الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة علوم البلاغة
عرف العرب - في جاهليتهم - بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وجمال التعبير كما اشتهروا بالإيجاز والبعد عن فضول الكلام، ولم يكن ذلك عن علم درسوه، ولا عن قواعد تعلموها وإنما كان ذلك كله سليقة وطبعاً.
بيد أنهم كانت لهم ملاحظات نقدية على بعض الشعراء، تداولتها كتب الأدب والنقد فيما بعد كالذي رووه من أن النابغة الذبياني كان حكم العرب في الجاهلية وكانوا يضربون له قبة من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها، فيقول فيها كلمته فتسير في الناس ولا يستطيع أحد أن ينقضها، قالوا: وقد جلس النابغة للفصل مرة وتقاطر عليه الشعراء ينشدون بين يديه آخر ما أحدثوه من الشعر، أو أجود ما أحدثوه، وكان فيمن أنشده: أبو بصير ميمون أعشى بني قيس، فما إن سمع قصيدته حتى قضى له، ثم جاء من بعده شعراء كثيرون فيهم حسان بن ثابت الأنصاري فأنشدوه، وجاءت في أخريات القوم: تماضر بنت عمرو بن الشريد الخنساء، فأنشدته رائبتها التي ترثى فيها أخاها صخراً، والتي تقول فيها:
وإن صخراً لنأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
فيروقه هذا الكلام ويأخذ بمجامعه فيقول للخنساء: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت: إنك أشعر الجن والإنس! ويسمع حسان ذلك فتأخذه الغيرة ويذهب الغضب بتجلده، فيقول للنابغة:"أنا - والله - أشعر منها، ومنك، ومن أبيك! ! ".
فيقبل عليه أبو أمامة، فيسأله: حيث تقول ماذا؟ ، فيقول: حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلممن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
…
فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
فيقبل عليه النابغة، فيقول:"إنك شاعر" ولكنك أقللت جفانك وسيوفك وقلت: "يلمعن بالضحى" ولو قلت: "يبرقن بالدجى" لكان أبلغ في المديح، لأن
الضيف في الليل أكثر، وقلت:"يقطرن من نجدة دماً" ولو قلت: "يجرين" لكان أكثر لإنصباب الدم.
وهم بذلك يكونون قد نظروا إلى المقام وما يقتضيه من كلام، كما أن لهم ملاحظات أخرى أثرت عنهم تبين أنهم قد نظروا إلى صحة الوزن وانسجامه وإلى المعنى وصوابه، بل تذكر أنهم قد نظروا إلى القصيدة بتمامها، وإلى نتاج الشاعر جميعه، كما يبدو ذلك من اختيارهم المعلقات، ومن نبذهم عدي بن ربيعة بالمهلهل، لما رأو في شعر، من اختلاف واضطراب وكما يبدو من تلقيبهم شعراءهم بألقاب تدل على مدى إحسانهم، كالنابغة، والأفوه، والمرقش، والمثقب، والمنخل، والمتنخل.
وانبثق فجر الإسلام، وطلعت شمس النبوة، وتوالى نزول آيات القرآن بلسان عربي مبين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فيتلوها على أصحابه، ويتلوها أصحابه على أسماع المسلمين فيحفظونها، وتتردد على أسماعهم آناء الليل وأطراف النهار، وينبهر العرب ببلاغة القرآن الكريم ويعجزون عن مجاراتها، ويسلمون بعجزهم عن أن يجيئوا بمثل أقصر سورة من القرآن، وصار المعاندون ممن كفروا به وأنكروه يقولون مرة: إنه شعر، ومرة أخرى: إنه سحر، وقد كانوا يجدون له وقعاص في القلوب وقرعاً في النفوس يريهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعاً من الاعتراف، ولهذا قال قائلهم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة.
أقبل المسلمون على القرآن الكريم؛ يتزودون من معينه الذي لا ينضب ويرتشفون من رحيقه العذب ويرتوون من مائه السلسبيل حتى رق إحساسهم وأرهفت مشاعرهم، وسلمت أذواقهم، وعرفوا من خواص التراكيب ما لم يكونوا يعرفون، وشهدوا من مظاهر النظم وخصائصه ما لم يكونوا يشهدون!
وكانت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أعطى جوامع الكلم ولا ينطق عن الهوى تتردد على الأسماع، والخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - كانوا خطباء مفوهين، وكانت لهم ملاحظات في نقد الكلام وبلاغته.
وإلى جانب كلام الله تعالى، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب الخلفاء الراشدين وملاحظاتهم فإن أموراً أخرى جدت بالإسلام دعت إلى الاهتمام بصياغة القول ونظم التراكيب وتصوير المعاني صوراً رائعة جذابة، كالصراع بين الأنصار والمهاجرين على الخلافة، والخلاف الذي نشب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فلما كان عصر بني أمية كثرت الملاحظات البلاغية، لازدهار الخطابة وتنوعها في هذا العصر، ولأن العرب كانوا قد تحضروا، واستقروا في المدن والأمصار وقامت الأسواق الأدبية على غرار سوق عكاظ في الجاهلية.
وقد كانت تلك الملاحظات البلاغية أساساً للدراسات البلاغية، التي بدأ تدوينها في العصر العباسي وقد كان أول علم يصنف فيه من علوم البلاغة الثلاثة:"المعاني، والبيان، والبديع"، هو علم البيان، فقد صنف أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفي سنة 206 هـ كتابه "مجاز القرآن" بعد سؤال وجه إليه في مجلس الفضل ابن الربيع والي البصرة للمأمون بن هارون الرشيد عن معنى قول الله تعالى - في شجرة الزقوم:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] وكيف شبه الطلق برءوس الشياطين وهي لم تعرف بعد، وينبغي التشبيه بشيء معروف، حتى يتبين المشبه ويتضح فأجاب أبو عبيدة، بأنه على حد قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فالمشبه به هنا - أيضاً - غير معروف، والقصد من هذا التشبيه هو تصوير المشبه بصورة مخيفة.
ورجع أبو عبيدة من فوره، فتقصى ما ورد في القرآن الكريم من ألفاظ قصد بها غير معانيها الموضوعة لها في اللغة، وضمنها كتابه "مجاز القرآن" وتابعه العلماء من بعده يكتبون في صور التشبيه والاستعارة، والكناية.
أما علم المعاني فإننا نجد لمسائله أثراً في كتاب سيبويه المتوفي سنة 180 هـ وفي "البيان والتبيين" للجاحظ المتوفي سنة 255 هـ، وفي "الصناعتين" لأبي هلال العسكري المتوفي سنة 395 هـ. ولكن يأتي عبد القاهر الجرجاني المتوفي سنة 471 هـ بعقليته النادرة، وبصيرته الواعية وأسلوبه الرشيق، فيتحف البلاغة العربية بكتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، ويضمنها نظريتيه في علمي: المعاني، والبيان.