الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الصافات
مكية
وهي ثلاثة آلافٍ وثمانمائةٍ وستةٌ وعشرون حرفًا، وثمانمائةٍ وستون كلمةً، ومائةٌ واثنتان وثمانون آيةً.
باب ما جاء في فضل قراءتها
عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة {وَالصَّافَّاتِ} أُعْطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئاتٍ، ورُفِعَ له عشرُ درجاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ جِنِّيٍّ وشيطانٍ، وتيأعدت عنه مَرَدةُ الشياطين، وبَرِئَ من الشِّرك، وشَهِدَ له حافِظاهُ يوم القيامة أنه كان مؤمنًا بالمرسلين"
(1)
.
ورُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ سورة الصافات رافَقَ بها الأنبياءَ، وغُفِرَ له ذنبُ خمسين عامًا"
(2)
.
باب ما جاء فيها من الإعراب
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} يعني الملائكة تَصُفُّ أنْفُسَها فِي
(1)
ينظر: الكشف والبيان 8/ 138، الوسيط 3/ 521، الكشاف 3/ 358، مجمع البيان 8/ 293، عين المعانِي ورقة 111/ ب.
(2)
لَمْ أعثر له على تخريج.
السماء، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ كصفوف الخلق فِى الدنيا للصلاة.
قوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)} يَعْنِي المَلائِكةَ تزجر السحاب وتَسُوقُهُ، وقال قتادة: يعني زواجر القرآن، وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح.
قوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} يعني الملائكة يتلون كتاب اللَّه، وقيل: هم جماعة قُرّاءِ القرآن، وهي كلها جَمْعُ الجمع، فالصّافّاتُ جمع الصّافّةِ، والصّافّةُ جمع الصّافِّ
(1)
، وكذلك أختاها
(2)
، قال صاحب إنسان العين
(3)
: ويحتمل دخول التاء للمبالغة، والفاء لبيان أن الكل واحدٌ مع تغير الوصف، تقول: الداخل عَلَيَّ، فالمقيم عندي، فالآكِلُ طَعامِي، يكون الكل شخصًا واحدًا، ولو قلتَ بالواو لَمْ يكن رجلًا واحدًا.
قرأها العامة بإظهار التاء، وقرأ حمزة بإدغام التاء في الصاد والزاي والذال، وكذلك:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}
(4)
، وهي مخفوضةٌ بواو القسم
(5)
، وما
(1)
في الأصل: "والصافة جمع الصافات".
(2)
قال النحاس: "الصّافّات جمع صافةٍ، كأنه جماعةٌ صافّةٌ؛ أي: مُصْطَفّةٌ تذكر اللَّه تعالى وتسبحه، والزاجرات جمع زاجرة". معانِي القرآن 6/ 7، 8، وينظر أيضًا: جامع البيان 23/ 41، الكشف والبيان 8/ 139، الفريد للمنتجب الهمدانِي 4/ 123.
(3)
قال السجاوندي: "والصّافّات جمع جماعة، أو تاءُ الصّافّةِ للمبالغة كعَلّامةٍ". عين المعاني ورقة 111/ ب.
(4)
الذاريات 1، قرأ ابن مسعود، وأبو عمرو في روايةٍ عنه، وحمزةُ ويعقوبُ ومسروقُ والأعمشُ:"والصّافّات صَّفًّا. فالزّاجِرات زَّجْرًا. فالتّالِيات ذِّكْرًا" بإدغام التاء في ثلاثتها في الصاد والزاي والذال، وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب:"والذّارِيات ذَّرْوًا"، ولكن أبا عمرو في رواية عباس ابن منصور عنه يقرأ بالإظهار، ولا يُدغم شيئًا من ذلك، وقرأ الباقون بالإظهار فيها جميعًا، ينظر: السبعة ص 546، إعراب القراءات السبع 2/ 242، تفسير القرطبي 15/ 61، البحر المحيط 7/ 337، النشر 1/ 300، الإتحاف 2/ 407، 491.
(5)
المخفوض بواو القسم هو لفظ "الصافات" فقط، وأما "الزاجرات" و"التاليات" فهما =
بعدها منصوبٌ على المصدر
(1)
.
قوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} يعني: إن ربكم لواحدٌ ليس له شريكٌ، وهذا جواب القسم، أقسم اللَّه تعالى بهذه الأقسام أنه واحدٌ فَرْدٌ، ليس له شريكٌ.
قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} مِنْ خَلْقٍ {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} يعني مشارق الشمس؛ لأنها تَطْلُعُ كُلَّ يومٍ في مشرقٍ، وتَغْرُبُ كُلَّ يوم في مغرب؛ فلذلك جَمَعَها، وذلك أن اللَّه تعالى خلق للشمس ثلاثَمائةٍ وستين كُوّةً فِي المشرق، وثلاثَمائةٍ وستين كُوّةً في المغرب، على عدد أيام السنة، تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ من كُوّةٍ، وتَغْرُبُ في كُوّةٍ منها في المشارق والمغارب.
(2)
.
و {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} رفعٌ على خبر ابتداءٍ محذوفٍ تقديره: هو رب السماوات، ويجوز أن يكون رفعًا على البدل من قوله:{لَوَاحِدٌ}
(3)
.
قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} سمِّيت بذلك لأنها أدْنَى السماوات وأقربها من الأرض {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} قيل: هي مُعَلَّقةٌ فِي السماء كالقناديل المعلَّقة في المساجد، قرأ أبو بكر:"بِزِينةٍ" منوَّنًا "الكَواكِبَ" نصبًا، أعمل الزينة، وهي
= معطوفان على "الصافات"، ينظر: إعراب القرآن 3/ 409، تفسير القرطبي 15/ 61.
(1)
يعني "صَفًّا" و"زَجْرًا" و"ذِكْرًا"، وقيل:"صَفًّا" مفعول به؛ لأن الصَّفَّ قد يأتِي بمعنى المصفوف، وأما "ذِكْرًا" فهو مصدر من معنى "التّالِياتِ"، ويجوز أن يكون مفعولًا به، ينظر: التبيان للعكبري ص 1087، الفريد للهمداني 4/ 123، الدر المصون 5/ 494.
(2)
هذا الخبر رواه الطبري عن ابن عباس في جامع البيان 29/ 108، 109، وينظر: الكشف والبيان 8/ 139، تاريخ دمشق 9/ 271، تفسير القرطبي 15/ 63، كنز العمال 6/ 171.
(3)
ويجوز أن يكون خبرًا ثانيا لـ "إنّ"، ينظر في هذه الأوجه: معانِي القرآن للأخفش ص 451، إعراب القرآن للنحاس 3/ 410، التبيان للعكبري ص 1087، الفريد للهمدانِي 4/ 123.
مصدرٌ، في الكواكب على معنى: إنّا زينّا الكواكبَ فيها
(1)
، وقرأ حمزة وحفصٌ عن عاصمٍ:"بِزِينةٍ" بالتنوين "الكَواكِبِ" خفضًا على البدل من الزينة، وقرأ الباقون:"بِزِينةِ الكَواكِبِ" مضافًا
(2)
، قال ابن عبّاسٍ: يعني: كضوء الكواكب.
قوله: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} ؛ أي: خبيثٍ متمردٍ، معناه: وجعلنا للسماء حِفْظًا، وذلك شائعٌ فِي اللغة، وقيل
(3)
: هو نصبٌ على المصدرِ، والفعلُ محذوفٌ، أي: وحَفِظْناها حِفْظًا، أو مَعَ حِفْظٍ.
و"مارِدٍ" نعت لـ "شَيْطانٍ"، والمارد: العاتِي المتكبر، يقال: قد تَمَرَّدَ فلانٌ على أهله: إذا تَكَبَّرَ عليهم، ويقال منه: مَرُدَ يَمْرُدُ مُرُودًا فهو مارِدٌ، وتَمَرَّدَ يَتَمَرَّدُ تَمَرُّدًا، وأصله من قولهم: شَجَرةٌ مَرْداءُ: إذا سقط ورقها، ورَجُلٌ أمْرَدُ: إذا لَمْ يكن له لحيةٌ، وصَخْرةٌ مَرْداءُ: إذا كانت مَلْساءَ، وكل عاتٍ من الجن والإنس تسميه العرب شيطانًا ماردًا
(4)
.
(1)
ويجوز أن يكون "الكَواكِبَ" منصوبًا بفعل مضمر؛ أي: أعني الكواكب، أو بدلًا من "بِزِينةٍ" على الموضع؛ لأن الزينة في موضع نصب، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 4/ 298، إعراب القرآن 3/ 410 - 411، مشكل إعراب القرآن 2/ 233 - 234، الفريد للمنتجب الهمداني 4/ 124.
(2)
قرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو في روايةٍ عنه، والأعمشُ وابنُ وَثّابٍ:"بِزِينةٍ الكَواكِبَ"، وقرأ حمزة وحفص وابن مسعود وطلحة ومسروق والنخعي والحسن والأعمش:"بِزِينةٍ الكَواكِبِ"، وقرأ الباقون بالإضافة، ينظر: السبعة ص 546 - 547، تفسير القرطبي 15/ 64، البحر المحيط 7/ 338، النشر 2/ 256، الإتحاف 2/ 407 - 408.
(3)
قاله الأخفش وأبو عبيدة وغيرهما، ينظر: معانِي القرآن للأخفش ص 451، مجاز القرآن 2/ 166، معانِي القرآن وإعرابه 4/ 298، إعراب القرآن 3/ 411، ويجوز أن يكون مفعولًا له على زياد الواو، والعامل فيه "زَيَّنّا"، ينظر: الفريد 4/ 125، البحر المحيط 7/ 338، الدر المصون 5/ 495.
(4)
ينظر في هذه المعانِي: إعراب القرآن 3/ 411، التهذيب 14/ 118 - 119.
قوله: {لَا يَسَّمَّعُونَ}
(1)
يعني الشياطين {إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} وهم الملائكة، أي: لِكَيْ لا يَسمعوا إلى الكَتَبةِ من الملائكة مما يكون في الأرض، والمعنى: لِئَلَّا يَسْمَعُوا، فلما حذف "أنْ" رُفِعَ
(2)
، وقرأ حَمْزةُ والكسائيُّ وحَفْصٌ:"يَسَّمَّعُونَ" بالتشديد، وأصله: يتسمعون، فأدغمت التاء فِي السين
(3)
.
قوله: {وَيُقْذَفُونَ} يعني الشياطين؛ أي: يُرْمَوْنَ {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)} من آفاق السماء {دُحُورًا} يبعدونهم عن مَجْالِسِ الملائكة، يقال: دَحَرَهُ دَحْرًا ودُحُورًا: إذا طرده وأبْعَدَهُ، ودُحُورٌ كشُهُورٍ
(4)
، والمعنى: يُدْحَرُونَ دُحُورًا عن
(1)
هذه القراءة قرأ بها ابنُ عباس، وأبو بكر عن عاصمٍ، وابنُ كثير ونافعٌ وابنُ عامر وأبو عمرو والأعمشُ ومجاهدٌ وأبو جعفرٍ ويعقوبُ، ينظر: السبعة ص 547، تفسير القرطبي 15/ 65، البحر المحيط 7/ 338، الإتحاف 2/ 408.
(2)
هذا القول حكاه النحاس عن أبِي حاتم، وشَبَّهَهُ أبو حاتم بقول الشاعر:
ألا أيُّهَذا الَّلائِمِي أحْضُرُ الوَغَى
…
وَأنْ أشْهَدَ اللَّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي؟
معانِي القرآن للنحاس 6/ 10 - 11. وقد أنكره كثير من العلماء، قال الزمخشري: "فإن قلتَ: هل يصح قولُ مَنْ زَعَمَ أن أصله: لِئَلّا يَسَّمَّعُوا، فحُذِفَ اللامُ كما حُذِفَ في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقي: ألّا يَسَّمَّعُوا، فحذفت "أنْ"، وأُهْدِرَ عملُها كما في قول القائل: ألا أيُّهَذا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى؟
قلتُ: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات، على أنّ صَوْنَ القرآن عن مثل هذا التعسف واجبٌ". الكشاف 3/ 336، وينظر أيضًا: الفريد 4/ 126، البحر المحيط 7/ 338، مغني اللبيب ص 502، الدر المصون 5/ 496.
(3)
ينظر: كتاب سيبويه 4/ 463، غريب القرآن لابن قتيبة ص 369.
(4)
يعني أنه مصدر على وزن "فُعُول"، لا أنه جَمْعٌ، بدليل قوله بعده:"والمعنى: يُدْحَرُونَ دُحُورًا. . . وهو منصوب على المصدر".
ويجوز أن يكون "دُحُورًا" منصوبًا على الحال؛ أي: مدحورين أو ذَوِي دُحُورٍ، ينظر: التبيان للعكبري ص 1088، عين المعانِي 111/ ب، الفريد للهمدانِي 4/ 126، 127، الدر المصون 5/ 496.
تلك المَجالِسِ التي يَسْتَرِقُونَ فيها السمعَ، وهو منصوبٌ على المصدر
(1)
.
قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)} ؛ أي: دائم مُوجِعٌ، {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} يعني الكلمة أخذها مُسارَقةً، ومحل {مَنْ} نصبٌ على الاستثناء، ويحتمل أن يكون رفعًا على الابتداء
(2)
، تقديره: ولكن مَنْ خَطِفَ الخطفة، والاختطاف: الاسْتِلابُ وأخْذُ الشيء بسرعةٍ، وقال ابن عبّاسٍ: معناه: إلا من وثب الوثبة، {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} لَحِقَهُ نَجْمٌ مضيءٌ يحرقه، وثُقُوبُهُ: ضَوْؤُهُ، يقال: أثْقِبْ نارَكَ؛ أي: أضِئْها.
قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} يعني: سَلْ أهلَ مكة يا محمد {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} يعني: مِن السماوات والأرض والجبال، هي أشد خلقًا وأعظم منهم، نظيرها قوله تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}
(3)
، وقوله:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}
(4)
، وقيل: معناه: أم مَنْ خلقنا مِنْ قبلهم من الأمم الخالية، وقد أهلكناهم بتكذيب الرسل، فما الذي يُؤَمِّنُ هؤلاء من العذاب.
(1)
"دُحُورًا" مصدر إما من معنى "يُقْذَفُونَ"، وإما من فعل محذوف معطوف على "يُقْذَفُونَ"، أي: ويُدْحَرُونَ دُحُورًا، ويجوز أن يكون مفعولًا من أجله، أي: ويقذفون من كل جانب للدحور، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال من الضمير في "يُقْذَفُونَ"، ينظر: التبيان للعكبري ص 1088، الفريد للهمداني 4/ 126، البحر المحيط 7/ 338، الدر المصون 5/ 496.
(2)
ويكون الخبر قولَه: "فَأتْبَعَهُ"، وهذا إذا كان الاستثناء منقطعًا، ويجوز أن تكون "مَنْ" فِي موضع رفع بدلًا من الضمير في "يسمعون"، أي لا يسمع الشيطانُ إلا الشيطانُ الذي خطف، ينظر: الفريد للهمداني 4/ 127، البحر المحيط 7/ 339، الدر المصون 5/ 496.
(3)
غافر 57.
(4)
النازعات 27.
وقوله: {أَهُمْ أَشَدُّ} ابتداءٌ وخبرٌ، و {خَلْقًا} نصبٌ على التفسير، و {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}
(1)
رفعٌ على {أَهُمْ أَشَدُّ} ، وهذا استفهامٌ معناه التقرير
(2)
.
ثم وَصَفَ خَلْقَهم وأخْبَرَ، فقال:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)} ؛ أي: شديدٍ، وهو الطين الصُّلْبُ الَّلازِقُ المُتَلَزِّجُ المتماسك الذي يلزم بعضه بعضًا، ومنه: ضَرْبةُ لازِمٍ ولازِبٍ؛ أي: أمْرٌ يَلْزَمُ
(3)
، ولازمٌ ولازبٌ ولازقٌ ولاصقٌ ولاتبٌ: بمعنًى واحدٍ، والعرب تجعل الباء ميمًا لقُرب مخرجهما
(4)
.
قوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} "أو" بمعنى الواو
(5)
، والألِف ألِف استفهامٍ دخلت على حرف العطف، كقوله تعالى:{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى}
(6)
، قال اللَّه تعالى:{قُلْ} لهم يا محمد: {نَعَمْ} تُبْعَثُونَ {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)} ؛ أي: صاغرون، والدُّخُورُ: أشَدُّ الصَّغارِ.
(1)
فِي الأصل: "أمن خلقنا".
(2)
ومعناه: أهم أشد خلقًا أم أهل مكة؟
(3)
من أول قوله: "الطين الصلب اللازق"، قاله أبو بكر السجستاني فِي تفسير غريب القرآن ص 130.
(4)
قال الفراء: "اللازب: اللاصق، وقيس تقول: طين لاتب. . . والعرب تقول: ليس هذا بضربة لازب ولازم، يبدلون الباء ميما لتقارب المخرج". معانِي القرآن 2/ 384، وينظر: إصلاح المنطق ص 288، غريب القرآن لابن قتيبة ص 369، تهذيب اللغة 13/ 214.
(5)
ليست هذه "أوْ" كما زعم المؤلف، وإنما هي همزة الاستفهام دخلت على الواو العاطفة، اللهم إلا إذا كان يقصد قراءةَ مَنْ قرأ:"أوْ آباؤُنا" بإسكان الواو، وهم أهل الشام والمدينة، ينظر: السبعة في القراءات ص 286 - 287، حجة القراءات ص 608، الإتحاف 2/ 410. وفي الجمل المنسوب للخليل ص 289 قال:"والواو التي تتحول "أوْ" مثل قول اللَّه تعالى: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} [الصافات: 16 - 17]، معناه: وَآباؤُنا، ومثله:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] معناه: ولا تطع منهم آثمًا ولا كفورًا.
(6)
الأعراف 98.
وما بعد هذا ظاهر الإعراب إلى قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} يعني الموحدين، استثناهم من المُجْرمِينَ، وقيل: هو نصب على الاستثناء من قوله: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)} .
ثم قال: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} يعني: على مقدار غَدْوةٍ وعَشِيّةٍ، ثم بَيَّنَ الرزق، ققال:{فَوَاكِهُ} رفعٌ على البدل من {رِزْقٌ} وهي جمع فاكهةٍ، وهو كل طعامٍ يؤكل للتلذذ لا للقُوتِ الذي يَحْفَظُ الرَّمَقَ والصحة.
قوله: {وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)} يعني: بثواب اللَّه {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ} جمع سريرٍ {مُتَقَابِلِينَ (44)} ، لا يَرَى بعضُهُمْ قَفا بعضٍ، بل ينظر بعضهم إلى بعضٍ، ويُحَدِّثُ بعضُهم بعضًا، وكل واحدٍ يفهم حديث صاحبه وإنْ بَعُدَ، وهو منصوبٌ على الحال.
قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)} من خمرٍ جارية {بَيْضَاءَ} صافيةٍ، ومحلها خفضٌ على البدل من {مَعِينٍ} ، وقيل: على النعت لـ "كَأْسٍ". والمَعين هو الطاهر الجاري
(1)
، وفِي قراءة عبد اللَّه:"صَفْراءَ لَذّةٍ لِلشّارِبِينَ"
(2)
؛ أي: لذيذةٍ، يقال: شرابٌ لَذٌّ ولَذِيذٌ {لِلشَّارِبِينَ (46)} ولا يكون الكأسُ كأسًا حتى يكون فيه شرابٌ، وإلا فهو إناءٌ
(3)
، قال الأخفش
(4)
: كل كأسٍ في القرآن فهو خمرٌ.
(1)
قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 169.
(2)
هذه قراءة ابن مسعود والحسن والضحاك، ينظر: مختصر ابن خالويه ص 128، البحر المحيط 7/ 344.
(3)
هذا قول أبِي عبيدة والزجاج، ينظر: مجاز القرآن 2/ 169، معانِي القرآن وإعرابه 4/ 303، وينظر أيضًا: إعراب القرآن للنحاس 3/ 419، تهذيب اللغة 10/ 314.
(4)
ينظر قوله في الكشاف للزمخشري 3/ 340، مجمع البيان 8/ 304، البحر المحيط 7/ 344، وكان الواجب أن يقول: "ولا تكون الكأس كأسًا حتى يكون فيها شراب، وإلا فهي =
قوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} ؛ أي: لا تَغْتالُ عُقُولَهُمْ فتذهب بها، ولا يصيبهم منها وجعٌ فِي البطن، ولا صداعٌ فِي الرأس
(1)
، ويقال للوجع: غَوْلٌ، لأنه يؤدي إلى الهلاك، وقال أهل المعانِي
(2)
: الغَوْلُ فسادٌ يَلْحَقُ فِي خفاء، يقال: اغتاله اغتيالًا: إذا أفْسَدَ عليه أمْرَهُ فِي خُفْيةٍ، ومنه الغَوْلُ والغِيلةُ، وهو القتل خُفْيةً.
قوله: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} قرأ حمزة والكسائي وخلَفٌ بكسر الزاي هاهنا وفِي سورة الواقعة
(3)
، ووافقهم عاصمٌ في الواقعة، وقرأ الباقون بفتح الزاي فيهما
(4)
، فمن فتح الزاي فيهما فمعناه: لا تَغْلِبُهُمْ على عقولهم، ولا يسكرون منها، يقال: نُزِفَ الرَّجُلُ فهو مَنْزُوفٌ ونَزِيفٌ: إذا سَكِرَ وذَهَبَ عَقْلُهُ
(5)
، قال الشاعر:
173 -
فَلَثِمْتُ فاها آخِذًا بِقُرُونِها
…
شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ
(6)
= إناء" بتأنيث الضمائر العائدة إلى الكأس؛ لأن الكأس مؤنثة، ولا تُذَكَّرُ بحال، ينظر: المذكر والمؤنث للفراء ص 76، المذكر والمؤنث للسجستانِيِّ ص 143، المذكر والمؤنث لابن الأنباري 1/ 557 - 558.
(1)
هذا الكلام قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/ 303، وينظر: تفسير القرطبي 15/ 78.
(2)
ينظر: معاني القرآن للنحاس 6/ 25، الكشف والبيان 8/ 144.
(3)
الواقعة 19، وهي قوله تعالى:{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19].
(4)
ينظر: السبعة ص 547، إعراب القراءات السبع 2/ 246، 247، تفسير القرطبي 15/ 79، البحر المحيط 7/ 344، إتحاف فضلاء البشر 2/ 411.
(5)
قاله الفراء والنحاس، ينظر: معانِي القرآن للفراء 2/ 384، معانِي القرآن للنحاس 6/ 26.
(6)
البيت من الكامل لجميل بثينة، ونُسِبَ لعمر بن أبِي ربيعة، ولعُبَيْدِ بن أوس الطائي، وللراعي النميري، ولعروة بن أذينة.
اللغة: لَثِمَتُ: قَبَّلْتُ، القُرُونُ: جمع قَرْنٍ وهو الذؤابة، وخصَّ به بعضُهم ذؤابةَ المرأة، الحشرج: الماء العذب البارد. =
أي: السكران، ومَنْ كَسَرَ الزايَ فمعناه: لا يَنْفَدُ شَرابُهُمْ، يقال: أنْزَفَ الرَّجُلُ فهو مَنْزُوفٌ: إذا فَنِيَتْ خَمْرُهُ
(1)
، قال الحطيئة:
174 -
لَعَمْرِي لَئِنْ أنْزَفْتُمُ أوْ صَحَوْتُمُ
…
لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُمُ آلَ أبْجَرا
(2)
= التخريج: ديوان جميل بثينة ص 42، ديوان عمر بن أبِي ربيعة ص 75، ملحق ديوان الراعي ص 302، ملحق ديوان عروة بن أذينة ص 136، إصلاح المنطق ص 208، الشعر والشعراء ص 448، الكامل 1/ 292، جمهرة اللغة ص 1133، الكشف والبيان 8/ 144، المحرر الوجيز 4/ 472، عين المعانِي 112/ أ، الحماسة البصرية ص 1036، شرح التسهيل لابن مالك 3/ 152، اللسان: حشرج، لثم، نزف، ارتشاف الضرب ص 1697، الجنى الدانِي ص 44، مغني اللبيب ص 143، همع الهوامع 2/ 336.
(1)
ينظر: معانِي القرآن للنحاس 6/ 26، تهذيب اللغة 13/ 226، معانِي القراءات 2/ 318، الحجة للفارسي 3/ 316، على أن قوله:"يقال: أنَزْفَ الرَّجُلُ فهو مَنْزُوفٌ" فيه تَجَوُّزٌ؛ لأنه إذا كان يريد اسم الفاعل فاسم الفاعل من أنْزَفَ: مُنْزِفٌ، وإذا كان يريد اسم المفعول فهو مُنْزَفٌ.
(2)
البيت من الطويل للأُبَيْرِدِ الرِّياحِيِّ على الراجح، ونُسِبَ للحطيئة وليس في ديوانه، ويروى:
لَبِئْسَ الَّذِي ما أنْتُمُ آلَ أبْجَرا
اللغة: نَدامَى الرَّجُلِ: الذين يُشارِبُونَهُ، أبْجَرُ: هو أبْجَرُ بن جابر العِجْلِيُّ، وكان نصرانيًّا.
التخريج: ديوان الأبيرد الرياحي ص 249 (ضمن شعراء أمويون)، مجاز القرآن 2/ 169، 249، جمهرة اللغة ص 821، تفسير غريب القرآن للسجستاني ص 131، معانِي القراءات 2/ 318، إعراب القراءات السبع 2/ 247، الحجة للفارسي 3/ 316، المحتسب 2/ 308، الكشف والبيان 8/ 8/ 144، الاقتضاب 3/ 160، الكشاف 3/ 340، المحرر الوجيز 4/ 472، شمس العلوم 10/ 6565، الفريد للهمداني 4/ 131، عين المعانِي ورقة 112/ أ، 130/ ب، تفسير القرطبي 15/ 79، 17/ 203، شرح التسهيل لابن مالك 3/ 17، اللسان: نزف، البحر المحيط 7/ 336، ارتشاف الضرب ص 2501، الدر المصون 5/ 501، اللباب في علوم الكتاب 18/ 388، همع الهوامع 3/ 24، خزانة الأدب 9/ 388.
قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)} ؛ أي: حابساتُ الأعْيُنِ، غاضّاتُ الجُفُونِ، قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عن غَيْرِ أزواجهن، فلا ينظرن إلَّا إلَى أزواجهن، ولا يبغين بهم بدلًا، والقَصْرُ معناه الحبس، و {عِينٌ}: نُجْلُ العُيُونِ حِسانُها، واحدتها: عَيْناءُ، يقال: رَجُلٌ أعْيَنُ وامرأة عَيْناءُ ورجالٌ ونساءٌ عِينٌ.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} جمع بيضة {مَكْنُونٌ (49)} ؛ أي: مستور مَصُونٌ، شَبَّهَهُنَّ ببَيْضِ النَّعامِ تُكِنُّها بالرِّيشِ من الريح والغبار، فلونها أبيض فِي صُفْرةٍ، وهذا أحسن ألوان النساء، وهو أن تكون المرأة بيضاء مُشْرَبةً بصُفْرةٍ، قال المبرد
(1)
: والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضِها وحسنِ لَوْنها بِبَيْضةِ النَّعامةِ. وإنما ذَكَّرَ المكنونَ، والبَيْضُ جمع؛ لأنه رَدَّهُ إلى اللفظ.
قوله تعالى: {أَذَلِكَ} ابتداءٌ، يعني النعيم {خَيْرٌ} خبر {نُزُلًا} للمؤمن {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} للكافر، استفهام توبيخٍ وإنكارٍ، ومحلُّه رفع عطف على {أَذَلِكَ} ، والزَّقُّومُ: ثَمَرةُ شجرةٍ كريهةِ الطَّعْمِ جِدًّا، مُرّةٌ مُنْتِنةُ الرِّيحِ، قَبِيحةٌ خَبِيثةٌ، مأخوذٌ من قولهم: تَزَقَّمَ هذا الطعامَ أي: تَناوَلَهُ على كُرْهٍ ومَشَقةٍ شديدةٍ، ونصب {نُزُلًا} على البيان.
قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} ؛ لأن الناس كُلَّهُمْ مِنْ وَلَدِ نُوحٍ عليه السلام، وهم ثلاثةُ أولادٍ لنوحٍ: سامٌ وحامٌ ويافِثُ، فالعرب كلها يَمَنِيُّها ونِزارِيُّها، والرومُ والفُرْسُ من ولد سامٍ، والسودان
(1)
قال المبرد: "والعرب تُشَبِّهُ المرأةَ بالشمس والقِدْرِ والغُصْنِ والكَثِيبِ والغَزالِ والبقرة الوحشية والسحابة البيضاء والدُّرّةِ والبَيْضةِ، وإنما تقصد من كل شيء إلى شيء". الكامل في اللغة والأدب 3/ 54، فالنص مختلف، وأما النص الوارد هنا فهو في الوسيط للواحدي 3/ 525.
جميع أجناسهم من السند والهند والبربر والقِبْطِ من ولد حامٍ، والصَّقالِبةُ والتُّرْكُ ويأجوج ومأجوج من ولد يافث
(1)
.
ونصب {الْبَاقِينَ} لأنه مفعولٌ ثانٍ، و {هُمُ} زائدة، وتسمى فاصلةً.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} قيل: الهاء عائدةٌ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، حكاه السمرقندي عن الكلبي
(2)
؛ أي: وإن من شيعة محمدٍ لإبراهيم، أي: على دِيِنهِ ومِنْهاجِهِ، وأجازه الفراء
(3)
، ذكره صاحب الشفا بتعريف حقوق المصطفى
(4)
.
وقيل
(5)
: المراد به نوح عليه السلام؛ أي: وإنّ مِنْ أهْلِ مِلّةِ نُوحٍ، وعلى دِيِنهِ لَإبْراهِيمَ {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} يعني: صَدَقَ اللَّهَ، وآمَنَ به بقلبٍ خالصٍ من الشك والشرك، {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)} هذا استفهام توبيخٍ، وَبَّخَهُمْ على عبادة غير اللَّه، فقال:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)} {دُونَ} نصب نعت لـ {آلِهَةً} ، و {آلِهَةً} بدل من إفك، وإفك منصوب
(1)
قاله الطبري والنحاس، ينظر: جامع البيان 23/ 80، إعراب القرآن 3/ 426، وينظر أيضًا: الكشف والبيان 8/ 145، عين المعانِي 112/ أ، تفسير القرطبي 15/ 89.
(2)
تفسير السمرقندي 3/ 117.
(3)
قال الفراء: "يقول: إن من شيعة محمد لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، يقول: على دينه ومنهاجه، فهو من شيعته وإن كان إبراهيم سابقًا له، وهذا مثل قوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41]؛ أي: ذرية من هو منهم، فجعلها ذريتهم وقد سبقتهم". معاني القرآن 2/ 388.
(4)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/ 46.
(5)
قاله أكثر المفسرين، ينظر: جامع البيان 23/ 82، معاني القرآن وإعرابه 4/ 308، معاني القرآن للنحاس 6/ 38، زاد المسير 7/ 66، تفسير القرطبي 15/ 91.
بـ {تُرِيدُونَ}
(1)
، وقيل: معناه: أتَأْفِكُونَ إفْكًا
(2)
، وهو أسوأ الكذب، وتعبدون آلهةً سوى اللَّه؟ {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} إذا لَقِيتُمُوهُ وقد عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ، وهو ابتداءٌ وخبرٌ، كأنه قال: ما ظَنُّكُمْ أنه يَصْنَعُ بكم؟ وهذه كلمة تَهَدُّد ووعيدٌ، وقوله:{مَاذَا تَعْبُدُونَ} إن جعلت "ما" و"ذا" شيئًا واحدًا فمحله نصبٌ بـ {تَعْبُدُونَ} ، تقديره: أيَّ شَيْءٍ تعبدون؟ وإن جعلتهما اسمين فمحل "ما" رفع بالابتداء، و"ذا" خبره، تقديره: ما الذي تعبدون؟
(3)
.
قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)} يعني إبراهيم عليه السلام، وكان قومه يَتَعاطَوْنَ عِلْمَ النجوم، فعامَلَهُمْ من حيث كانوا يَتَعاطَوْنَهُ حتى لا ينكروا عليه، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}؛ أي: مريضٌ، والسُّقْمُ والسَّقَمُ: المَرَضُ، وهما لغتان مثل: حُزْنٍ وحَزَنٍ، وذلك أنهم كَلَّفُوهُ بالخروج معهم إلى عيدهم، فنظر إلى النجوم، يُرِيهِمْ أنه مُسْتَدِلٌّ بها على حاله، فلما نظر قال: إنِّي سقيمٌ، اعْتَلَّ بذلك ليتركوه، {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} يعني: ذاهبين منطلقين إلى عيدهم، وهو نصبٌ على الحال.
قوله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} ؛ أي: مال إليها مَيْلةً فِي خُفْيةٍ سِرًّا، {فَقَالَ
(1)
والمعنى: أتريدون إفْكًا عِبادةَ آلهةٍ، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقامه، وإنما قُدِّرَ مضافٌ لأن "إفْكًا" معنى، و"آلِهةً" عين، والبدل يجب أن يكون مثل المُبْدَلِ منه، ينظر: الفريد للهمدانِيِّ 4/ 135، وذهب الزمخشري إلى أن "إفْكًا" مفعول له، و"آلِهةً" مفعول به لـ "تُرِيدُونَ"، قال الزمخشري:"أإفْكًا: مفعول له، تقديره: أتريدون آلهةً من دون اللَّه إفْكًا، وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية، وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهمُّ عنده أن يُكافِحَهُم بأنهم على إفك وباطل في شِرْكِهِمْ". الكشاف 3/ 344.
(2)
يعني أنه مفعول مطلق لفعل محذوف.
(3)
ينظر: إعراب القرآن 3/ 428، مشكل إعراب القرآن 2/ 238.
أَلَا تَأْكُلُونَ (91)} يعني الطعام الذي يُجاءُ به بين أيدي الأصنام، وإنما قال هذا إبراهيمُ استهزاءً بها، وكذلك قوله:{مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)} .
ثم أقبل عليهم ضربًا كما قال اللَّه تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: فَمالَ وأقْبَلَ على الأصنام {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} قيل
(1)
: بيده اليُمْنَى لأنها أقوى من الشِّمال، وقيل
(2)
: أراد باليمين القَسَمَ الذي سبق منه، وهو قوله:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}
(3)
، ونصب {ضَرْبًا} على المصدر
(4)
، وقيل
(5)
: على الحال؛ أي: ضاربًا، وقيل
(6)
: على نزع الخافض؛ أي: بضرب.
قوله: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)} ؛ أي: يسرعون، يقال: جاء الرَّجُلُ يَزِفُّ زَفِيفَ النَّعامةِ، وهو أول عَدْوِها وآخر مَشْيِها، وقرأ يَحْيَى والأعمشُ وحمزة:"يُزِفُّونَ"
(7)
بضم الياء، وهما لغتان؛ أي: يصيرون إلى الزَّفِيفِ، ومثله قول الشاعر:
(1)
قاله الربيع بن أنس وابن قتيبة والزَّجّاجُ، ينظر: تأويل مشكل القرآن ص 242، معانِي القرآن وإعرابه 4/ 309، الإغفال للفارسي 2/ 188، الكشف والبيان 8/ 148.
(2)
بغير عزو في معاني القرآن للفراء 2/ 385، جامع البيان 23/ 86، 87، معانِي القرآن للنحاس 6/ 44، الإغفال 2/ 188، الكشف والبيان 8/ 148، الكشاف 3/ 345، المحرر الوجيز 4/ 479.
(3)
الأنبياء 57.
(4)
قاله الزَّجّاجُ والنحاس ومَكِيٌّ، ينظر: معانِي القرآن وإعرابه 4/ 309، إعراب القرآن 3/ 429، مشكل إعراب القرآن 2/ 238.
(5)
ينظر: التبيان للعكبري ص 1091، الفريد للهمداني 4/ 135، البحر المحيط 7/ 351، الدر المصون 5/ 508.
(6)
قاله السجاوندي في عين المعاني ورقة 112/ أ.
(7)
وبها قرأ مجاهدٌ والمفضلُ عن عاصم أيضًا، ينظر: السبعة ص 548، الإتحاف 2/ 412.
175 -
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أنْ يَسُودَ جِذاعُهُ
…
فَأَضْحَى حُصَيْنٌ قَدْ أذَلَّ وَأقْهَرا
(1)
ومعنى "أقْهَرَ" صار إلى القهر.
ويُقْرَأُ أيضًا: "يَزْفُونَ"
(2)
بفتح الياء مع التخفيف من: وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى: أسرع أيضًا، ولَمْ يعرفها الفراء ولا الكسائي
(3)
، قال الزجّاج
(4)
: وعَرَفَها غَيْرُهُما.
قوله: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} ؛ لأن إبراهيم عليه السلام علاهم بالحُجّة حين سَلَّمَهُ اللَّهُ من النار، ونصب {كَيْدًا} بوقوع الإرادة عليه، ويحتمل أن يكون نصبًا على المصدر.
قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} ؛ أي: لَمّا شَبَّ حتى بلغ سعْيُهُ سَعْيَ إبراهيم،
(1)
البيت من الطويل للمُخَبَّلِ السعدي، يهجو الزِّبْرِقانَ بن بدر وقومَه.
اللغة: حُصَيْنٌ: اسم الزِّبْرِق، انِ بن بدر، وكان رهطُ حُصَيْنٍ يُلَقَّبُونَ الجِذاعَ.
التخريج: ديوان المخبل السعدي ص 294 ضمن (شعراء مقلون)، معانِي القرآن للفراء 2/ 389، الغريب المصنف 2/ 597، أدب الكاتب ص 344، الجيم 3/ 131، الأضداد لابن الأنباري ص 235، إعراب القرآن للنحاس 429، تهذيب اللغة 5/ 395، مقاييس اللغة 5/ 35، المخصص 3/ 131، 12/ 205، 310، الاقتضاب 3/ 280، عين المعانِي ورقة 112/ أ، تفسير القرطبي 6/ 399، اللسان: جذع، قهر، خزانة الأدب 8/ 101، التاج: قهر، جذع.
(2)
لَمْ يُسَمَّ من قرأ بها، ينظر: تفسير القرطبي 15/ 95، 96، البحر المحيط 7/ 351.
(3)
ولَمْ يسمع الفراء أيضًا "يُزِفُّونَ" بضم الياء، قال:"كأنها من أزْفَفْتُ، وَلَمْ نسمعها إلّا من: زَفَفْتُ"، ثم قال:"وقد قرأ بعض القراء "يَزْفُونَ" بالتخفيف، كأنها من وَزَفَ يَزِفُ، وزعم الكسائي أنه لا يعرفها. وقال الفراء: لا أعرفها أيضًا إلا أن تكون لَمْ تقع إلينا". معانِي القرآن 2/ 388 - 389، وينظر قول الكسائي أيضًا في: معانِي القرآن وإعرابه 4/ 309، معانِي القرآن للنحاس 6/ 44 - 45، إعراب القرآن 3/ 429، تفسير القرطبي 15/ 95.
(4)
معانِي القرآن وإعرابه 4/ 309.
وكان يومئذٍ ابنَ ثلاثَ عَشْرةَ سنةً، {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} يريد: من الرَّأْيِ فيما ألْقَيْتُ إليكَ، وما الذي تذهب إليه؟ هل تستسلم وتنقاد أو تَأْبَى ذلك؟.
ومحل {مَاذَا} نصب بـ {تَرَى} لا بـ "انْظُرْ"؛ لأنه استفهامٌ فلا يعمل فيه ما قبله، وقرأ حمزة:"تُرِي"
(1)
بضم التاء وكسر الراء، ومعناه: ما تُشِيرُ؟ قال الفراء
(2)
: ماذا تُرِينِي من صبرك أو جزعك؟ {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ؛ أي: ما أُوحِيَ إليك من ذَبْحِي {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} على بلائه.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} يعني إبراهيم وابنه الذبيح؛ أي: انقادا وخضعا لأمر اللَّه تعالى، وَرَضِيا به، قال قتادة: سَلَّمَ هذا ابنَهُ، وهذا نَفْسَهُ، وقرأ ابن مسعود:"سَلَّما"
(3)
؛ أي: فَوَّضا {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} ؛ أي: صَرَعَهُ وأضْحَعَهُ، وكَبَّهُ على وجهه للذبح، وللوجه جبينان، والجبهة بينهما
(4)
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} فِي ذبح ابنك، قال أهل المعانِي
(5)
: الواو مُقْحَمةٌ صِلةٌ،
(1)
قرأ ابن مسعود وحمزة والكسائي وخلف والأعمش وطلحة والأسود بن يزيد وابن وثاب ومجاهد: "تُرِي" بضم التاء وكسر الراء، ينظر: السبعة ص 548، البحر المحيط 7/ 355، النشر 2/ 357، الإتحاف 2/ 413.
(2)
معانِي القرآن 2/ 390.
(3)
وبها قرأ أيضًا عَلِيٌّ وابنُ عباس ومجاهدٌ والضحاكُ والأعمشُ والثوريُّ وجعفرُ بنُ محمدٍ والحسنُ والمُطَّوِّعِيُّ، ينظر: مختصر ابن خالويه ص 129، المحتسب 2/ 222، تفسير القرطبي 15/ 104، البحر المحيط 7/ 355، إتحاف فضلاء البشر 2/ 413.
(4)
قاله أبو عبيدة وابن قتيبة والنحاس، ينظر: مجاز القرآن 2/ 171، غريب القرآن لابن قتيبة ص 373، معانِي القرآن للنحاس 6/ 51.
(5)
قاله الفراء في المعاني 1/ 238، 2/ 211، 390، وهذا القول حكاه النحاس عن الكوفيين، وأما البصريون فالجواب عندهم محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: فَلَمّا أسْلَما سَعِدا =
مجازه: ناديناه، كقوله تعالى:{وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا}
(1)
، وقوله:{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}
(2)
، قال امرؤ القيس:
فَلَمّا أجَزْنا ساحةَ الحَيِّ وانْتَحَى
…
بِنا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي قِفافٍ عَقَنْقَلِ
(3)
أراد: انْتَحَى، وقال الشاعر:
176 -
حَتَّى إذا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ
…
وَرَأَيْتُمُ أبْناءَكُمْ شَبُّوا
وَقَلَبْتُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنا
…
إنّ اللَّئِيمَ لَعاجِز خِبُّ
(4)
أراد: قَلَبْتُمْ.
= وأُجْزِلَ لهما الثوابُ. ينظر: إعراب القرآن 3/ 433، ومعاني القرآن للنحاس 6/ 51، مشكل إعراب القرآن 2/ 240، الجمل المنسوب للخليل ص 288، الكشاف 3/ 348، الفريد 4/ 39، عين المعانِي ورقة 112/ أ.
(1)
يوسف 15.
(2)
الأنبياء 96، 97، وقد تقدم ذلك في آخر الأنبياء 1/ 193.
(3)
تقدم البيت برقم 17/ 193.
(4)
البيت من الكامل، للأسود بن يَعْفُرَ، ويُرْوَى الأولُ:"امْتَلأتْ بُطُونُكُمُ"، ويُرْوَى الثانِي:"إنّ الغَدُورَ الفاحِشُ".
اللغة: البطون هنا: القبائل، قَمِلَتْ: كَثُرَتْ، المِجَنُّ: التُّرْسُ، وهو مَثَلٌ يُضْرَبُ لمن أسْقَطَ الحياءَ وفَعَلَ ما يشاء، ويضرب أيضًا لِمَنْ كان على مَوَدّةٍ لصاحبه ثم حالَ عن ذلك، الخِبُّ: الخَدّاعُ المُفْسِدُ.
التخريج: ديوان الأسود بن يعفر ص 19، معانِي القرآن للفراء 1/ 107، 238، 2/ 51، المقتضب 2/ 78، مجالس ثعلب ص 59، سر صناعة الإعراب ص 646 - 647، الأزهية ص 235 - 236، الكشف والبيان 8/ 157، أمالي ابن الشجري 1/ 121، الإنصاف ص 458، شرح المفصل 8/ 94، عين المعانِي ورقة 84/ ب، شرح التسهيل لابن مالك 3/ 355، رصف المبانِي ص 425، اللسان: قمل، الجنى الدانِي ص 165، خزانة الأدب 11/ 44 - 45.