُّسُكِ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا فَلَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ.
[فصل في بيان أن مكة فتحت عنوة]
فَصْلٌ
وَفِيهَا الْبَيَانُ الصَّرِيحُ بِأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ إِلَّا عَنِ الشَّافِعِيِّ وأحمد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَسِيَاقُ الْقِصَّةِ أَوْضَحُ شَاهِدٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَلَمَّا اسْتَهْجَنَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، حَكَى قَوْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي " وَسِيطِهِ "، وَقَالَ: هَذَا مَذْهَبُهُ.
قَالَ أَصْحَابُ الصُّلْحِ: لَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً، لَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَمَ خَيْبَرَ، وَكَمَا قَسَمَ سَائِرَ الْغَنَائِمِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ، فَكَانَ يُخَمِّسُهَا وَيَقْسِمُهَا، قَالُوا: وَلَمَّا اسْتَأْمَنَ أبو سفيان لِأَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمَ فَأَمَّنَهُمْ كَانَ هَذَا عَقْدَ صُلْحٍ مَعَهُمْ، قَالُوا: وَلَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَمَلَكَ الْغَانِمُونَ رِبَاعَهَا وَدُورَهَا، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
مِنْ أَهْلِهَا، وَجَازَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا، فَحَيْثُ لَمْ يَحْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِهَذَا الْحُكْمِ بَلْ لَمْ يَرُدَّ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ دُورَهُمُ الَّتِي أُخْرِجُوا مِنْهَا، وَهِيَ بِأَيْدِي الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى بَيْعِ الدُّورِ وَشِرَائِهَا وَإِجَارَتِهَا وَسُكْنَاهَا، وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهَذَا مُنَافٍ لِأَحْكَامِ فُتُوحِ الْعَنْوَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِإِضَافَةِ الدُّورِ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَ:( «مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سفيان فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ» ) .
قَالَ أَرْبَابُ الْعَنْوَةِ: لَوْ كَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَمَانِهِ الْمُقَيَّدِ بِدُخُولِ كُلِّ وَاحِدٍ دَارَهُ وَإِغْلَاقِهِ بَابَهُ وَإِلْقَائِهِ سِلَاحَهُ فَائِدَةٌ، وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَلَمَا قَتَلَ مقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا، فَإِنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ لَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَاسْتُثْنِيَ فِيهِ هَؤُلَاءِ قَطْعًا، وَلَنُقِلَ هَذَا وَهَذَا، وَلَوْ فُتِحَتْ صُلْحًا، لَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَقَدْ قَالَ:( «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ» ) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْإِذْنَ الْمُخْتَصَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ الْإِذْنُ فِي الْقِتَالِ، لَا فِي الصُّلْحِ، فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي الصُّلْحِ عَامٌّ.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ فَتْحُهَا صُلْحًا، لَمْ يَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَإِنَّهَا إِذَا فُتِحَتْ صُلْحًا، كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى حُرْمَتِهَا، وَلَمْ تَخْرُجْ بِالصُّلْحِ عَنِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، وَأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ سَاعَةِ الْحَرْبِ عَادَتْ إِلَى حُرْمَتِهَا الْأُولَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَوْ فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يُعَبِّئْ جَيْشَهُ: خَيَّالَتَهُمْ وَرَجَّالَتَهُمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَمَعَهُمُ السِّلَاحُ، وَقَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ:( «اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ "، فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا، فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ " أَتَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ "، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: " احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا "، حَتَّى قَالَ أبو سفيان: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» ) وَهَذَا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَعَ الصُّلْحِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ صُلْحٌ - وَكَلَّا - فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِدُونِ هَذَا.
وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَكُونُ صُلْحًا، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَلَمْ يَحْبِسِ اللَّهُ خَيْلَ رَسُولِهِ وَرِكَابَهُ عَنْهَا، كَمَا حَبَسَهَا يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ الصُّلْحِ حَقًّا، فَإِنَّ الْقَصْوَاءَ لَمَّا بَرَكَتْ بِهِ قَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ قَالَ: ( «مَا خَلَأَتْ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ» ) ثُمَّ قَالَ: ( «وَاللَّهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرْمَةً مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمُوهَا» ) .
وَكَذَلِكَ جَرَى عَقْدُ الصُّلْحِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ، وَمَحْضَرِ مَلَإٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، فَجَرَى مِثْلُ هَذَا الصُّلْحِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ وَلَا يُكْتَبُ وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْضُرُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُنْقَلُ كَيْفِيَّتُهُ وَالشُّرُوطُ فِيهِ، هَذَا مِنَ الْمُمْتَنِعِ الْبَيِّنِ امْتِنَاعُهُ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ ( «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ» ) كَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ قَهْرَ رَسُولِهِ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ لِأَهْلِهَا أَعْظَمُ مِنْ قَهْرِ الْفِيلِ الَّذِي كَانَ يَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً، فَحَبَسَهُ عَنْهُمْ، وَسَلَّطَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى فَتَحُوهَا عَنْوَةً بَعْدَ الْقَهْرِ وَسُلْطَانِ الْعَنْوَةِ، وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَجَلَّ قَدْرًا، وَأَعْظَمَ خَطَرًا، وَأَظْهَرَ آيَةً وَأَتَمَّ نُصْرَةً، وَأَعْلَى كَلِمَةً مِنْ أَنْ يُدْخِلَهُمْ تَحْتَ رِقِّ الصُّلْحِ، وَاقْتِرَاحِ الْعَدُوِّ وَشُرُوطِهِمْ، وَيَمْنَعُهُمْ سُلْطَانَ الْعَنْوَةِ وَعِزَّهَا وَظَفَرَهَا فِي أَعْظَمِ فَتْحٍ فَتَحَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَعَزَّ بِهِ دِينَهُ، وَجَعَلَهُ آيَةً لِلْعَالَمِينَ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهَا لَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ دَاخِلَةٌ فِي الْغَنَائِمِ الَّتِي قَسَمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْغَنَائِمِ الَّتِي تَجِبُ قِسْمَتُهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّ بلالا وَأَصْحَابَهُ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمُ الْأَرْضَ الَّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً، وَهِيَ الشَّامُ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَالُوا لَهُ خُذْ خُمُسَهَا وَاقْسِمْهَا، فَقَالَ عمر: هَذَا غَيْرُ الْمَالِ، وَلَكِنْ أَحْبِسُهُ فَيْئًا يَجْرِي عَلَيْكُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ بلال وَأَصْحَابُهُ رضي الله عنهم: اقْسِمْهَا بَيْنَنَا، فَقَالَ عمر:
(اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ) فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، ثُمَّ وَافَقَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عمر رضي الله عنه عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جَرَى فِي فُتُوحِ مِصْرَ وَالْعِرَاقِ، وَأَرْضِ فَارِسَ، وَسَائِرِ الْبِلَادِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً لَمْ يَقْسِمْ مِنْهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ قَرْيَةً وَاحِدَةً.
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ وَوَقَفَهَا بِرِضَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَأْبَى عَلَيْهِمْ، وَدَعَا عَلَى بلال وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَكَانَ الَّذِي رَآهُ وَفَعَلَهُ عَيْنَ الصَّوَابِ وَمَحْضَ التَّوْفِيقِ، إِذْ لَوْ قُسِمَتْ لَتَوَارَثَهَا وَرَثَةُ أُولَئِكَ وَأَقَارِبُهُمْ، فَكَانَتِ الْقَرْيَةُ وَالْبَلَدُ تَصِيرُ إِلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ صَبِيٍّ صَغِيرٍ، وَالْمُقَاتِلَةُ لَا شَيْءَ بِأَيْدِيهِمْ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ وَأَكْبَرُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي خَافَ عمر رضي الله عنه مِنْهُ، فَوَفَّقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِتَرْكِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا وَقْفًا عَلَى الْمُقَاتِلَةِ، تَجْرِي عَلَيْهِمْ فَيْئًا حَتَّى يَغْزُوَ مِنْهَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ، وَظَهَرَتْ بَرَكَةُ رَأْيِهِ وَيُمْنُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إِبْقَائِهَا بِلَا قِسْمَةٍ، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهَا تَخْيِيرَ مَصْلَحَةٍ، لَا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ قِسْمَتَهَا قَسَمَهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَقَفَهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ قِسْمَةَ الْبَعْضِ وَوَقْفَ الْبَعْضِ فَعَلَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، فَإِنَّهُ قَسَمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَتَرَكَ قِسْمَةَ مَكَّةَ، وَقَسَمَ بَعْضَ خَيْبَرَ، وَتَرَكَ بَعْضَهَا لِمَا يَنُوبُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ أحمد رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشِئَ الْإِمَامُ وَقْفَهَا، وَهِيَ مَذْهَبُ مالك.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ يَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا يَقْسِمُ بَيْنَهُمُ الْمَنْقُولَ، إِلَّا أَنْ يَتْرُكُوا حُقُوقَهُمْ مِنْهَا، وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَابَهَا فِيهَا بِالْخَرَاجِ، وَبَيْنَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْهَا وَيُنْفِذَ إِلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ يَضْرِبُ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ.