الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَانَ هَدْيُهُ أَيْضًا أَلَّا يَحْبِسَ الرَّسُولَ عِنْدَهُ إِذَا اخْتَارَ دِينَهُ فَلَا يَمْنَعْهُ مِنَ اللِّحَاقِ بِقَوْمِهِ بَلْ يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: أبو رافع بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ: ( «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الْآنَ، فَارْجِعْ» ) .
قَالَ أبو داود: وَكَانَ هَذَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَأَمَّا الْيَوْمَ، فَلَا يَصْلُحُ هَذَا. انْتَهَى.
وَفِي قَوْلِهِ: ( «لَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ» ) إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالرُّسُلِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا رَدُّهُ لِمَنْ جَاءَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، فَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الشَّرْطِ، كَمَا قَالَ أبو داود، وَأَمَّا الرُّسُلُ، فَلَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِرَسُولَيْ مسيلمة وَقَدْ قَالَا لَهُ فِي وَجْهِهِ: نَشْهَدُ أَنَّ مسيلمة رَسُولُ اللَّهِ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ، أَنَّ أَعْدَاءَهُ إِذَا عَاهَدُوا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدٍ لَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، أَمْضَاهُ لَهُمْ، كَمَا عَاهَدُوا حذيفة وَأَبَاهُ الحسيل أَنْ لَا يُقَاتِلَاهُمْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم، فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُمَا:( «انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» ) .
[فصل في صُلْحُهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ قُرَيْشٍ]
فَصْلٌ
وَصَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَهُ
مِنْهُمْ مُسْلِمًا رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ لَا يَرُدُّونَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَأَبْقَاهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْتَحِنُوا مَنْ جَاءَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنْ عَلِمُوهَا مُؤْمِنَةً لَمْ يَرُدُّوهَا إِلَى الْكُفَّارِ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ مَهْرِهَا إِلَيْهِمْ لِمَا فَاتَ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ مَنْفَعَةِ بُضْعِهَا، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَى مَنِ ارْتَدَّتِ امْرَأَتُهُ إِلَيْهِمْ مَهْرَهَا إِذَا عَاقَبُوا، بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ رَدُّ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ، فَيَرُدُّونَهُ إِلَى مَنِ ارْتَدَّتِ امْرَأَتُهُ، وَلَا يَرُدُّونَهَا إِلَى زَوْجِهَا الْمُشْرِكِ، فَهَذَا هُوَ الْعِقَابُ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَذَابِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوَّمٌ، وَأَنَّهُ مُتَقَوَّمٌ بِالْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ مَا أَنْفَقَ الزَّوْجُ لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ، لَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَدُّ الْمُسْلِمَةِ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى الْكُفَّارِ وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا يَحِلُّ لَهَا نِكَاحُ الْكَافِرِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْمُهَاجِرَةَ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَآتَاهَا مَهْرَهَا، وَفِي هَذَا أَبْيَنُ دَلَالَةٍ عَلَى خُرُوجِ بُضْعِهَا مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَانْفِسَاخِ نِكَاحِهَا مِنْهُ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِسْلَامِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، كَمَا حُرِّمَ نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ.
وَهَذِهِ أَحْكَامٌ اسْتُفِيدَتْ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مَعَ مَنِ ادَّعَى نَسْخَهَا حُجَّةٌ الْبَتَّةَ فَإِنَّ الشَّرْطَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا إِلَيْهِمْ، إِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ، لَمْ تَدْخُلِ النِّسَاءُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَاللَّهُ سبحانه وتعالى خَصَّصَ مِنْهُ
رَدَّ النِّسَاءِ وَنَهَاهُمْ عَنْ رَدِّهِنَّ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ مُهُورِهِنَّ، وَأَنْ يَرُدُّوا مِنْهَا عَلَى مَنِ ارْتَدَّتِ امْرَأَتُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمَهْرَ الَّذِي أَعْطَاهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمَهُ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ مَا يُنَافِي هَذَا الْحُكْمَ، وَيَكُونُ بَعْدَهُ حَتَّى يَكُونَ نَاسِخًا.
وَلَمَّا صَالَحَهُمْ عَلَى رَدِّ الرِّجَالِ، كَانَ يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مَنْ أَتَى إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَلَا يُكْرِهُهُ عَلَى الْعَوْدِ، وَلَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَكَانَ إِذَا قَتَلَ مِنْهُمْ، أَوْ أَخَذَ مَالًا، وَقَدْ فَصَلَ عَنْ يَدِهِ، وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ لَهُمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَهْرِهِ، وَلَا فِي قَبْضَتِهِ، وَلَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقْتَضِ عَقْدُ الصُّلْحِ الْأَمَانَ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إِلَّا عَمَّنْ هُوَ تَحْتَ قَهْرِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ، كَمَا ( «ضَمِنَ لِبَنِي جَذِيمَةَ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» ) وَأَنْكَرَهُ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ.
وَلَمَّا كَانَ إِصَابَتُهُ لَهُمْ عَنْ نَوْعِ شُبْهَةٍ، إِذْ لَمْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَإِنَّمَا قَالُوا: صَبَأْنَا، فَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا صَرِيحًا، ضَمِنَهُمْ بِنِصْفِ دِيَاتِهِمْ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ وَالشُّبْهَةِ، وَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ مُجْرَى