الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي قُدُومِ وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]
رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيُّ: كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَرَضْتُهُ وَسَمِعْتُهُ عَلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ، فَحَدِّثْ بِذَلِكَ عَنِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري، عَنْ دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ لقيط بن عامر، قَالَ دلهم: وَحَدَّثَنِيهِ أَيْضًا أبي الأسود بن عبد الله، عَنْ عاصم بن لقيط: أَنَّ لقيط بن عامر خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.
قَالَ لقيط: فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَافَيْنَاهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: ( «أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكُمْ صَوْتِي مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، أَلَا لِتَسْمَعُوا الْيَوْمَ، أَلَا فَهَلْ مِنِ امْرِئٍ بَعَثَهُ قَوْمُهُ "؟ فَقَالُوا لَهُ: اعْلَمْ لَنَا مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَلَا ثَمَّ رَجُلٌ لَعَلَّهُ يُلْهِيهِ حَدِيثُ نَفْسِهِ، أَوْ حَدِيثُ صَاحِبِهِ، أَوْ يُلْهِيهِ ضَالٌّ، أَلَا إِنِّي مَسْئُولٌ، هَلْ بَلَّغْتُ، أَلَا اسْمَعُوا تَعِيشُوا أَلَا اجْلِسُوا " فَجَلَسَ النَّاسُ، وَقُمْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى إِذَا فَرَغَ لَنَا فُؤَادُهُ وَنَظَرُهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ؟ فَضَحِكَ لَعَمْرُ اللَّهِ. عَلِمَ أَنِّي أَبْتَغِي السَّقْطَةَ، فَقَالَ: " ضَنَّ رَبُّكَ بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا
اللَّهُ " وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " عِلْمُ الْمَنِيَّةِ، قَدْ عَلِمَ مَتَى مَنِيَّةُ أَحَدِكُمْ وَلَا تَعْلَمُونَهُ، وَعِلْمُ الْمَنِيِّ حِينَ يَكُونُ فِي الرَّحِمِ قَدْ عَلِمَهُ وَمَا تَعْلَمُونَهُ، وَعِلْمُ مَا فِي غَدٍ قَدْ عَلِمَ مَا أَنْتَ طَاعِمٌ وَلَا تَعْلَمُهُ، وَعِلْمُ يَوْمِ الْغَيْثِ يُشْرِفُ عَلَيْكُمْ أَزِلِينَ مُشْفِقِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ غَوْثَكُمْ إِلَى قَرِيبٍ " قَالَ لقيط: فَقُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: " وَعِلْمُ يَوْمِ السَّاعَةِ " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا تُعَلِّمُ النَّاسَ وَتَعْلَمُ، فَإِنَّا مِنْ قَبِيلٍ لَا يُصَدِّقُونَ تَصْدِيقَنَا أَحَدًا مِنْ مَذْحِجٍ الَّتِي تَرْبُو عَلَيْنَا، وَخَثْعَمَ الَّتِي تُوَالِينَا، وَعَشِيرَتِنَا الَّتِي نَحْنُ مِنْهَا، قَالَ:" تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ، ثُمَّ يُتَوَفَّى نَبِيُّكُمْ، ثُمَّ تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ، ثُمَّ تُبْعَثُ الصَّائِحَةُ، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا شَيْئًا إِلَّا مَاتَ، وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ مَعَ رَبِّكَ، فَأَصْبَحَ رَبُّكَ عز وجل يَطُوفُ فِي الْأَرْضِ وَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبِلَادُ، فَأَرْسَلَ رَبُّكَ السَّمَاءَ تَهْضِبُ مِنْ عِنْدِ الْعَرْشِ، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ مَصْرَعِ قَتِيلٍ، وَلَا مَدْفِنِ مَيِّتٍ إِلَّا شَقَّتِ الْقَبْرَ عَنْهُ، حَتَى تَخْلُفَهُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَيَسْتَوِيَ جَالِسًا، فَيَقُولُ رَبُّكَ: مَهْيَمْ، لِمَا كَانَ فِيهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَمْسِ، الْيَوْمَ، لِعَهْدِهِ بِالْحَيَاةِ يَحْسَبُهُ حَدِيثًا بِأَهْلِهِ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ يَجْمَعُنَا بَعْدَ مَا تُمَزِّقُنَا الرِّيَاحُ وَالْبِلَى وَالسِّبَاعُ؟ قَالَ: " أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ، الْأَرْضُ أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي مَدَرَةٍ بَالِيَةٍ " فَقُلْتَ: لَا تَحْيَا أَبَدًا، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا السَّمَاءَ، فَلَمْ تَلْبَثْ عَلَيْكَ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ شَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَعَمْرُ إِلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَكُمْ مِنَ الْمَاءِ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ نَبَاتَ الْأَرْضِ فَتَخْرُجُونَ مِنَ الْأَصْوَاءِ، وَمِنْ مَصَارِعِكُمْ، فَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ "
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ، وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَنَنْظُرُ إِلَيْهِ؟ قَالَ:" أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ هَذَا فِي آلَاءِ اللَّهِ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهُمَا وَيَرَيَانِكُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا " وَلَعَمْرُ إِلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَرَاكُمْ وَتَرَوْنَهُ مِنْ أَنْ تَرَوْا نُورَهُمَا وَيَرَيَانِكُمْ، لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا يَفْعَلُ بِنَا رَبُّنَا إِذَا لَقِينَاهُ؟ قَالَ: " تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةً لَهُ صَفَحَاتُكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ،
فَيَأْخُذُ رَبُّكَ عز وجل بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَيَنْضَحُ بِهَا قِبَلَكُمْ، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا يُخْطِئُ وَجْهَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْهَا قَطْرَةٌ.
فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَنْضَحُهُ، أَوْ قَالَ: فَتَخْطِمُهُ بِمِثْلِ الْحُمَمِ الْأَسْوَدِ، أَلَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ وَيَفْتَرِقُ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ فَيَسْلُكُونَ جِسْرًا مِنَ النَّارِ، يَطَأُ أَحَدُكُمُ الْجَمْرَةَ، يَقُولُ: حَسِّ، يَقُولُ رَبُّكَ عز وجل، أَوْ أَنَّهُ؛ أَلَا فَتَطِّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيِّكُمْ عَلَى أَظْمَأَ - وَاللَّهِ - نَاهِلَةً عَلَيْهَا قَطُّ رَأَيْتُهَا، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا يَبْسُطُ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدَهُ إِلَّا وَقَعَ عَلَيْهَا قَدَحٌ يُطَهِّرُهُ مِنَ الطَّوْفِ وَالْبَوْلِ وَالْأَذَى، وَتُخْنِسُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَلَا تَرَوْنَ مِنْهُمَا وَاحِدًا ". قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ نُبْصِرُ؟ قَالَ: " بِمِثْلِ بَصَرِكَ سَاعَتَكَ هَذِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَوَاجَهَتْ بِهِ الْجِبَالَ " قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ نُجْزَى مِنْ سَيِّئَاتِنَا وَحَسَنَاتِنَا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ " قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْجَنَّةُ وَمَا النَّارُ؟ قَالَ: " لَعَمْرُ إِلَهِكَ إِنَّ النَّارَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مَا مِنْهَا بَابَانِ إِلَّا يَسِيرُ الرَّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَامًا، وَإِنَّ الْجَنَّةَ لَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مَا مِنْهَا بَابَانِ إِلَّا يَسِيرُ الرَّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَامًا ".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَامَ نَطَّلِعُ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " عَلَى أَنْهَارٍ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ، وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ مَا يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ، وَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ وَخَيْرٌ مِنْ مِثْلِهِ مَعَهُ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَنَا فِيهَا أَزْوَاجٌ أَوْ مِنْهُنَّ مُصْلِحَاتٌ؟ قَالَ الْمُصْلِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ ".
وَفِي لَفْظٍ الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ تَلَذُّونَهُنَّ وَيَلَذُّونَكُمْ مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ " قَالَ لقيط فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْصَى مَا نَحْنُ بَالِغُونَ وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ أُبَايِعُكَ؟ فَبَسَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ وَقَالَ: " عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَزِيَالِ الْمُشْرِكِ، وَأَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ " قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ وَظَنَّ أَنِّي مُشْتَرِطٌ مَا لَا يُعْطِينِيهِ، قَالَ: قُلْتُ نَحِلُّ مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا وَلَا يَجْنِي امْرُؤٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَبَسَطَ يَدَهُ.
وَقَالَ: " لَكَ ذَلِكَ تَحِلُّ حَيْثُ شِئْتَ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ إِلَّا نَفْسُكَ " قَالَ: فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: " هَا إِنَّ ذَيْنَ هَا إِنَّ ذَيْنَ - مَرَّتَيْنِ - لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَنْ أَتْقَى النَّاسِ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ " فَقَالَ لَهُ كعب بن الخدرية - أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ -: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " بَنُو الْمُنْتَفِقِ بَنُو الْمُنْتَفِقِ بَنُو الْمُنْتَفِقِ، أَهْلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ "، قَالَ: فَانْصَرَفْنَا وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى مِنْ خَيْرٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقَ لَفِي النَّارِ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِ وَجْهِي وَلَحْمِهِ مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: وَأَبُوكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ثُمَّ إِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَهْلُكَ؟ قَالَ: " وَأَهْلِي لَعَمْرُ اللَّهِ حَيْثُ مَا أَتَيْتَ عَلَى قَبْرِ عَامِرِيٍّ، أَوْ قُرَشِيٍّ مِنْ مُشْرِكٍ قُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ، فَأُبَشِّرُكَ بِمَا يَسُوءُكَ، تُجَرُّ عَلَى وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النَّارِ ".
قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لَا يُحْسِنُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِي آخِرِ كُلِّ سَبْعِ أُمَمٍ نَبِيًّا فَمَنْ عَصَى نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَمَنْ أَطَاعَ نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ» ) .
هَذَا حَدِيثٌ كَبِيرٌ جَلِيلٌ تُنَادِي جَلَالَتُهُ وَفَخَامَتُهُ وَعَظَمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، رَوَاهُ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ، وَهُمَا مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ، ثِقَتَانِ مُحْتَجٌّ بِهِمَا فِي الصَّحِيحِ، احْتَجَّ بِهِمَا إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَقَابَلُوهُ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيهِ وَلَا فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهِ.
فَمِمَّنْ رَوَاهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْإِمَامِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ وَفِي كِتَابِ " السُّنَّةِ "، وَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيُّ: كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَرَضْتُهُ وَسَمِعْتُهُ عَلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ، فَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي.
وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " لَهُ.
وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْعَسَّالُ فِي كِتَابِ " الْمَعْرِفَةِ ".
وَمِنْهُمْ حَافِظُ زَمَانِهِ وَمُحَدِّثُ أَوَانِهِ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِ.
وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ ".
وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، حَافِظُ أَصْبَهَانَ.
وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مِرْدَوَيْهِ.
وَمِنْهُمْ حَافِظُ عَصْرِهِ أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ سِوَاهُمْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ.
وَقَالَ ابن منده رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعِرَاقِ بِمَجْمَعِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وأبو حاتم، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يُتَكَلَّمْ فِي إِسْنَادِهِ، بَلْ رَوَوْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلَا يُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا جَاحِدٌ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هَذَا كَلَامُ أبي عبد الله بن منده.
وَقَوْلِهِ: تَهْضِبُ أَيْ تُمْطِرُ. وَالْأَصْوَاءُ: الْقُبُورُ. وَالشَّرْبَةُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ -: الْحَوْضُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ وَبِالسُّكُونِ وَالْيَاءِ الْحَنْظَلَةُ يُرِيدُ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ كَثُرَ فَمِنْ حَيْثُ شِئْتَ تَشْرَبُ. وَعَلَى رِوَايَةِ السُّكُونِ وَالْيَاءِ يَكُونُ قَدْ شَبَّهَ الْأَرْضَ بِخُضْرَتِهَا بِالنَّبَاتِ بِخُضْرَةِ الْحَنْظَلَةِ وَاسْتِوَائِهَا.
وَقَوْلُهُ: حِسِّ، كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْإِنْسَانُ إِذَا أَصَابَهُ عَلَى غَفْلَةٍ مَا يُحْرِقُهُ أَوْ يُؤْلِمُهُ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَهِيَ مِثْلُ أَوَّهْ. وَقَوْلُهُ يَقُولُ رَبُّكَ عز وجل " أَوْ أَنَّهُ ". قَالَ ابن قتيبة فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ " أَنَّهُ " بِمَعْنَى " نَعَمْ ". وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتُمْ كَذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ عَلَى مَا يَقُولُ. وَالطَّوْفُ الْغَائِطُ.
وَفِي الْحَدِيثِ ( «لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الطَّوْفَ وَالْبَوْلَ» ) وَالْجِسْرُ الصِّرَاطُ. وَقَوْلُهُ " فَيَقُولُ رَبُّكَ. مَهْيَمْ ": أَيْ ( «مَا شَأْنُكَ وَمَا أَمْرُكَ وَفِيمَ كُنْتَ» ) . وَقَوْلُهُ " يُشْرِفُ عَلَيْكُمْ أَزِلِينَ ": الْأَزْلُ - بِسُكُونِ الزَّايِ - الشِّدَّةُ وَالْأَزِلُ عَلَى وَزْنِ كَتِفٍ هُوَ الَّذِي قَدْ أَصَابَهُ الْأَزْلُ وَاشْتَدَّ بِهِ حَتَّى كَادَ يَقْنَطُ.
وَقَوْلُهُ " فَيَظَلُّ يَضْحَكُ " هُوَ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ سبحانه وتعالى الَّتِي لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَصِفَاتِ ذَاتِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّهَا، كَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى تَشْبِيهِهَا وَتَحْرِيفِهَا وَكَذَلِكَ " فَأَصْبَحَ رَبُّكَ يَطُوفُ فِي الْأَرْضِ " هُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ كَقَوْلِهِ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]( «وَيَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» ) ، ( «وَيَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ الْمَلَائِكَةَ» ) ، وَالْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ صِرَاطٌ وَاحِدٌ مُسْتَقِيمٌ إِثْبَاتٌ بِلَا تَمْثِيلٍ وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.
وَقَوْلُهُ " وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ": لَا أَعْلَمُ مَوْتَ الْمَلَائِكَةِ جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَرِيحٍ إِلَّا هَذَا وَحَدِيثِ إسماعيل بن رافع الطويل وَهُوَ حَدِيثُ الصُّورِ
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68][الزُّمَرِ 68] .
وَقَوْلِهِ ( «فَلَعُمْرُ إِلَهِكَ» ) هُوَ قَسَمٌ بِحَيَاةِ الرَّبِّ جل جلاله وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِقْسَامِ بِصِفَاتِهِ وَانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا، وَأَنَّهَا قَدِيمَةٌ وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَسْمَاءُ الْمَصَادِرِ، وَيُوصَفُ بِهَا، وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَسْمَاءِ، وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى مُشْتَقَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَادِرِ دَالَّةٌ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ ( «ثُمَّ تَجِيءُ الصَّائِحَةُ» ) هِيَ صَيْحَةُ الْبَعْثِ وَنَفْخَتُهُ.
وَقَوْلُهُ ( «حَتَّى يَخْلُفَهُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ» ) هُوَ مِنْ أَخْلَفَ الزَّرْعُ إِذَا نَبَتَ بَعْدَ حَصَادِهِ شَبَّهَ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِإِخْلَافِ الزَّرْعِ بَعْدَ مَا حُصِدَ، وَتِلْكَ الْخِلْفَةُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ.
وَقَوْلُهُ (فَيَسْتَوِي جَالِسًا) هَذَا عِنْدَ تَمَامِ خِلْقَتِهِ وَكَمَالِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَ جُلُوسِهِ قَائِمًا، ثُمَّ يُسَاقُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِمَّا رَاكِبًا وَإِمَّا مَاشِيًا.
وَقَوْلُهُ ( «يَقُولُ: يَا رَبِّ أَمْسِ، الْيَوْمَ» ) اسْتِقْلَالٌ لِمُدَّةِ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ، كَأَنَّهُ لَبِثَ فِيهَا يَوْمًا، فَقَالَ: أَمْسِ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَقَالَ: الْيَوْمَ يَحْسَبُ أَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِأَهْلِهِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا فَارَقَهُمْ أَمْسِ أَوِ الْيَوْمَ.
وَقَوْلُهُ ( «كَيْفَ يَجْمَعُنَا بَعْدَ مَا تَمْرُقُنَا الرِّيَاحُ وَالْبِلَى وَالسِّبَاعِ» ) وَإِقْرَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا يَخُوضُونَ فِي دَقَائِقِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُونَ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ، بَلْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْعَمَلِيَّاتِ، وَأَنَّ أَفْرَاخَ الصَّابِئَةِ وَالْمَجُوسِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَعْرَفُ مِنْهُمْ بِالْعِلْمِيَّاتِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَسْئِلَةِ وَالشُّبُهَاتِ، فَيُجِيبُهُمْ عَنْهَا بِمَا يُثْلِجُ صُدُورَهُمْ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الْأَسْئِلَةَ أَعْدَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ، أَعْدَاؤُهُ لِلتَّعَنُّتِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَأَصْحَابُهُ: لِلْفَهْمِ وَالْبَيَانِ وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ يُجِيبُ كُلًّا عَنْ سُؤَالِهِ إِلَّا مَا لَا جَوَابَ عَنْهُ كَسُؤَالِهِ عَنْ وَقْتِ
السَّاعَةِ، وَفِي هَذَا السُّؤَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ أَجْزَاءَ الْعَبْدِ بَعْدَمَا فَرَّقَهَا وَيُنْشِئُهَا نَشْأَةً أُخْرَى، وَيَخْلُقُهُ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا سَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ، كَذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ:" أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ " آلَاؤُهُ: نِعَمُهُ وَآيَاتُهُ الَّتِي تَعَرَّفَ بِهَا إِلَى عِبَادِهِ.
وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقِيَاسِ فِي أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ.
وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ فَكَيْفَ تَعْجِزُ قُدْرَتُهُ عَنْ نَظِيرِهِ وَمِثْلِهِ؟ فَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَدِلَّةَ الْمَعَادِ فِي كِتَابِهِ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَأَبْيَنَهُ وَأَبْلَغَهُ وَأَوْصَلَهُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، فَأَبَى أَعْدَاؤُهُ الْجَاحِدُونَ إِلَّا تَكْذِيبًا لَهُ وَتَعْجِيزًا لَهُ، وَطَعْنًا فِي حِكْمَتِهِ، تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ ( «أَشْرَفْتُ عَلَيْهَا وَهِيَ مَدَرَةٌ بَالِيَةٌ» ) هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19][الرُّومِ: 19] . وَقَوْلِهِ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39][فُصِّلَتْ 39] وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ ( «فَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ» ) فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ النَّظَرِ لِلَّهِ عز وجل، وَإِثْبَاتُ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ " كَيْفَ وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ " قَدْ جَاءَ هَذَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَفِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ( «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ» ) وَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا قَوْمٌ عَرَبٌ يَعْلَمُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ تَشْبِيهُهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَشْخَاصِ، بَلْ هُمْ أَشْرَفُ عُقُولًا وَأَصَحُّ أَذْهَانًا، وَأَسْلَمُ قُلُوبًا مِنْ ذَلِكَ، وَحَقَّقَ صلى الله عليه وسلم وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ عِيَانًا بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تَحْقِيقًا لَهَا، وَنَفْيًا لِتَوَهُّمِ الْمَجَازِ الَّذِي يَظُنُّهُ الْمُعَطِّلُونَ.
وَقَوْلُهُ ( «فَيَأْخُذُ رَبُّكَ بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنَ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ بِهَا قِبَلَكُمْ» ) فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ
الْيَدِ لَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ وَإِثْبَاتُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ النَّضْحُ. وَالرَّيْطَةُ: الْمُلَاءَةُ. وَالْحُمَمُ: جَمْعُ حُمَمَةٍ وَهِيَ الْفَحْمَةُ.
وَقَوْلُهُ ( «ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيِّكُمْ» ) هَذَا انْصِرَافٌ مِنْ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُهُ ( «وَيَفْرُقُ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ» ) أَيْ يَفْزَعُونَ وَيَمْضُونَ عَلَى أَثَرِهِ.
وَقَوْلُهُ ( «فَتَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيِّكُمْ» ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْحَوْضَ مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ فَكَأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْطَعُوا الْجِسْرَ، وَلِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا القرطبي فِي " تَذْكِرَتِهِ " وَالْغَزَالِيُّ وَغَلَّطَا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ الْجِسْرِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ عَلَى الْحَوْضِ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلُمَّ، فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، فَلَا أَرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ» ) .
قَالَ: فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحِّتِهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْحَوْضَ يَكُونُ فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ؛ لِأَنَّ الصِّرَاطَ إِنَّمَا هُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ، فَمَنْ جَازَهُ سَلِمَ مِنَ النَّارِ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ بَيْنَ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعَارُضٌ وَلَا تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ وَحَدِيثُهُ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْحَوْضَ لَا يُرَى وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ الصِّرَاطِ، فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَغَيْرُهُ يَرُدُّ قَوْلَهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَازُوا الصِّرَاطَ وَقَطَعُوهُ بَدَا لَهُمُ الْحَوْضُ فَشَرِبُوا مِنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ لقيط هَذَا، وَهُوَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ قَبْلَ الصِّرَاطِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، فَإِذَا كَانَ بِهَذَا الطُّولِ وَالسَّعَةِ، فَمَا الَّذِي يُحِيلُ امْتِدَادَهُ إِلَى وَرَاءِ الْجِسْرِ، فَيَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَبَعْدَهُ، فَهَذَا فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ، وَوُقُوعُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ ( «- وَاللَّهِ عَلَى أَظْمَأَ - نَاهِلَةٍ قَطُّ» ) النَّاهِلَةُ الْعِطَاشُ الْوَارِدُونَ
الْمَاءَ أَيْ يَرِدُونَهُ أَظْمَأَ مَا هُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الصِّرَاطِ، فَإِنَّهُ جِسْرُ النَّارِ وَقَدْ وَرَدُوهَا كُلُّهُمْ، فَلَمَّا قَطَعُوهُ اشْتَدَّ ظَمَؤُهُمْ إِلَى الْمَاءِ فَوَرَدُوا حَوْضَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَرَدُوهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ ( «تَخْنِسُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» ) أَيْ تَخْتَفِيَانِ فَتَحْتَبِسَانِ وَلَا يُرَيَانِ. وَالِاخْتِنَاسُ التَّوَارِي وَالِاخْتِفَاءُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ ( «مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا» ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا بَيْنَ الْبَابِ وَالْبَابِ هَذَا الْمِقْدَارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبَابَيْنِ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا جَاءَ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ رَاوِيهِ بِالرَّفْعِ بَلْ قَالَ: وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَسَافَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سُرْعَةِ السَّيْرِ فِيهَا وَبُطْئِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ ( «فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ» ) تَعْرِيضٌ بِخَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا يَلْحَقُهَا مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ، وَالنَّدَامَةِ عَلَى ذَهَابِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ، وَحُصُولِ الشَّرِّ الَّذِي يُوجِبُهُ زَوَالُ الْعَقْلِ. وَالْمَاءُ غَيْرُ الْآسِنِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِطُولِ مُكْثِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ) قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ، هَلْ تَلِدُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَكُونُ فِيهَا حَبَلٌ وَلَا وِلَادَةٌ، وَاحْتَجَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِحَدِيثٍ آخَرَ أَظُنُّهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَفِيهِ:( «غَيْرَ أَنْ لَا مَنِيَّ وَلَا مَنِيَّةَ» ) وَأَثْبَتَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ الْوِلَادَةَ فِي
الْجَنَّةِ، وَاحْتَجَّتْ بِمَا رَوَاهُ الترمذي فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ أبي الصديق الناجي عَنْ أبي سعيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي» ) قَالَ الترمذي حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
قَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْوِلَادَةِ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ، فَقَالَ: إِذَا اشْتَهَى وَلَكِنَّهُ لَا يَشْتَهِي، وَهَذَا تَأْوِيلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. قَالُوا: وَالْجَنَّةُ دَارُ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الْجَزَاءِ، قَالُوا: وَالْجَنَّةُ دَارُ خُلُودٍ لَا مَوْتَ فِيهَا، فَلَوْ تَوَالَدَ فِيهَا أَهْلُهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالْأَبَدِ لَمَا وَسِعَتْهُمْ، وَإِنَّمَا وَسِعَتْهُمُ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ.
وَأَجَابَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَتْ " إِذًا " إِنَّمَا تَكُونُ لِمُحَقِّقِ الْوُقُوعِ لَا الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا يُسْكِنُهُمْ إِيَّاهَا بِلَا عَمَلٍ مِنْهُمْ، قَالُوا: وَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِيهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سِعَتِهَا: فَلَوْ رُزِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنَ الْوَلَدِ وَسِعَتْهُمْ، فَإِنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْ يَنْظُرُ فِي مِلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ عَامٍ.
وَقَوْلُهُ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْصَى مَا نَحْنُ بَالِغُونَ وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ» ) لَا جَوَابَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَقْصَى مُدَّةِ الدُّنْيَا وَانْتِهَائِهَا فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَقْصَى مَا نَحْنُ مُنْتَهُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الِانْتِهَاءُ إِلَى نَعِيمٍ وَجَحِيمٍ وَلِهَذَا لَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَوْلُهُ فِي عَقْدِ الْبَيْعَةِ ( «وَزِيَالِ الْمُشْرِكِ» ) أَيْ مُفَارَقَتُهُ وَمُعَادَاتُهُ فَلَا