الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَدْ عَصَمُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَقْتَضِ عَهْدُ الصُّلْحِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى مَنْ حَارَبَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ فِي قَبْضَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَحْتَ قَهْرِهِ، فَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعَاهَدِينَ إِذَا غَزَاهُمْ قَوْمٌ لَيْسُوا تَحْتَ قَهْرِ الْإِمَامِ وَفِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ رَدُّهُمْ عَنْهُمْ، وَلَا مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَيْهِمْ.
وَأَخْذُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَرْبِ، وَمَصَالِحِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَأَمْرِهِ وَأُمُورِ السِّيَاسَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ سِيَرِهِ وَمَغَازِيهِ أَوْلَى مِنْ أَخْذِهَا مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَتِلْكَ لَوْنٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فصل في الصُّلْحُ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ]
فَصْلٌ
وَكَذَلِكَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ، وَالْحَلْقَةُ، وَهِيَ السِّلَاحُ.
وَاشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ أَلَّا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا، فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَلَا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لحيي بن أخطب كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّ حيي بن أخطب، وَاسْمُهُ سعية:( «مَا فَعَلَ مَسْكُ حيي الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِيرِ؟ فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ» ) وَقَدْ كَانَ حيي قُتِلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا دَخَلَ مَعَهُمْ، فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّهُ إِلَى الزبير لِيَسْتَقِرَّهُ، فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ، فَقَالَ: قَدْ
رَأَيْتُ حييا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَاهُنَا، فَذَهَبُوا فَطَافُوا، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِي الْخَرِبَةِ، فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صفية بنت حيي بن أخطب، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنَّكْثِ الَّذِي نَكَثُوا، وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالُوا: دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَكْفُونَهُمْ مُؤْنَتَهَا، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ عَلَى أَنَّ لِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَلَهُمُ الشَّطْرُ، وَعَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا مَا شَاءَ.
وَلَمْ يَعُمَّهُمْ بِالْقَتْلِ كَمَا عَمَّ قُرَيْظَةَ لِاشْتِرَاكِ أُولَئِكَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَالَّذِينَ عَلِمُوا بِالْمَسْكِ وَغَيَّبُوهُ وَشَرَطُوا لَهُ إِنْ ظَهَرَ، فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ، فَإِنَّهُ قَتَلَهُمْ بِشَرْطِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَتَعَدَّ ذَلِكَ إِلَى سَائِرِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ جَمِيعَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِمَسْكِ حُيَيٍّ، وَأَنَّهُ مَدْفُونٌ فِي خَرِبَةٍ، فَهَذَا نَظِيرُ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ إِذَا نَقَضَ الْعَهْدَ، وَلَمْ يُمَالِئْهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّ حُكْمَ النَّقْضِ مُخْتَصٌّ بِهِ.
ثُمَّ فِي دَفْعِهِ إِلَيْهِمُ الْأَرْضَ عَلَى النِّصْفِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَكَوْنِ الشَّجَرِ نَخْلًا لَا أَثَرَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ، فَبَلَدٌ شَجَرُهُمُ الْأَعْنَابُ وَالتِّينُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الثِّمَارِ، فِي الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، حُكْمُهُ حُكْمُ بَلَدٍ شَجَرُهُمُ النَّخْلُ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ.
شَجَرُهُمُ الْأَعْنَابُ وَالتِّينُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الثِّمَارِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، حُكْمُهُ حُكْمُ بَلَدٍ شَجَرُهُمُ النَّخْلُ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ عَنِ الشَّطْرِ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ بَذْرًا الْبَتَّةَ، وَلَا كَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ بِبَذْرٍ، وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ سِيرَتِهِ؛ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُ لَوْ قِيلَ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنَ الْعَامِلِ لَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ لِمُوَافَقَتِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ خَيْبَرَ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِلِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَالَّذِينَ شَرَطُوهُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ لَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلًا أَكْثَرَ مِنْ قِيَاسِهِمُ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، قَالُوا: كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنَ الْمَالِكِ، وَالْعَمَلُ مِنَ الْمُضَارِبِ، فَهَكَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ يَكُونُ الشَّجَرُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ إِلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَهُمْ، فَإِنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ يَعُودُ رَأْسُ الْمَالِ إِلَى الْمَالِكِ، وَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ، وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ فَسَدَتْ عِنْدَهُمْ فَلَمْ يُجْرُوا الْبَذْرَ مَجْرَى رَأْسِ الْمَالِ بَلْ أَجْرَوْهُ مَجْرَى سَائِرِ الْبَقْلِ فَبَطَلَ إِلْحَاقُ الْمُزَارَعَةِ بِالْمُضَارَبَةِ عَلَى أَصْلِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبَذْرَ جَارٍ مَجْرَى الْمَاءِ وَمَجْرَى الْمَنَافِعِ، فَإِنَّ الزَّرْعَ لَا يَتَكَوَّنُ وَيَنْمُو بِهِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ السَّقْيِ وَالْعَمَلِ، وَالْبَذْرُ يَمُوتُ فِي الْأَرْضِ، وَيُنْشِئُ اللَّهُ الزَّرْعَ مِنْ أَجْزَاءٍ أُخَرَ تَكُونُ مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ وَالرِّيحِ وَالشَّمْسِ وَالتُّرَابِ وَالْعَمَلِ، فَحُكْمُ الْبَذْرِ حُكْمُ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَرْضَ نَظِيرُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ، وَقَدْ دَفَعَهَا مَالِكُهَا إِلَى الْمُزَارِعِ، وَبَذْرُهَا وَحَرْثُهَا وَسَقْيُهَا نَظِيرُ عَمَلِ الْمُضَارِبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُزَارِعُ أَوْلَى بِالْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُضَارِبِ، فَالَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِقِيَاسِ الشَّرْعِ وَأُصُولِهِ.
وَفِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، بَلْ مَا شَاءَ الْإِمَامُ، وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ الْبَتَّةَ، فَالصَّوَابُ جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ المزني، وَنَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنْ لَا يَنْهَضُ إِلَيْهِمْ وَيُحَارِبُهُمْ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ لِيَسْتَوُوا هُمْ وَهُوَ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ.
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْزِيرِ الْمُتَّهَمِ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاسَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَدُلَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَوْضِعِ الْكَنْزِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَسُنَّ لِلْأُمَّةِ عُقُوبَةَ الْمُتَّهَمِينَ، وَيُوَسِّعَ لَهُمْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ رَحْمَةً بِهِمْ، وَتَيْسِيرًا لَهُمْ.
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَفَسَادِهَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْيَةَ لَمَّا ادَّعَى نَفَادَ الْمَالِ:( «الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ» ) .
وَكَذَلِكَ فَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِالْقَرِينَةِ عَلَى تَعْيِينِ أُمِّ الطِّفْلِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ الذِّئْبُ، وَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَاخْتَصَمَتَا فِي الْآخَرِ، فَقَضَى بِهِ دَاوُدُ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ:(بِمَ قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِيُّ اللَّهِ، فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ رَحِمَكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) . فَاسْتَدَلَّ بِقَرِينَةِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ الَّتِي فِي قَلْبِهَا، وَعَدَمِ سَمَاحَتِهَا بِقَتْلِهِ، وَسَمَاحَةِ الْأُخْرَى بِذَلِكَ لِتَصِيرَ أُسْوَتَهَا فِي فَقْدِ الْوَلَدِ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ الصُّغْرَى.
فَلَوِ اتَّفَقَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي شَرِيعَتِنَا، لَقَالَ أَصْحَابُ أحمد وَالشَّافِعِيِّ
ومالك رحمهم الله: عُمِلَ فِيهَا بِالْقَافَةِ، وَجَعَلُوا الْقَافَةَ سَبَبًا لِتَرْجِيحِ الْمُدِّعِي لِلنَّسَبِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ مُسْلِمَةٌ وَكَافِرَةٌ وَلَدَيْنِ، وَادَّعَتِ الْكَافِرَةُ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا أحمد، فَتَوَقَّفَ فِيهَا. فَقِيلَ لَهُ: تَرَى الْقَافَةَ؟ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَهَا، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ، وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ بِمِثْلِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ، لَكَانَ صَوَابًا، وَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْقُرْعَةِ، فَإِنَّ الْقُرْعَةَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِذَا تَسَاوَى الْمُدَّعِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَوْ تَرَجَّحَ بِيَدٍ أَوْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ لَوْثٍ أَوْ نُكُولِ خَصْمِهِ عَنِ الْيَمِينِ، أَوْ مُوَافَقَةِ شَاهِدِ الْحَالِ لِصِدْقِهِ، كَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ قُمَاشِ الْبَيْتِ وَالْآنِيَةِ، وَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّانِعِينَ آلَاتِ صَنْعَتِهِ، وَدَعْوَى حَاسِرِ الرَّأْسِ عَنِ الْعِمَامَةِ عِمَامَةَ مَنْ بِيَدِهِ عِمَامَةٌ، وَهُوَ يَشْتَدُّ عَدْوًا، وَعَلَى رَأْسِهِ أُخْرَى، وَنَظَائِرَ ذَلِكَ، قُدِّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْقُرْعَةِ.
وَمِنْ تَرَاجِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ عَلَى قِصَّةِ سُلَيْمَانَ (هَذَا بَابُ: الْحُكْمُ يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ، لِيُسْتَعْلَمَ بِهِ الْحَقُّ) ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ لِنَتَّخِذَهَا سَمَرًا، بَلْ لِنَعْتَبِرَ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ، بَلِ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ وَتَقْدِيمِ أَيْمَانِ مُدَّعِي الْقَتْلِ هُوَ مِنْ هَذَا اسْتِنَادًا إِلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ وَمِنْ هَذَا رَجْمُ الْمُلَاعَنَةِ إِذَا الْتَعَنَ الزَّوْجُ، وَنَكَلَتْ عَنِ الِالْتِعَانِ. فالشافعي ومالك رَحِمَهُمَا اللَّهُ، يَقْتُلَانِهَا بِمُجَرَّدِ الْتِعَانِ الزَّوْجِ وَنُكُولِهَا اسْتِنَادًا إِلَى اللَّوْثِ الظَّاهِرِ الَّذِي حَصَلَ بِالْتِعَانِهِ وَنُكُولِهَا.
وَمِنْ هَذَا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَنَا مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ وَلِيَّيِ الْمَيِّتِ إِذَا اطَّلَعَا عَلَى خِيَانَةٍ
مِنَ الْوَصِيَّيْنِ جَازَ لَهُمَا أَنْ يَحْلِفَا وَيَسْتَحِقَّا مَا حَلَفَا عَلَيْهِ، وَهَذَا لَوْثٌ فِي
الْأَمْوَالِ، وَهَذَا نَظِيرُ اللَّوْثِ فِي الدِّمَاءِ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا إِذَا اطَّلَعَ الرَّجُلُ الْمَسْرُوقُ مَالُهُ عَلَى بَعْضِهِ فِي يَدِ خَائِنٍ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ بَقِيَّةَ مَالِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ السَّرِقَةِ اسْتِنَادًا إِلَى اللَّوْثِ الظَّاهِرِ، وَالْقَرَائِنِ الَّتِي تَكْشِفُ الْأَمْرَ وَتُوَضِّحُهُ، وَهُوَ نَظِيرُ حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي الْقَسَامَةِ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ: سَوَاءٌ، بَلْ أَمْرُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَدَعْوَى وَنُكُولٍ، بِخِلَافِ الدِّمَاءِ. فَإِذَا جَازَ إِثْبَاتُهَا بِاللَّوْثِ، فَإِثْبَاتُ الْأَمْوَالِ بِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَلَيْسَ مَعَ مَنِ ادَّعَى نَسْخَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةٌ أَصَلًا، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي (سُورَةِ الْمَائِدَةِ) ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ حَكَمَ بِمُوجَبِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ.
وَمِنْ هَذَا أَيْضًا مَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مِنِ اسْتِدْلَالِ الشَّاهِدِ بِقَرِينَةِ قَدِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ عَلَى صِدْقِهِ، وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ هَارِبًا مُوَلِّيًا، فَأَدْرَكَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ وَرَائِهِ فَجَبَذَتْهُ فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ، فَعَلِمَ بَعْلُهَا وَالْحَاضِرُونَ صِدْقَهُ وَقَبِلُوا هَذَا الْحُكْمَ وَجَعَلُوا الذَّنْبَ ذَنْبَهَا، وَأَمَرُوهَا بِالتَّوْبَةِ وَحَكَاهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى حِكَايَةَ مُقَرِّرٍ لَهُ غَيْرِ مُنْكِرٍ، وَالتَّأَسِّي بِذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ فِي إِقْرَارِ اللَّهِ لَهُ، وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ، لَا فِي مُجَرَّدِ حِكَايَتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ مُقِرًّا عَلَيْهِ، وَمُثْنِيًا عَلَى فَاعِلِهِ وَمَادِحًا لَهُ، دَلَّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وَأَنَّهُ
مُوَافِقٌ لِحُكْمِهِ وَمَرْضَاتِهِ، فَلْيُتَدَبَّرْ هَذَا الْمَوْضِعُ، فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَعَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ لَطَالَ، وَعَسَى أَنْ نُفْرِدَ فِيهِ مُصَنَّفًا شَافِيًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتِبَاسُ الْأَحْكَامِ مِنْ سِيرَتِهِ، وَمَغَازِيهِ، وَوَقَائِعِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ.
وَلَمَّا أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ فِي الْأَرْضِ ( «كَانَ يَبْعَثُ كُلَّ عَامٍ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمُ الثِّمَارَ، فَيَنْظُرُ: كَمْ يُجْنَى مِنْهَا، فَيُضَمِّنُهُمْ نَصِيبَ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا» ) .