الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا جَمْعًا كَثِيرًا يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَهِيَ مِنْ دِمَشْقَ عَلَى خَمْسِ لَيَالٍ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سباع بن عرفطة الغفاري، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ مَذْكُورٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ إذَا هُمْ مُغَرِّبُونَ، وَإِذَا آثَارُ النَّعَمِ وَالشَّاءِ، فَهَجَمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرُعَاتِهِمْ، فَأَصَابَ مَنْ أَصَابَ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ، وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَتَفَرَّقُوا وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَاحَتِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا أَحَدًا، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا وَبَثَّ السَّرَايَا، وَفَرَّقَ الْجُيُوشَ، فَلَمْ يُصِبْ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَادَعَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ عيينة بن حصن.
[فَصْلٌ فِي
غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ]
[غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ]
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ
وَكَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَسَبَبُهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ
أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ سَارَ فِي قَوْمِهِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَرَبِ يُرِيدُونَ حَرْبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيَّ يَعْلَمُ لَهُ ذَلِكَ، فَأَتَاهُمْ وَلَقِيَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ، وَكَلَّمَهُ وَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَأَسْرَعُوا فِي الْخُرُوجِ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَبْلَهَا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقِيلَ: أبا ذر، وَقِيلَ: نميلة بن عبد الله الليثي، وَخَرَجَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ، وَبَلَغَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ، وَمَنْ مَعَهُ مَسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَتْلُهُ عَيْنَهُ الَّذِي كَانَ وَجَّهَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِ، وَخَبَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَفَرَّقَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَانْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُرَيْسِيعِ، وَهُوَ مَكَانُ الْمَاءِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ قُبَّتَهُ، وَمَعَهُ عائشة وأم سلمة، فَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، وَصَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، وَرَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَكَانَتِ النُّصْرَةُ، وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ وَالذَّرَارِي وَالنَّعَمَ وَالشَّاءَ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، هَكَذَا قَالَ عبد المؤمن بن خلف فِي " سِيرَتِهِ " وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا أَغَارَ عَلَيْهِمْ عَلَى الْمَاءِ، فَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ كَمَا فِي
" الصَّحِيحِ: ( «أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُونَ» ) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. . . ".
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ السَّبْيِ جويرية بنت الحارث سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَكَاتَبَهَا، فَأَدَّى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَزَوَّجَهَا، فَأَعْتَقَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ هَذَا التَّزْوِيجِ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مَنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ أَسْلَمُوا، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابن سعد: وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ سَقَطَ عِقْدٌ لعائشة فَاحْتَبَسُوا عَلَى طَلَبِهِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ.
وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ محمد بن إسحاق عَنْ يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة قَالَتْ: ( «وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِقْدِي مَا كَانَ، قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ أُخْرَى، فَسَقَطَ أَيْضًا عِقْدِي حَتَّى حَبَسَ الْتِمَاسُهُ النَّاسَ، وَلَقِيتُ مِنْ أبي بكر مَا شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّةُ فِي كُلِّ سَفَرٍ تَكُونِينَ عَنَاءً وَبَلَاءً، وَلَيْسَ مَعَ النَّاسِ مَاءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ فِي التَّيَمُّمِ» ) ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ الْعِقْدِ الَّتِي نَزَلَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهَا بَعْدَ
هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ فِيهَا كَانَتْ قِصَّةُ الْإِفْكِ بِسَبَبِ فَقْدِ الْعِقْدِ وَالْتِمَاسِهِ، فَالْتَبَسَ عَلَى بَعْضِهِمْ إحْدَى الْقِصَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ الْإِفْكِ.
وَذَلِكَ أَنَّ عائشة رضي الله عنها كَانَتْ قَدْ خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِقُرْعَةٍ أَصَابَتْهَا، وَكَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ مَعَ نِسَائِهِ، فَلَمَّا رَجَعُوا مِنَ الْغَزْوَةِ نَزَلُوا فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ فَخَرَجَتْ عائشة لِحَاجَتِهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَفَقَدَتْ عِقْدًا لِأُخْتِهَا كَانَتْ أَعَارَتْهَا إِيَّاهُ، فَرَجَعَتْ تَلْتَمِسُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَقَدَتْهُ فِيهِ، فَجَاءَ النَّفَرُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونَ هَوْدَجَهَا، فَظَنُّوهَا فِيهِ، فَحَمَلُوا الْهَوْدَجَ وَلَا يُنْكِرُونَ خِفَّتَهُ، لِأَنَّهَا رضي الله عنها كَانَتْ فَتِيَّةَ السِّنِّ لَمْ يَغْشَهَا اللَّحْمُ الَّذِي كَانَ يُثْقِلُهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ النّفَرَ لَمَّا تَسَاعَدُوا عَلَى حَمْلِ الْهَوْدَجِ لَمْ يُنْكِرُوا خِفَّتَهُ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَمَلَهُ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمَا الْحَالُ، فَرَجَعَتْ عائشة إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَقَدْ أَصَابَتِ الْعِقْدَ، فَإِذَا لَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَقَعَدَتْ فِي الْمَنْزِلِ، وَظَنَّتْ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَهَا، فَيَرْجِعُونَ فِي طَلَبِهَا، واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَوْقَ عَرْشِهِ كَمَا يَشَاءُ، فَغَلَبَتْهَا عَيْنَاهَا، فَنَامَتْ، فَلَمْ تَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ:( «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» )، وَكَانَ صفوان قَدْ عَرَّسَ فِي أُخْرَيَاتِ الْجَيْشِ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ النَّوْمِ كَمَا جَاءَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِ أبي حاتم ". وَفِي " السُّنَنِ ":
فَلَمَّا رَآهَا عَرَفَهَا، وَكَانَ يَرَاهَا قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، فَاسْتَرْجَعَ، وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَقَرَّبَهَا إِلَيْهَا، فَرَكِبَتْهَا وَمَا كَلَّمَهَا كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا اسْتِرْجَاعَهُ، ثُمَّ سَارَ بِهَا يَقُودُهَا حَتَّى قَدِمَ بِهَا، وَقَدْ نَزَلَ الْجَيْشُ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ تَكَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِشَاكِلَتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَوَجَدَ الْخَبِيثُ عَدُوُّ اللَّهِ ابْنُ أُبَيٍّ مُتَنَفَّسًا، فَتَنَفَّسَ مِنْ كَرْبِ النِّفَاقِ وَالْحَسَدِ الَّذِي بَيْنَ ضُلُوعِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَحْكِي الْإِفْكَ وَيَسْتَوْشِيهِ، وَيُشِيعُهُ وَيُذِيعُهُ، وَيَجْمَعُهُ وَيُفَرِّقُهُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَفَاضَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الْحَدِيثِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي فِرَاقِهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ علي رضي الله عنه أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَأْخُذَ غَيْرَهَا تَلْوِيحًا لَا تَصْرِيحًا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أسامة وَغَيْرُهُ بِإِمْسَاكِهَا وَأَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَى كَلَامِ الْأَعْدَاءِ، فعلي لَمَّا رَأَى أَنَّ مَا قِيلَ مَشْكُوكٌ فِيهِ أَشَارَ بِتَرْكِ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ إِلَى الْيَقِينِ لِيَتَخَلَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، فَأَشَارَ بِحَسْمِ الدَّاءِ، وأسامة لَمَّا عَلِمَ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا وَلِأَبِيهَا وَعَلِمَ مِنْ عِفَّتِهَا وَبَرَاءَتِهَا وَحَصَانَتِهَا وَدِيَانَتِهَا مَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ مِنْهُ، وَعَرَفَ مِنْ كَرَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَبِّهِ، وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَدِفَاعِهِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ رَبَّةَ بَيْتِهِ وَحَبِيبَتَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَبِنْتَ صِدِّيقِهِ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا بِهِ أَرْبَابُ الْإِفْكِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْرَمُ عَلَى رَبِّهِ وَأَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ امْرَأَةً بَغِيًّا، وَعَلِمَ أَنَّ الصِّدِّيقَةَ حَبِيبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْرَمُ عَلَى رَبِّهَا مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَهِيَ تَحْتَ رَسُولِهِ، وَمَنْ قَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ لِرَسُولِهِ، وَقَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ قَالَ كَمَا قَالَ أبو أيوب وَغَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16][النُّورِ: 16] .
وَتَأَمَّلْ مَا فِي تَسْبِيحِهِمْ لِلَّهِ وَتَنْزِيهِهِمْ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لِرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ امْرَأَةً خَبِيثَةً بَغِيًّا، فَمَنْ ظَنَّ بِهِ سُبْحَانَهُ هَذَا الظَّنَّ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَعَرَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْخَبِيثَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمِثْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26][النُّورِ: 26] ، فَقَطَعُوا قَطْعًا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ أَنَّ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَفِرْيَةٌ ظَاهِرَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَقَّفَ فِي أَمْرِهَا، وَسَأَلَ عَنْهَا وَبَحَثَ وَاسْتَشَارَ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَبِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ وَبِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَهَلَّا قَالَ:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] كَمَا قَالَهُ فُضَلَاءُ الصَّحَابَةِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ سَبَبًا لَهَا، وَامْتِحَانًا وَابْتِلَاءً لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَرْفَعَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَقْوَامًا وَيَضَعَ بِهَا آخَرِينَ، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَإِيمَانًا، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا، وَاقْتَضَى تَمَامُ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ أَنْ حُبِسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ شَهْرًا فِي شَأْنِهَا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِتَتِمَّ حِكْمَتُهُ الَّتِي قَدَّرَهَا وَقَضَاهَا، وَتَظْهَرَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ إِيمَانًا وَثَبَاتًا عَلَى الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَزْدَادَ الْمُنَافِقُونَ إِفْكًا وَنِفَاقًا، وَيُظْهِرَ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ سَرَائِرَهُمْ، وَلِتَتِمَّ الْعُبُودِيَّةُ الْمُرَادَةُ مِنَ الصِّدِّيقَةِ وَأَبَوَيْهَا، وَتَتِمَّ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلِتَشْتَدَّ الْفَاقَةُ وَالرَّغْبَةُ مِنْهَا وَمِنْ أَبَوَيْهَا، وَالِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ وَالذُّلُّ لَهُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ وَالرَّجَاءُ لَهُ، وَلِيَنْقَطِعَ رَجَاؤُهَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَيْأَسَ مِنْ حُصُولِ النُّصْرَةِ وَالْفَرَجِ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلِهَذَا وَفَّتْ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ لَمَّا «قَالَ لَهَا أَبَوَاهَا: قُومِي إِلَيْهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرَاءَتَهَا، فَقَالَتْ:(وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي» ) .
وَأَيْضًا فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ حَبْسِ الْوَحْي شَهْرًا، أَنَّ الْقَضِيّةَ مُحِّصَتْ
وَتَمَحَّضَتْ، وَاسْتَشْرَفَتْ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمَ اسْتِشْرَافٍ إِلَى مَا يُوحِيهِ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ فِيهَا، وَتَطَلَّعَتْ إِلَى ذَلِكَ غَايَةَ التَّطَلُّعِ، فَوَافَى الْوَحْيُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَالصِّدِّيقُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ وُرُودَ الْغَيْثِ عَلَى الْأَرْضِ أَحْوَجَ مَا كَانَتْ إلَيْهِ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ أَعْظَمَ مَوْقِعٍ وَأَلْطَفَهُ، وَسُرُّوا بِهِ أَتَمَّ السُّرُورِ، وَحَصَلَ لَهُمْ بِهِ غَايَةُ الْهَنَاءِ، فَلَوْ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَأَنْزَلَ الْوَحْيَ عَلَى الْفَوْرِ بِذَلِكَ لَفَاتَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ، وَأَضْعَافُهَا بَلْ أَضْعَافُ أَضْعَافِهَا.
إظْهَارُ اللَّهِ مَنْزِلَتَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلَ بَيْتِهِ عِنْدَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ أَنْ يُظْهِرَ مَنْزِلَةَ رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عِنْدَهُ وَكَرَامَتَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُخْرِجَ رَسُولَهُ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَيَتَوَلَّى هُوَ بِنَفْسِهِ الدِّفَاعَ وَالْمُنَافَحَةَ عَنْهُ وَالرَّدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ وَذَمِّهِمْ وَعَيْبِهِمْ بِأَمْرٍ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ عَمَلٌ وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ بَلْ يَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَوَلِّيَ لِذَلِكَ الثَّائِرَ لِرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْأَذَى، وَالَّتِي رُمِيَتْ زَوْجَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَشْهَدَ بِبَرَاءَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَوْ ظَنِّهِ الظَّنَّ الْمُقَارِبَ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَتِهَا، وَلَمْ يَظُنَّ بِهَا سُوءًا قَطُّ وَحَاشَاهُ وَحَاشَاهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا اسْتَعْذَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ قَالَ:( «مَنْ يَعْذِرُنِي فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي» ) ، فَكَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَشْهَدُ بِبَرَاءَةِ الصِّدِّيقَةِ أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لِكَمَالِ صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَرِفْقِهِ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ وَثِقَتِهِ بِهِ، وَفَّى مَقَامَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ حَقَّهُ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ بِمَا أَقَرَّ عَيْنَهُ، وَسَرَّ قَلْبَهُ وَعَظَّمَ قَدْرَهُ وَظَهَرَ لِأُمَّتِهِ احْتِفَالُ رَبِّهِ بِهِ وَاعْتِنَاؤُهُ بِشَأْنِهِ.
وَلَمَّا جَاءَ الْوَحْيُ بِبَرَاءَتِهَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ صَرَّحَ بِالْإِفْكِ، فَحُدُّوا ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، وَلَمْ يَحُدِّ الْخَبِيثَ عبد الله بن أبي مَعَ أَنَّهُ رَأْسُ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَقِيلَ