الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّاجِئَ إِلَى الْحَرَمِ بِمَنْزِلَةِ التَّائِبِ الْمُتَنَصِّلِ، اللَّاجِئِ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ تَعَالَى، الْمُتَعَلِّقِ بِأَسْتَارِهِ، فَلَا يُنَاسِبُ حَالُهُ وَلَا حَالُ بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ أَنْ يُهَاجَ، بِخِلَافِ الْمُقْدِمِ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، فَظَهَرَ سِرُّ الْفَرْقِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَيَوَانٌ مُفْسِدٌ، فَأُبِيحَ قَتْلُهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ طَبْعُهُ الْأَذَى، فَلَمْ يُحَرِّمْهُ الْحَرَمُ لِيَدْفَعَ أَذَاهُ عَنْ أَهْلِهِ، وَأَمَّا الْآدَمِيُّ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْحُرْمَةُ، وَحُرْمَتُهُ عَظِيمَةٌ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِعَارِضٍ، فَأَشْبَهَ الصَّائِلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُبَاحَةِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، فَإِنَّ الْحَرَمَ يَعْصِمُهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ حَاجَةَ أَهْلِ الْحَرَمِ إِلَى قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْحَيَّةِ وَالْحِدَأَةِ كَحَاجَةِ أَهْلِ الْحِلِّ سَوَاءً، فَلَوْ أَعَاذَهَا الْحَرَمُ لَعَظُمَ عَلَيْهِمُ الضَّرَرُ بِهَا.
[فصل في قَلْعُ شَجَرِ مَكَّةَ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «وَلَا يُعْضَدُ بِهَا شَجَرٌ» )، وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ:( «وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» )، وَفِي لَفْظٍ فِي " صَحِيحِ مسلم ":( «وَلَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا» ) لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الشَّجَرَ الْبَرِّيَّ الَّذِي لَمْ يُنْبِتْهُ الْآدَمِيُّ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مُرَادٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنَ الشَّجَرِ فِي الْحَرَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أحمد:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَهُ قَلْعَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابن عقيل، وأبي الخطاب، وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَلْعُهُ، وَإِنْ فَعَلَ فَفِيهِ الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابن البناء فِي " خِصَالِهِ ".
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أَنْبَتَهُ فِي الْحِلِّ ثُمَّ غَرَسَهُ فِي الْحَرَمِ، وَبَيْنَ مَا أَنْبَتَهُ فِي الْحَرَمِ أَوَّلًا، فَالْأَوَّلُ: لَا جَزَاءَ فِيهِ، وَالثَّانِي: لَا يُقْلَعُ وَفِيهِ الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي.
وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّ جِنْسَهُ كَاللَّوْزِ وَالْجَوْزِ وَالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ، وَمَا لَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّ جِنْسَهُ كَالدَّوْحِ وَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ، فَالْأَوَّلُ يَجُوزُ قَلْعُهُ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي ": وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ الشَّجَرِ كُلِّهِ، إِلَّا مَا أَنْبَتَ الْآدَمِيُّ مِنْ جِنْسِ شَجَرِهِمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَنْبَتُوهُ مِنَ الزَّرْعِ وَالْأَهْلِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّنَا إِنَّمَا أَخْرَجْنَا مِنَ الصَّيْدِ مَا كَانَ أَصْلُهُ إِنْسِيًّا دُونَ مَا تَأَنَّسَ مِنَ الْوَحْشِيِّ، كَذَا هَاهُنَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِاخْتِيَارِ هَذَا الْقَوْلِ الرَّابِعِ، فَصَارَ فِي مَذْهَبِ أحمد أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ.
وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي تَحْرِيمِ قَطْعِ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْرُمُ قَطْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي النَّاسَ بِطَبْعِهِ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أبي الخطاب وابن عقيل، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عطاء ومجاهد وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ( «لَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» ) وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ:( «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا» ) صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ تَقْصِدُ بِطَبْعِهَا الْأَذَى، وَهَذَا لَا يُؤْذِي مَنْ لَمْ يَدْنُ مِنْهُ.
وَالْحَدِيثُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، وَلَكِنْ قَدْ جَوَّزُوا قَطْعَ الْيَابِسِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ، وَعَلَى هَذَا فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْأَخْضَرَ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَنْفِيرِ الصَّيْدِ، وَلَيْسَ فِي أَخْذِ الْيَابِسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ الَّتِي تُسَبِّحُ بِحَمْدِ رَبِّهَا، وَلِهَذَا غَرَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى