الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة.
وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُمْ فَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْحَصْرِ الْخَاصِّ: وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّضَ ظَالِمٌ لِجَمَاعَةٍ أَوْ لِوَاحِدٍ، وَأَمَّا الْحَصْرُ الْعَامُّ: فَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ مِنَ الْحِلِّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَعْضُهَا مِنَ الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا مِنَ الْحَرَمِ، قُلْتُ: وَمُرَادُهُ أَنَّ أَطْرَافَهَا مِنَ الْحَرَمِ وَإِلَّا فَهِيَ مِنَ الْحِلِّ بِاتِّفَاقِهِمْ.
وَقدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أحمد رحمه الله فِي الْمُحْصَرِ إِذَا قَدَرَ عَلَى أَطْرَافِ الْحَرَمِ، هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْحَرَ فِيهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لَهُمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ هَدْيَهُ فِي مَوْضِعِهِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَطْرَافِ الْحَرَمِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْهَدْيَ كَانَ مَحْبُوسًا عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ، وَنُصِبَ (الْهَدْيُ) بِوُقُوعِ فِعْلِ الصَّدِّ عَلَيْهِ؛ أَيْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَصَدُّوا الْهَدْيَ عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَدَّهُمْ وَصَدَّ الْهَدْيِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ الْعَامَ وَلَمْ يَزُلْ، فَلَمْ يَصِلُوا فِيهِ إِلَى مَحِلِّ إِحْرَامِهِمْ، وَلَمْ يَصِلِ الْهَدْيُ إِلَى مَحِلِّ نَحْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ]
[أحداث غزوة مؤتة]
فَصْلٌ
فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
وَهِيَ بِأَدْنَى الْبَلْقَاءِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ الحارث بن عمير الأزدي - أَحَدَ بَنِي لِهْبٍ - بِكِتَابِهِ إِلَى الشَّامِ، إِلَى مَلِكِ الرُّومِ أَوْ بُصْرَى، فَعَرَضَ لَهُ شرحبيل بن عمرو الغساني، فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولٌ غَيْرُهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَبَعَثَ الْبُعُوثَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: " «إِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ أُصِيبَ جعفر،
فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» ".
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَلَمَّا حَضَرَ خُرُوجُهُمْ، وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ، فَبَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي حُبُّ الدُّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ بِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يَذْكُرُ فِيهَا النَّارَ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] [مَرْيَمَ: 71]، فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدَرِ بَعْدَ الْوُرُودِ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ بِالسَّلَامَةِ، وَدَفَعَ عَنْكُمْ وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً
…
وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً
…
بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يُقَالَ إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي
…
يَا أَرْشَدَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى نَزَلُوا مَعَانَ، فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّ هرقل بِالْبَلْقَاءِ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنْ لَخْمٍ، وَجُذَامَ، وَبَلْقَيْنِ، وَبَهْرَاءَ، وَبَلِيٍّ، مِائَةُ أَلْفٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ، أَقَامُوا عَلَى مَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَقَالُوا: نَكْتُبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنَا فَإِمَّا أَنْ يُمِدَّنَا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِيَ لَهُ، فَشَجَّعَ النَّاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: يَا قَوْمِ: وَاللَّهِ إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ: الشَّهَادَةُ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِهِ اللَّهُ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا ظَفَرٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ.
فَمَضَى النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِتُخُومِ الْبَلْقَاءِ، لَقِيَتْهُمُ الْجُمُوعُ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا:
مَشَارِفُ، فَدَنَا الْعَدُوُّ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مُؤْتَةَ، فَالْتَقَى النَّاسُ عِنْدَهَا، فَتَعَبَّى الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا وَالرَّايَةُ فِي يَدِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ بِهَا حَتَّى شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ، وَخَرَّ صَرِيعًا، وَأَخَذَهَا جعفر، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا أَرْهَقَهُ الْقِتَالُ، اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ جعفر أَوَّلَ مَنْ عَقَرَ فَرَسَهُ فِي الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْقِتَالِ، فَقُطِعَتْ يَمِينُهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ بِيَسَارِهِ فَقُطِعَتْ يَسَارُهُ، فَاحْتَضَنَ الرَّايَةَ، حَتَّى قُتِلَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَتَقَدَّمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ وَيَتَرَدَّدُ بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ نَزَلَ فَأَتَاهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ بِعَرَقٍ مِنْ لَحْمٍ، فَقَالَ: شُدَّ بِهَا صُلْبَكَ، فَإِنَّكَ قَدْ لَقِيتَ فِي أَيَّامِكَ هَذِهِ مَا لَقِيتَ، فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ، فَانْتَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ، وَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ ثابت بن أقرم أخو بني عجلان، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، قَالُوا: أَنْتَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَاصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ وَحَاشَ بِهِمْ، ثُمَّ انْحَازَ بِالْمُسْلِمِينَ وَانْصَرَفَ بِالنَّاسِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابن سعد أَنَّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّذِي فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، أَنَّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ عَلَى الرُّومِ.
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ كُلَّ فِئَةٍ انْحَازَتْ عَنِ الْأُخْرَى.
وَأَطْلَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: " «لَقَدْ رُفِعُوا إِلَيَّ فِي الْجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ فَرَأَيْتُ فِي
سَرِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرِ صَاحِبَيْهِ» "، فَقُلْتُ: " عَمَّ هَذَا؟ " فَقِيلَ لِي: مَضَيَا، وَتَرَدَّدَ عبد الله بَعْضَ التَّرَدُّدِ ثُمَّ مَضَى.
وَذَكَرَ عبد الرزاق عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابن جدعان، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" «مُثِّلَ لِي جعفر، وزيد، وَابْنُ رَوَاحَةَ، فِي خَيْمَةٍ مِنْ دُرٍّ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَرِيرٍ، فَرَأَيْتُ زيدا وَابْنَ رَوَاحَةَ فِي أَعْنَاقِهِمَا صُدُودٌ، وَرَأَيْتُ جعفرا مُسْتَقِيمًا، لَيْسَ فِيهِ صُدُودٌ، قَالَ: فَسَأَلْتُ أَوْ قِيلَ لِي: إِنَّهُمَا حِينَ غَشِيَهُمَا الْمَوْتُ أَعْرَضَا، أَوْ كَأَنَّهُمَا صَدَّا بِوُجُوهِهِمَا، وَأَمَّا جعفر فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ» ".
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جعفر: " «إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَهُ بِيَدَيْهِ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ» ".
قَالَ أبو عمر: وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ:"وَجَدْنَا مَا بَيْنَ صَدْرِ جعفر وَمَنْكِبَيْهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْهُ، تِسْعِينَ جِرَاحَةً مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ وَطَعْنَةٍ بِالرُّمْحِ ".
وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ: جعفر وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ،