الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثمان وعشرين وسبعمائة
فيها نقض رخام الحائط القبلي من ناحية جامع دمشق الغربية، فوجد الحائط منحدبا فنقض كأنه تغير من زلزلة فأخرب إلى الأرض مساحة خمسين ذراعا، فبني، وأحدث فيه محراب للحنفية، وجدّد ترخيم حيطان الجامع سوى المقصورة، وأركان القبّة.
وفيها توفي الإمام القدوة عزّ الدّين إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن الحسيني العراقي [1] الشّافعي، من ولد موسى الكاظم.
سمع من والده، وحليمة بنت ولد جمال الإسلام، والباذرائي، وجماعة.
وأجاز له ابن يعيش، وابن رواج.
ونسخ بالأجرة، وتفرّد، مع التّقوى، والعلم، والورع.
توفي بالثّغر في المحرّم عن تسعين سنة.
وفيها شيخ الإسلام تقي الدّين أبو العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام ابن عبد الله بن تيميّة الحرّاني [2] الحنبلي، بل المجتهد المطلق.
[1] انظر «ذيول العبر» ص (156) و «دول الإسلام» (2/ 236) و «المنهل الصافي» (1/ 24) و «الدّرر الكامنة» (1/ 10) .
[2]
انظر «ذيول العبر» ص (157- 158) و «دول الإسلام» (2/ 237) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (308) و «المعجم المختص» ص (25- 27) و «معجم الشيوخ» (1/ 56- 57) و «النجوم الزاهرة» (9/ 271- 272) و «الوافي بالوفيات» (7/ 15- 33) و «فوات الوفيات» (1/ 74- 80) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 387- 408) و «الدّرر الكامنة» (1/ 144- 160) و «المقصد الأرشد»
ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التتار على البلاد إلى دمشق سنة سبع وستين [1] ، فسمع الشيخ بها ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، ويحيى بن الصّيرفي، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدّين ابن أبي عمر، وغيرهم. وعني بالحديث، وسمع «المسند» مرّات، والكتب الستة. و «معجم الطبراني الكبير» وما لا يحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطّه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشيخ شمس الدّين بن أبي عمر، والشيخ زين الدّين بن المنجّى، وبرع في ذلك، وناظر، وقرأ العربية على ابن عبد القوي. ثم أخذ «كتاب سيبويه» فتأمله وفهمه، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرّز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم. ونظر في الكلام والفلسفة، وبرّز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة. وأفتى من قبل العشرين أيضا.
وأمدّه الله بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان، حتّى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه. ثم توفي والده وله إحدى وعشرون سنة، فقام بوظائفه بعده مدة، فدرّس بدار الحديث التنكزية المجاورة لحمّام نور الدّين الشهيد في البزورية في أول سنة ثلاث وثمانين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدّين بن الزّكي، والشيخ تاج الدّين الفزاري، وابن المرحّل، وابن المنجّى، وجماعة، فذكر درسا عظيما في البسملة، بحيث بهر الحاضرين، وأثنوا عليه جميعا.
قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدّين الفزاري يبالغ في تعظيم الشيخ تقي الدّين، بحيث إنه علّق بخطّه درسه بالتنكزية.
(1/ 132- 140) و «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 75- 77) ، وقد ترجم له ترجمة وافية والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله نشرت في صدر رسالته «الأحاديث الموضوعة» المطبوعة في الكويت بتحقيقي.
[1]
يعني سنة (667) هـ.
ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، فكان يورد في المجلس من حفظه نحو كرّاسين أو أكثر. وبقي يفسّر في سورة نوح عدّة سنين أيام الجمع.
وقال الذهبي في «معجم شيوخه» : شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر، علما، ومعرفة، وشجاعة، وذكاء، وتنويرا إلهيا، وكرما، ونصحا للأمة، وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر.
سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، وخرّج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصّل ما لم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقّاد [1] إلى مواضع الإشكال ميّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلّ من يحفظ ما يحفظ من الحديث معزوّا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدّليل. وفاق النّاس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصّحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده. وأتقن العربية أصولا وفروعا، وتعليلا واختلافا. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين. وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم وحذّر، ونصر السّنّة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السّنّة المحضة، حتّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التّقوى على محبته والدعاء له. وكبت أعداءه، وهدى به رجالا كثيرة من أهل الملل والنّحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبا، وعلى طاعته. وأحيا به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصا في كائنة التتار، وهو أكبر من أن ينبّه على سيرته مثلي، فلو حلّفت بين الرّكن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه. انتهى كلام الذهبي.
وكتب الشيخ كمال الدّين ابن الزملكاني تحت اسم «ابن تيميّة» : كان إذا سئل عن فنّ من العلم ظنّ الرائي والسّامع أنه لا يعرف غير ذلك الفنّ، وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطّوائف إذا جالسوه استفادوا في
[1] لفظة «وقاد» لم ترد في «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 389) وهو المصدر الذي نقل عنه المؤلف.
مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشّرع أو غيرها إلّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. وكتب الحافظ ابن سيّد الناس في «جواب سؤالات الدّمياطي» في حقّ ابن تيميّة: ألفيته ممن أدرك من العلوم حظا. وكاد [1] يستوعب السّنن والآثار حفظا. إن تكلّم في التفسير، فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر [2] بالحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالنّحل والملل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته.
برز في كل فنّ على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه.
وقال الذهبي في «تاريخه الكبير» بعد ترجمة طويلة: بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.
وترجمه ابن الزّملكاني أيضا ترجمة طويلة وأثنى عليه ثناء عظيما، وكتب تحت ذلك:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاته جلّت عن الحصر
هو حجّة لله باهرة
…
هو بيننا أعجوبة الدّهر
هو آية للخلق ظاهرة
…
أنوارها أربت على الفجر
وللشيخ أثير الدين أبي حيّان النّحوي لما دخل الشيخ مصر واجتمع به فأنشد أبو حيّان:
لمّا رأينا تقيّ الدّين لاح لنا
…
داع إلى الله فردا ما له وزر
على محيّاه من سيما الألى صحبوا
…
خير البريّة نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبرا
…
بحر تقاذف من أمواجه الدّرر
قام ابن تيميّة في نصر شرعتنا
…
مقام سيّد تيم إذ عصت مضر
[1] في «آ» و «ط» : «وكان» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر المؤلف.
[2]
في «آ» و «ط» : «أودان» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
فأظهر الدّين إذ آثاره درست
…
وأخمد الشّرك إذ طارت له شرر
يا من تحدّث عن علم الكتاب أصخ
…
هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
يشير بهذا إلى أنه المجدد.
وممن صرّح بذلك الشيخ عماد الدّين الواسطي، وقد توفي قبل الشيخ. وقال في حقّ الشيخ بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فو الله، ثم والله، ثم والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيميّة، علما، وعملا، وحالا، وخلقا واتّباعا، وكرما، وحلما، وقياما في حقّ الله عند انتهاك حرماته، أصدق النّاس عقدا، وأصحهم علما، وعزما، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحقّ وقيامه همة، وأسخاهم كفّا، وأكملهم اتباعا لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النّبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلّا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة.
وقال الشيخ تقي الدّين بن دقيق العيد، وقد سئل عن ابن تيمية بعد اجتماعه به،: كيف رأيته؟ فقال: رأيت رجلا سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء، فقيل له: فلم لا تتناظرا؟ قال: لأنه يحب الكلام وأحبّ السّكوت.
وقال برهان الدّين بن مفلح في «طبقاته» [1] : كتب العلّامة تقي الدّين السّبكي إلى الحافظ الذّهبي في أمر الشيخ تقي الدّين بن تيميّة، فالمملوك يتحقق [أن] قدره وزخارة بحره وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه [2] بلغ من ذلك كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائما، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله تعالى له من الزّهادة، والورع، والدّيانة، ونصرة الحقّ، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السّلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزّمان، بل في أزمان. انتهى.
[1] انظر «المقصد الأرشد» (1/ 136) ولفظة «أن» مستدركة منه.
[2]
لفظة «وأنه» لم ترد في «المقصد الأرشد» فلتستدرك.
وقال العلّامة الحافظ ابن ناصر الدّين في «شرح بديعته» [1] بعد ثناء جميل وكلام طويل: حدّث عنه خلق، منهم الذهبي، والبرزالي، وأبو الفتح بن سيد الناس، وحدّثنا عنه جماعة من شيوخنا الأكياس.
وقال الذهبي في عدّ مصنّفاته المجوّدة: وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة.
وأثنى عليه الذهبي وخلق بثناء حميد [2] ، منهم الشيخ عماد الدّين الواسطي العارف، والعلّامة تاج الدّين عبد الرحمن الفزاري، وابن الزّملكاني، وأبو الفتح ابن دقيق العيد [3] .
وحسبه من الثناء الجميل قول أستاذ أئمة الجرح والتعديل أبي الحجّاج المزّي الحافظ الجليل، قال عنه: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وترجمه بالاجتهاد وبلوغ درجته، والتمكن في أنواع العلوم والفنون، ابن الزملكاني، والذّهبي، والبرزالي، وابن عبد الهادي، وآخرون.
ولم [4] يخلّف بعده من يقاربه في العلم والفضل. انتهى كلام ابن ناصر الدّين ملخصا.
وكان الشيخ العارف بالله أبو عبد الله ابن قوام يقول: ما أسلمت معارفنا إلّا على يد ابن تيمية.
وقال ابن رجب: كانت العلماء، والصّلحاء، والجند، والأمراء، والتّجار، وسائر العامّة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا، بلسانه، وعلمه.
[1] يعني في «التبيان شرح بديعة البيان» (185/ ب- 186/ آ) .
[2]
في «آ» : «جميل» وما جاء في «ط» موافق لما في «التبيان شرح بديعة البيان» مصدر المؤلف.
[3]
في «آ» و «ط» : «وأبو الفتح وابن دقيق العيد» وهو خطأ والتصحيح من «التبيان شرح بديعة البيان» مصدر المؤلف، فابن دقيق العيد كان يكنى بأبي الفتح.
[4]
في «آ» و «ط» : «ولا» والتصحيح من «التبيان شرح بديعة البيان» مصدر المؤلف.
ثم قال ابن رجب وغيره: ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه:
اختار ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه.
والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلّا أن يتغير قليلا كان أو كثيرا.
والقول بجواز المسح على النّعلين والقدمين وكل ما يحتاج في نزعه من الرّجل إلى معالجة باليد أو بالرّجل الأخرى، فإنه يجوز المسح عليه مع القدمين.
واختار أن المسح على الخفّين لا يتوقت مع الحاجة، كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد، ويتوقت مع إمكان النزع وتيسره.
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها.
واختار جواز التيمم لخشية [1] فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخّر الصلاة عمدا حتّى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محدث.
واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول إلى الحمّام وتكرره، أنها تتيمم وتصلي.
واختار أن لا حدّ لأقلّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقلّ الطّهر بين الحيضتين، ولا لسنّ الإياس [من الحيض][2] ، وأن ذلك يرجع [3] إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.
واختار أن تارك الصلاة عمدا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل [4] .
[1] في «آ» و «ط» : «بخشية» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 404) .
[2]
ما بين الحاصرتين مستدرك من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 405) .
[3]
في «ذيل طبقات الحنابلة» : «وأن ذلك راجع» .
[4]
أقول: أي لا يمكنه أن يتدارك ما فاته إلّا بالإكثار من صالح الأعمال. (ع) .
وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، كما هو مذهب الظّاهرية.
واختار القول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر واختاره البخاري صاحب «الصحيح» .
والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء، كما هو مذهب ابن عمر واختيار البخاري.
والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدا أنه ليل وكان نهارا لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم.
والقول بجواز المسابقة بلا محلّل وإن أخرج المتسابقان.
والقول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر ثلاث تطليقات.
والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين.
وجواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرا.
والقول بجواز بيع الأصل بالعصير، كالزيتون بالزيت، والسّمسم بالسّيرج.
والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلا، وجعل الزايد من الثمن في مقابلة الصّنعة والقول.
ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق، وأن الطّلاق الثلاث لا يقع إلّا واحدة، وأن الطلاق المحرّم لا يقع، وله في ذلك مؤلفات كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط.
وقال ابن رجب: مكث الشيخ معتقلا في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثم مرض بضعة وعشرين يوما، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلّا موته.
وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، ذكره مؤذن القلعة
على منارة الجامع، وتكلّم به الحرس على الأبرجة، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم علم به في منامه، واجتمع الناس حول القلعة حتّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق، ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين، وفتح باب القلعة.
واجتمع عند الشيخ خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدّين عبد الرحمن أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، وانتهيا إلى قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ 54: 54- 55 [القمر: 54- 55] .
فشرع حينئذ الشيخان الصّالحان عبد الله بن المحبّ الصّالحي، والزّرعيّ الضّرير- وكان الشيخ يحب قراءتهما- فابتدأ من سورة الرحمن حتى ختما القرآن.
وخرج من عنده من كان حاضرا إلّا من يغسّله ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصّالحين وأهل العلم، كالمزّي وغيره، وما فرغ من تغسيله حتّى امتلأت القلعة وما حولها بالرّجال، فصلّى عليه بدركات القلعة الزّاهد القدوة محمد بن تمّام، وضجّ الناس حينئذ بالبكاء، والثناء، والدعاء بالتّرحم.
وأخرج الشيخ إلى جامع دمشق، وصلّوا عليه الظّهر، وكان يوما مشهودا [1] لم يعهد بدمشق مثله، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة السّنّة، فبكى الناس بكاء كثيرا، وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم، وصار النّعش على الرؤوس يتقدم تارة ويتأخر أخرى، وخرجت جنازته من باب الفرج، وازدحم الناس على أبواب المدينة جميعا للخروج، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه عبد الرحمن، ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدّين عبد الله بمقابر الصّوفية. وحزر من حضر جنازته بمائتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفا. وختمت له ختمات كثيرة، رحمه الله ورضي عنه.
[1] تحرفت في «ط» إلى «مشهوا» .
وفيها شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن يحيى بن محمد بن بدر الجزري ثم الصّالحي [1] المقرئ الفقيه الحنبلي.
ولد في حدود السبعين وستمائة، وقرأ بالروايات على الشيخ جمال الدّين البدوي [2] وسمع من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، والكندي، ولزم المجد التّونسي. وأخذ عنه علم القراءات، حتى مهر فيها، وأقبل على الفقه، وصحب القاضي ابن مسلم مدة وانتفع به.
وكان من خيار الناس، دينا، وعقلا، وحياء، ومروءة، وتعففا.
اقرأ القراءات، وحدّث.
وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. قاله ابن رجب.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن محمد بن عبد الولي بن جبارة المقدسي [3] المقرئ الفقيه [4] الحنبلي الأصولي النحوي شهاب الدّين بن الشيخ تقي الدّين.
ولد سنة سبع أو ثمان وأربعين وستمائة، وسمع من خطيب مردا، حضورا، وابن عبد الدائم.
وارتحل إلى مصر بعد الثمانين، فقرأ بها القراءات على الشيخ حسن الرّاشدي، وصحبه إلى أن مات. وقرأ الأصول على شهاب الدّين القرافي المالكي، والعربية على بهاء الدّين بن النّحاس، وبرع في ذلك. وتفقه في المذهب.
وقدم دمشق، ثم تحوّل إلى حلب، وأقرأ بها.
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 408) و «غاية النهاية» (1/ 148) و «الدّرر الكامنة» (1/ 333- 334) .
[2]
تحرفت في «ط» إلى «البدري» .
[3]
انظر «معرفة القراء الكبار» (2/ 746) و «معجم الشيوخ» (1/ 6) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 386) و «غاية النهاية» (1/ 122) و «الدّرر الكامنة» (1/ 276) .
[4]
تحرفت في «ط» إلى «الفقه» .
ثم استوطن بيت المقدس. وتصدّر لإقراء القراءات والعربية، وصنّف شرحا كبيرا ل «الشاطبية» ، وشرحا آخر ل «الرائية» في الرسم، وشرحا ل «ألفية ابن معطي» وصنّف «تفسيرا» وأشياء في القراءات. ذكره الذهبي في «معجم شيوخه» فقال: كان إماما، مقرئا، بارعا، فقيها، نحويا، نشأ إلى اليوم في صلاح ودين وزهد. سمعت منه مجلس البطاقة، وانتهت إليه مشيخة بيت المقدس.
وذكر البرزالي أنه حجّ وجاور بمكة، وأنه يعدّ في العلماء الصّالحين الأخيار، وقال: قرأت عليه بدمشق والقدس عدة أجزاء.
وتوفي بالقدس سحر يوم الأحد رابع رجب، وذكر الدّبيثي أنه مات فجأة.
وفيها الشيخ جمال الدّين عبد الله بن محمد بن علي ابن العاقولي الواسطي [1] الشّافعي، مدرّس المستنصرية.
قال ابن قاضي شهبة في «طبقاته» : مولده في رجب سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث من جماعة، واشتغل وبرع.
وقال ابن كثير: درّس بالمستنصرية مدة طويلة، نحو أربعين سنة، وباشر نظر الأوقاف، وعيّن لقضاء القضاة في وقت، وأفتى من سنة سبع وخمسين وإلى أن مات، وذلك إحدى وسبعون سنة، وهذا شيء غريب جدا. وكان قويّ النّفس، له وجاهة في الدولة، كم كشفت به كربة عن النّاس بسعيه وقصده.
وقال السّبكي: ولي قضاء القضاة بالعراق.
وقال الكتبي: انتهت إليه رئاسة الشافعية ببغداد، ولم يكن يومئذ من يماثله ولا يضاهيه في علومه وعلو مرتبته، وعيّن لقضاء القضاة فلم يقبل.
توفي في شوال ببغداد وله تسعون سنة وثلاثة أشهر، ودفن بداره، وكان وقفها على شيخ وعشرة صبيان يقرؤون القرآن، ووقف عليها أملاكه كلّها.
[1] انظر «ذيول العبر» ص (157) و «النجوم الزاهرة» (9/ 274) و «طبقات الشافعية الكبرى» (10/ 43) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 235- 236) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 344- 345) و «الدّرر الكامنة» (2/ 299) .
وفيها الفقيه المعمّر جمال الدّين عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر المقدسي الحنبلي [1] .
ولد في رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة، وسمع من النّور البلخي، والمرسي، ومحمد بن عبد الهادي، وطائفة.
توفي بالصّالحية في ذي القعدة.
وفيها عفيف الدّين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسن البغدادي، ابن الخراط الحنبلي [2] .
قال الذهبي: الإمام الواعظ، مسند العراق، شيخ المستنصرية.
مولده في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
سمع من عجيبة كثيرا، وابن الخير، وابن قميرة، وأخيه، وطائفة. وتفرّد.
ومات ببغداد في جمادى الأولى.
وفيها قاضي القضاة شمس الدّين محمد بن عثمان بن أبي الحسن الدّمشقي الحنفي بن الحريري [3] .
ولد في صفر سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وحدّث عن ابن الصّيرفي، والقطب بن عصرون، وابن أبي اليسر.
وكان عادلا، مهيبا، صارما، ديّنا، رأسا في المذهب.
وتوفي بمصر في جمادى الآخرة.
[1] انظر «ذيول العبر» ص (158) و «الدّرر الكامنة» (2/ 224) .
[2]
انظر «ذيول العبر» ص (156- 157) و «معجم الشيوخ» (2/ 225- 226) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 384- 386) و «الدّرر الكامنة» (4/ 27) و «المقصد الأرشد» (2/ 462- 463) .
[3]
انظر «ذيول العبر» ص (157) و «الوافي بالوفيات» (4/ 90) و «الجواهر المضية» (2/ 250- 251) و «الدّرر الكامنة» (4/ 39- 40) .