الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن دخل في التفصيل شيء، كأن تريد أن هذا السواد صاف براق، والحمرة رقيقة ناصعة احتجت بقدر ذلك إلى إعمال المفكر، وذلك مثل تشبيه حمرة الخد بعمرة التفاح والورد.
فإن زاد تفصيله بخصوص تدق العبارة عنه ويتعرف بفضل تأمل ازداد الأمر قوة في الاحتياج إلى المفكر، وذلك نحو: تشبيه سقط النار بعين الديك في قوله:
وسقط كعين الديك عاورت صحبتى
…
أبدها وهيأنا لموقعها وكراً
وذلك لأن ما في عينة من التفصيل والخصوص زائد على كون الحمرة رقيقة ناصعة، والسواد صافياً براقاً.
ولهذا كان قول الشاعر:
كأنَّ على أنيابها كلَّ سحرةٍ
…
صياح البوازى من صريف اللوانك
ارفع طبقة من قوله:
كأن صليل المروحين تشذه
…
... صليل زيوف ينتقدن بعبقراً
لأن التفصيل والخصوص في صوت البازى أبين وأظهر منه في صليل الزيوف
…
وهكذا.
تفاوت التفصيل في وجه الشبة:
وإنما يفضل (حد التفصيليين الأخر بأن تكون قد نظرت في أحدهما إلى ثلاثة أشياء، أو ثلاث جهات، وفي الآخر إلى شيئين أو جهتين، ومثال ذلك قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
…
وأسافنا ليل تهاوى كواكبه
مع قول أبى الطيب المتبني:
يزود الأعادى فى سماء عجاجةٍ
…
أستنهُ في جانبيها الكواكب
أو قول عمرو بن كلثوم:
تبنى سنابكها من فوق أرؤسهم
…
سقفاً كواكبه البيض المباتير
فالتفصيل في الأبيات الثلاثة كأنه شيء واحد، لأن كل واحد منهم يشبه لمعان السيوف في الغبار بالكواكب في الليل، إلا أنك تجد لبيت بشار من الفضل ومن كرم الموقع ولطف التأثير ما لا يمكن إنكاره.
وذلك لأنه راعى ما لم يراعة غيره، وهو: جعل الكواكب "تتهاوى" فأتم التشبيه، وعبر عن هيئة السيوف وقد سلت من الأغماد وهى تعلو وترسب، وتجيء وتذهب، ولم يقتصر على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة، كما فعل الآخران.
وكان لهذه الزيادة التي زادها حظ من الدقة التي تجعلها في حكم تفصيل بعد تفصيل.
وذلك لأن إفادة هيئة السيوف في حركاتها - إنما أتت في جملة لا تفصيل فيها، إلا أن حقيقة تلك الهيئة لا تقوم في النفوس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة، لأن لها في حال احتدام الحرب واختلاف الأيدي بها في الضرب اضطرابا شديداً وحركات سريعة، ثم إن لتلك الهيئة جهات مختلفة وأحوالا تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض، وإن السيوف باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل ويقع بعضها في بعض، ويصدم بعضها بعضاً، ثم إن أشكال السيوف مستطيلة، وقد نظم هذه الدقائق كلها في نفسه ثم أحضرها لك بلفظة واحدة ونبه عليها بأحسن التنبيه، وكمله بكلمة واحدة هي:"تهاوى" لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل، ثم إنه بالتهاوي تستطيل أشكالها، فأما إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة.
ومن أبلغ الاستقصاء وعجيبه قول عبد الله بن المعتز:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدُجى
…
نطيرُ غراباً ذا قوادم جونَّ
فقد شبه ظلام الليل حين يظهر فيه الصبح بأشخاص الغربان، ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضاً، لأن تلك الفروق من الظلمة تقع في حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيل منها في العين، كشكل قوادم إذا كانت بيضاء وتمام التدقيق في هذا التشبيه في شيء آخر، وهو أنه جعل ضوء الصبح لقوة ظهوره