الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل والوصل
الوصل عند البلاغيين هو عطف جملة على أخرى بإحدى أدوات العطف.
والفصل: هو ترك هذا العطف، غير أن الذي يبحثون فيه إنما هو: العطف بالواو لأنها لمطلق الجمع، ولمجرد إشراك ما بعدها لما قبلها في إعرابه، بخلاف العطف بغيرها؛ لأنه وإن أفاد التشريك -أيضًا- إلا أن لكل حرف يفيد مع التشريك معنى آخر كالترتيب مع التعقيب في الفاء، والترتيب مع التراخي في ثم .. وهكذا.
فإذا توالت جملتان فإما أن يكون للأولى محل من الإعراب؛ بأن كانت واقعة في موقع الخبر، أو المفعول أو المضاف، وإما أن لا يكون لها محل من الإعراب، كالجملة الاستئنافية، وجملة الصلة.
فإذا كان للجملة الأولى محل من الإعراب فإما أن يقصد تشريك الثانية للأولى، في حكم الإعراب الذي لها، وإما أن لا يقصد تشريك الثانية للأولى في هذا الحكم.
فالحالة الأولى: وهي التي يقصد معها تشريك الجملة الثانية مع الأولى في الحكم الإعرابي -يجب فيها العطف، ليدل العطف على هذا التشريك.
وذلك كأن تكون الأولى خبرًا للمبتدأ، مثل:(محمد يعطي ويمنع) أو حالاً مثل: (قام يخطب ويشعر) أو صفة، مثل:(سلمت على رجل يأمر وينهي).
ويشترط لحسن الضعف في هذه الحالة: أن يكون بين الجملتين جهة جامعة، كالجهة الجامعة التي بين الكتابة والخطابة من التناسب، والتي بين الإعطاء والمنع من التضاد -كما سبق في المثالين- ومنه قول الله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، فالجهة الخاصة بين القبض والبسط هي: التقابل.
ولهذا لا يحسن أن تقول: محمد يقرأ ويمنع، أو محمد يعطي شعر؛ لأنه لا تناسب بين القراءة والمنع، ولا بين الإعطاء والشعر.
وقد عيب علي أبي تمام قوله -من قصيدة بمدح بها محمد بن الهيثم-:
لا والذي هو عالم أن النوى
…
صبر، وأن أبا الحسين كريم
فقد نفى الشاعر ما أدعته حبيبته من انصراف قلبه عنها، وأقسم على هذا، والدليل عليه قول قبل هذا البيت:
زعمت هواك عفا الغداة كما عفا
…
عنها طلول باللوى ورسوم
والشاهد في قوله: (أن النوى صبر، وأن أبا الحسين كريم) فقد عطف الجملة الثانية على الجملة الأولى، مع أنه لا مناسبة بين مرارة النوى، وكرم أبي الحسين، ولهذا كان العطف غير مقبول، فعابه النقاد على أبي تمام.
والحالة الثانية: وهي التي لا يقصد معها تشريك الجملة الثانية مع الأولى في الحكم الإعرابي، يجب فيها فصل الجملة الثانية عن الجملة الأولى، سواء وجد بينهما جامع أم لم يوجد بينهما جامع، وذلك لئلا يلزم من العطف التشريك الذي لم يكن مقصودًا، كما في قول الله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] فلم تعطف جملة: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة: {إِنَّا مَعَكُمْ} التي هي مقول القول؛ لأنه لو عطفت عليه للزم تشريكها لها في كونها مفعول {قَالُوا} ، فيلزم -حينئذ- أن تكون جملة:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من مقول المنافقين، مع أنها ليست في مقولهم، بل هي من مقول الله- سبحانه وتعالى.
ومن هذا الضرب -أيضًا- قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11، 12] وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]، فلو عطف قوله:{أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ} - في الآية الأولى- وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ} في الآية الثانية على الجملة التي قبلها لكان من مقولهم، مع أنه ليس من مقولهم.
وإذا لم يكن للجملة الأولى محل من الإعراب: فإما أن يقصد ربط الثانية بالأولى على معنى عاطف سوى الواو، وإما ألا يقصد ذلك.
فإن قصد ربط الثانية بالأولى على معنى عاطف سوى الواو، عطفت عليها بذلك العاطف -وإن لم توجد جهة جامعة- وذلك كقولك:(دخل محمد فخرج على) إذا كان خروج على عقيب دخول محمد بدون مهلة.
وكقولك: (جاء محمد ثم جاء على) إذا كان مجيء على بعد مجيء محمد بمهلة، وكقولك:(يعطيك محمد كتبًا، أو يقرضك مالاً)، إذا أردت أنه يفعل واحدًا منهما، ومنه قول الله تعالى:{سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27].
وذلك لأن لكل حرف من حروف العطف سوى (الواو) معنى خاصًا به، ووجوده كافٍ لصحة العطف- وإن لم تكن هناك جهة جامعة.
وإن لم يقصد ربط الثانية بالأولى على معنى عاطف سوى الواو، فلا يخلو الحال من أحد أمرين:
أولهما: أن يكون للجملة الأولى قيد زائد على مفهومها، مثل الحال أو الشرط أو الظرف ولم يقصد إعطاؤه للجملة الثانية، وهنا يجب الفصل، لئلا يلزم من الوصل التشريك في ذلك القيد مع أنه غير مقصود، وذلك كما في الآية السابقة: حيث لم تعطف جملة: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {قَالُوا} لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدم -وهو قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} وهذه المشاركة غير مقصودة؛ لأن جملة: {قَالُوا} مقيدة بظرف هو: {إِذَا} وتقديم الظرف يفيد الاختصاص، والمعنى أنهم يقولون:{إِنَّا مَعَكُمْ} في حال خلوهم بشياطينهم فقط، فلو عطفت جملة:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُوا} للزم أن يكون استهزاء الله بهم مختصًا بذلك الظرف لإفادة العطف تشريك الجملتين في الاختصاص به وهو باطل؛ لأن المراد باستهزاء الله بهم هو مجازاته لهم بالخذلان واستدراجهم من حيث لا يشعرون، وهذا متصل لا يتقيد بحال خلوهم إلى شياطينهم، ولهذا ترك العطف لتنتفي المشاركة في الاختصاص بذلك الظرف.
والآخر: ألا يكون للجملة الأولى قيد زائد على مفهومها أصلاً، أو يكون لها قيد رائد قصد إعطاؤه للثانية.
وعلى هذا الأساس بين البلاغيون مواضع الفصل والوصل: