الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والضحى وصوم أيام البيض فلا تكون واجبة، وقوله: فيؤكد به الاستصحاب، أي: هذا الاستدلال إنما واقع مؤكدًا لاستصحاب حال النفي الأصلي حتى لو لم يوجد هذا الاستدلال على نفي وجوبِ صلاةٍ سادسةٍ لكان النفي الأصلي مستقلًا بنفي وجوبها (1).
قوله:
الأسئلة الواردة على القياس
(2).
[الأسئلة الواردة علي القياس]
الأسئلة جمع سؤال (3)؛ وهو: قياسٌ فيما كان، على فُعال -بضم الفاء- يُجمع على أفعِلَة نحو: غُلام، وغراب، وحُوَار لولد الناقة إلا ما عساه يشذ عن ذلك (4).
وهذه الأسئلة من الأصوليين من أعرض عن ذكرها في الأصول كالغزالي في المستصفى رغم أنها كالعلامة على أصول الفقه، وأن موضع ذكرها علم الجدل (5).
ومنهم من ذكرها لأنها من مكملات القياس (6) الذي هو من
(1) انظر هذا المثال في شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 453).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (152).
(3)
السؤال هو الطلب. انظر: مادة "طلب" في: لسان العرب لابن منظور (11/ 318).
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 458).
(5)
سرد حجة الإِسلام الغزالي في المستصفى للغزالي (3/ 349) الاعتراضات ولم يفصّل فيها وقال: "وما يتعلق فيه تصويب نظر المجتهدين قد انطوى تحت ما ذكرناه وما لم يندرج تحت ما ذكرناه فهو نظر جدلي" اهـ.
ولكنه فصل في المنخول الكلام فيها انظره ص (505).
(6)
جعلها الإِمام الرازي خمسة وهو النقض، وعدم التأثير والقول بالموجب، =
أصول الفقه، ومكمل الشيء من ذلك الشيء، والأسئلة هنا: هي الاعتراضات (1) التي تتوجه للمعترض على المستدل.
قوله: الاستفسار ويتوجه على الإجمال (2).
= والقلب، والفرق، وزاد البيضاوي واحدًا وهو الكسر، وأوصلها ابن الحاجب وابن مفلح وتبعهم المرداوي فذكرها خمسة وعشرين كما ذكرها المصنف في ص (256) ونقلها عن الآمدي، واكتفى ابن قدامة في الروضة بعشرة وجعل الباقي راجعة إليها، ولم يذكر الاستفسار والتركيب فهذا منهج المتكلمين في عرض القوادح أما الحنفية فإنهم يقسمون العلل إلى نوعين: الأول: العلل الطردية: ويراد بها العلل التي تثبت عليتها بالدوران أو الإخالة. وجعلوا لدفعها أربعة هي: القول بموجب العلة، ثم الممانعة، ثم بيان فساد الموضع، ثم المناقضة. ثانيًا: العلل المؤثرة وذكروا لدفعها طريقين: فاسد وصحيح.
أ - الطريق الصحيح وله أربعة: الممانعة، والقلب المبطل، والعكس الكاسر، والمعارضة بعلة أخرى.
ب - الطريق الفاسد وله أربعة أوجه هي: المناقضة، وفساد الوضع، وقيام الحكم مع عدم العلة، والفرق بين الفرع والأصل. انظر: أصول السرخسي (2/ 232)، الواضح لابن عقيل (2/ 191)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 929)، شرح مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 257)، المحصول للرازي (5/ 235)، الأحكام للآمدي (4/ 92)، نهاية السول للأسنوي (4/ 145)، بديع النظام لابن الساعاتي (2/ 643)، شرح تنقيح الفصول (400)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 459)، تشنيف المسامع للزركشي (323)، البحر المحيط للزركشي (5/ 260)، أصول ابن مفلح (3/ 1352)، التحبير للمرداوي (7/ 3544)، شرح الكوكب لابن النجار (4/ 230)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 241)، إتحاف ذوي البصائر د. النملة (7/ 445).
(1)
أي أن المعترض يُنصّب نفسه لنفي هذا الحكم سائلًا أو معترضًا.
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (152).
الاستفسار (1): طلب تفسير اللفظ وبيان المراد به. وهذا السؤال متوجه على الإجمال، أي: وارد عليه، ويَسُوغ للمعترض أن يطالب بتفسير لفظ المستدل إذا كان مجملًا؛ لأن المجمل لا يفيد معنى معينًا (2).
قوله: وعلى المعترض إثباته ببيان احتمال اللفظ معنيين فصاعدًا، لا ببيان التساوي لغيره (3).
على المعترض إثبات الإجمال في لفظ المستدل، إذ لا يكفي في ثبوته مجرد دعواه؛ لأن ذلك فتح لباب العناد، إذ كل معترض لا يعجز أن يقول للمستدل: لفظك مجمل فَبَيِّنْه، فيُلزم المستدل بذلك ما لا يلزمه. فطريقه (4) إلى ذلك أن يبين أنّ لفظه يحتمل معنيين فصاعدًا احتمالًا مطلقًا، ولا يَلزَمه بيان تساوي الاحتمالات لأن ذلك يعسر عليه فتسقط فائدة الاعتراض (5).
قوله: وجوابه بمنع التعدد أو رجحان أحدهما بأمر ما (6).
(1) الاستفسار: من الفَسْر وهو كشف المغطى. انظر: مادة "فسر" في: القاموس المحيط للفيروزآبادي ص (456).
ويقدمه العلماء ومنهم المصنف لأنه فرع عن فهم معنى النص، ولذلك قال المرداوي في التحبير:"لأنه المقدم على كل اعتراض، وإنما كان مقدم الاعتراضات؛ لأنه إذا لم يعرف مدلول اللفظ استحال توجه المنع أو المعارضة، وهما مراد الاعتراضات كلها" اهـ. انظر: التحبير للمرداوي (7/ 3546).
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 460).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (152).
(4)
أي: المعترض.
(5)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 930)، أصول ابن مفلح (3/ 1352).
(6)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (152).
جواب المعترض على هذا السؤال بوجهين (1):
أحدهما: مَنع تعدّد احتمالات اللفظ إن أمكن، بأن يقول: لا نسلم بأن هذا اللفظ مجمل بل ليس له إلا محمل واحد، ويبين ذلك عن أئمة اللغة (2).
أو بأنا اتفقنا على أن اللفظ يُطلَق على هذا المعنى الواحد، والأصل عدم جواز إطلاقه على غيره، نفيًا للمجاز والاشتراك فمن ادعى إطلاقه عليه، فعليه الدليل.
الوجه الثاني: أن يبَيّن رجحان اللفظ في أحد المجملين، بأمرٍ ما من الأمور المرجحة، إما: بالنقل عن أهل اللغة، أو باشتهاره في عرفهم. ومتى أجاب المستدل عن هذا السؤال بأحد الأجوبة المذكورة. انقطع المعترض بالنسبة إلى هذا السؤال، وله إيراد غيره.
تنبيه: قال بعضهم في كون الاستفسار من جملة الاعتراضات: نظرًا لأن الاستفسار طليق حبس الاعتراضات، وليس من أقسام الاعتراضات؛ إذ الاعتراض عبارة عما يخدش به
(1) لخص المصنف كلام الطوفي من شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 463).
(2)
يبيّن ذلك إما بنقل من اللغة: كما لو اعترض عليه بقوله: الوضوء قربة فتجب له النية، فيقول المعترض: الوضوء يطلق على النظافة، وعلى الأفعال المخصوصة، فما المقصود بالذي تجب له النية؟ فيقول: الحقيقة الشرعية، وهي الأفعال المخصوصة، أو بنقل من العرف، مثل قوله: قرء تحرم فيه الصلاة، فيحرم الصوم، فقرينة تحريم الصلاة فيه يدل أن المراد به الحيض. انظر الأمثلة في: التحبير للمرداوي (7/ 3550).
كلام المستدل، والاستفسار ليس هو من هذا القبيل بل هو معرف المراد، ومبين له ليتوجه عليه السؤال. فإذًا هو طليق السؤال وليس بسؤال (1).
قوله: الثاني: فساد الاعتبار: وهو مخالفة القياس نصًّا، لحديث معاذ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يقيسوا إلا مع عدم النص (2).
إنما سمي هذا فساد الاعتبار؛ لأن اعتبار القياس مع النص؛ اعتبارٌ له مع دليل أقوى منه وهو اعتبار فاسد وظلم، لِأنه وضع له في غير موضعه، والنص يشمل الكتاب والسنة، ومثَّلوا ما خالف الكتاب، بقولهم في تبييت النية: صوم مفروض فلا يصح بنية من النهار، كالقضاء، فيقال: هذا فاسد الاعتبار، لمخالفة قوله تعالى:{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} (3) فإنه يدل على أنّ كلّ من صام يحصل له الأجر العظيم وذلك يستلزم الصحة (4).
وما خالف السنة بقولهم: لا يصح السّلم في الحيوان؛ لأنه عقد يشتمل على الغرر فلا يصح كالسلم في المختلطات. فيقال: هذا فاسد الاعتبار لمخالفة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص في السلم)(5).
(1) انظر: تشنيف المسامع للزركشي (3/ 391)، البحر المحيط للزركشي (5/ 318)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 231).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (152).
(3)
سورة الأحزاب، آية (35).
(4)
وهذا قد صام، فيكون صومه صحيحًا. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 467).
(5)
ذكر شيخ الإِسلام في مجموع الفتاوى (20/ 529) قوله: "وهذا لم يرو =
وذكروا في فساد الاعتبار ما خالف الإجماع، ولا شك أنه منه وإنما لم يذكره المصنف؛ لأن الإجماع لا بد له من الاستناد إلى نص فلأجل هذا لم يذكره. ومثاله أن يقول الحنفى: لا يجوز أن يغسل الرجل زوجته لأنه يحرم النظر إليها، فحرم غسلها كالأجنبية. فيقال له: هذا فاسد الاعتبار لمخالفة الإجماع السكوتي وهو أن عليًّا غسل فاطمة ولم ينكر عليه (1)، والقضية في مظنة الشهوة، فكان ذلك إجماعًا (2)
= في الحديث وإنما هو من كلام بعض الفقهاء"، وأخرج في نصب الراية (4/ 45) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبع ما ليس عندك ورخص في السلم"، وحديث السلم أخرجه البخاري. انظر: صحيح البخاري مع الفتح (4/ 500)، كتاب السلم، باب السلم في كيل معلوم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والنّاس يسلفون في التمر العام والعامين - أو قال عامين أو ثلاثة، شكّ إسماعيل. فقال (من سلّف في تَمْرٍ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم). برقم (2239)؛ وأخرجه مسلم (12263) كتاب المساقاة، باب السلم برقم (127).
(1)
أخرجه الإِمام الشافعي عن أسماء بنت عميس قالت (غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 396، 397) كتاب الجنائز، باب المرأة تغسل زوجها، وعبد الرزاق في المصنف (3/ 410) كتاب الجنائز، باب المرأة تغسل الرجل برقم (6117)، والدارقطني في سننه (2/ 79) كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر برقم (13).
قال ابن حجر في التلخيص الحبير (2/ 143: إسناده حسن. وقال الشوكاني في نيل الأوطار (5/ 20): وسنده حسن. والحديث حسنه الألباني في إرواء الغليل (1623).
(2)
قال الشوكاني في نيل الأوطار (5/ 20): "ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على علي وأسماء فكان إجماعًا سكوتيًّا".
كما سبق في بابه (1). وقوله لحديث معاذ (2): يشير إلى أنّ معاذًا لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: (كيف تقضي؟ ) قال: أقضي بكتاب الله عز وجل قال: (فإن لم يكن في كتاب الله؟ ) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) قال: أجتهد رأيي. قال: (الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)(3).
(1) انظر مختصر أصول الفقه، للجراعي، القسم الأول ص (517).
(2)
معاذ بن جبل بن عمرو الخزرجي، المدني، البدري، العقبي، صحابي شهد بدرا وعمره عشرون سنة، توفي سنة 18 هـ. انظر: أسد الغابة لابن الأثير (5/ 194)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (1/ 433).
(3)
حديث معاذ أخرجه الإِمام أحمد في المسند (5/ 230، 236، 242)، والدارمي (1/ 72) وغيرهم، والعلماء على خلاف في تصحيح الحديث وتضعيفه، فيمن ضعفه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 277)، وابن الجوزي في العلل المنتاهية (2/ 758)، والجوزفاني في الأباطيل والمناكير (1/ 106)، وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 424)، والعقيلي، والدارقطني، وعبد الحق الأشبيلي، والسبكي، وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/ 286). وممن صححه ابن حجر قال في موافقة الخُبر الخَبر (1/ 119): "وقد أطلق صحته جماعة من الفقهاء كالباقلاني، وأبي الطيب الطبري، وإمام الحرمين، لشهرته وتلقي العلماء له بالقبول"؛ وصححه العظيم أيادي في عون المعبود (9/ 369)، وابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/ 364)، وحسّنه الذهبي في تلخيص العلل المتناهية ص (269)، وقال في سير أعلام النبلاء للذهبي (1/ 472):"إسناده صالح"، وصححه الشوكاني في إرشاد الفحول (2/ 322) بقوله:"فالحديث صالح للاحتجاج به وإن كان في إسناده ضعف وجهالة، لكن يعتضد بقبول العلماء له، والآثار الصحيحة المرفوعة على الصحابة"، والله أعلم.
رواه أبو داود (1) والترمذي (2) وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ففي الحديث تقديم النص على القياس وقد صوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدل على أن رتبة القياس بعد النص فتقديمه عليه يجب أن يكون باطلًا، وهو المراد بفساد الاعتبار، وأيضًا فإن الصحابة رضي الله عنه، لم يقيسوا إلا مع عدم النص، وأيضًا فإن الظن المستفاد من كلام صاحب الشرع، أقوى من الظن المستفاد من القياس والرأي (3).
قوله: وجوابه بمنع النص، أو استحقاق تقديم القياس عليه لضعفه أو عمومه أو اقتضاء مذهب له (4).
جواب المعترض هنا يأخذ شيئين، إما: بمنع النص الذي ادعى أن القياس على خلافه، إما: منع دلالة، أو: منع صحة.
مثال الأول: أن يقول في مسألة الصوم: لا نسلِّم أن الآية تدلّ على صحة الصوم بدون تبييت النية لأنها مطلقة، وقيدناها بحديث:(لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل). أو يقول: إنها دلّت على أن الصائم يثاب، وأنا أقول به، لكنها لا تدلّ
(1) انظر: سنن أبي داود (3/ 303) كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء عن معاذ، والحارث بن عمرو برقم (3592، 3593).
(2)
انظر: سنن الترمذي (3/ 607)، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي؟ من حديث الحارث بن عمرو، برقم (1327، 1328).
(3)
انظر: شرح مختصر الطوفي (3/ 468)، التحبير للمرداوي (7/ 3555).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (152).
على أنه لا يلزمه القضاء، والنزاع فيه، أو يقول: أنها دلت على ثواب الصائم، وأنا لا أسلِّم أن الممسك بدون تبييت النية صائم.
ومثال الثاني: أن يقول في مسألة السلم: لا نسلِّم صحة الترخيص في السلم؛ وإن سلمنا، فلا نسلِّم أن اللام فيه للاستغراق، فلا يتناول الحيوان، وإن صح السلم في غيره.
وأما مسألة [غسل](1) الزوجة، فبِأَن نمنع صحة ذلك عن علي، وإن سلّم، فلا نسلِّم أن ذلك اشتهر، وإن سلّم، فلا نسلم أن الإجماع السكوتي حجة (2)، وإن سلَّم، فالفرق بين علي وغيره؛ أن فاطمة زوجته في الدنيا والآخرة، فالموت لم يقطع النكاح بينهما بإخبار (الصادق صلى الله عليه وسلم)(3) بخلاف غيرها فإن الموت يقطع نكاحها.
(1) ساقطة من المخطوط، وأثبتها ليستقيم بها المعنى، وهي موجودة في: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 470).
(2)
انظر: المختصر في أصول الفقه لابن اللحام، للجراعي، القسم الأول ص (490).
(3)
أخرج الحديث عبد الرزاق في مصنفه (5/ 486 - 489)، كتاب المغازي باب تزويج فاطمة، برقم (9782)، والطبراني في الكبير (22/ 410) برقم (1022)، و (24/ 132) برقم (362)، مجمع الزوائد للهيثمي (9/ 210 - 212). ولفظ الطبراني من حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنه:"والذي نفسي بيده لقد زوّجْتك سعيدًا في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين". وفي الحديث يحيى بن العلاء قال عنه الهيثمي: "متروك". وقال الإِمام أحمد: "إنه كذاب"، وقال ابن معين:"ليس بثقة"، وقال الدارقطني:"متروك الحديث".
الجواب الثاني: الثاني للمعترض أن يُبيِّن المستدلّ أن ما ذكره من القياس يستحق التقديم على النص الذي أبداه المعترض، إما لضعفه، أي: لكون النص ضعيفًا، فيكون القياس أولى منه، أو يكون النص عامًا، فيكون القياس مخصصًا له، جمعًا بين الدليلين، أو لكون مذهب المستدل يقتضي تقديم القياس على ذلك النص، لكونه حنفيًا يرى تقديم القياس على الخبر إذا خالف الأصول، أو فيما تعمّ به البلوى. أو مالكيًا يرى تقديم القياس إذا خالفه خبر الواحد كما سبق في موضعه (1).
تنبيه: فساد الاعتبار إنما يَردُ على القياس، وكذلك فسادُ الوضع المذكور يُعَد بخلاف سؤال الاستفسار؛ فإنه لا يختصّ بالقياس، بل يرد على المنصوص بطريق الأولى؛ لأن الإجمال والغرابة تقع فيها، كما تقع في ألفاظ القياس (2).
قوله: الثالث: فساد الوضع. وهو اقتضاء العلة نقيض ما علق بها، نحو: لفظ الهبة ينعقد به غير النكاح، فلا ينعقد به النكاح كالإجارة، فيقال: انعقاد غير النكاح به يقتضي انعقاده به لتأثيره في غيره (3).
ينبغي أن نعرف أولًا وضع القياس، حتى يسهل معرفة فساد وضعه، فصحَّة وضع القياس: أن يكون على هيئةٍ صالحةٍ بحيث يترتب عليه ذلك الحكم المطلوب إثباته، وحينئذ ففساد الموضع أن
(1) انظر ص (194، 203).
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 475).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (153).
يكون على هيئة غير صالحة لأن يترتب عليه ذلك الحكم (1)، فقولنا في النكاح بلفظ الهبة: لفظ ينعقد به غير النكاح، فلا ينعقد به النكاح، فيقول الحنفي: هذا فاسد الوضع لأن انعقاد غير النكاح بلفظ الهبة يقتضي انعقاد النكاح به، لتأثيره في غيره ويلتزم عليه الإجارة أو يفرق بينها وبين النكاح إن أمكن (2).
قوله: وجوابه بمنع الاقتضاء المذكور أو بأن اقتضاءها لما ذكر المستندل أرجح (3).
جوابه بأحد أمرين: إما بأن يمنع المستدلّ كون علته تقتضي نقيض ما علق بها، أو بأن يسلم ذلك، لكن يبين أن اقتضاءها للمعنى الذي ذكره، هو أرجح من المعنى الآخر، فيقدم لرجحانه.
مثل أن يقول: انعقاد النكاح بلفظ الهبة يقتضي أنّ اللفظ مشترك بينها، أو مجاز في النكاح؛ والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل، وما ذكرته يقتضي نفيهما، وتخصيص كل عقد بلفظ وهو وفق الأصل، وما وافق الأصل يكون أولى مما خالفه (4).
(1) ذكره المصنف من تشنيف المسامع للزركشي (3/ 371).
(2)
أي: تأثيره في انعقاد غير النكاح -وهو الهبة- دليل على أن له حظًّا من التأثير في انعقاد العقود، والنكاح عقدٌ فلينعقد به، كالهبة. شرح مختصر الروضة للطوفي (473).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (153).
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 475).
قوله: فإن ذكر الخصم شاهد الاعتبار ما ذكره فهو معارضه (1).
فإن ذكر المعترض شاهدًا لاعتبار ما ذكره من اقتضائه نقيض الحكم بأن قال: الوصف المذكور يقتضي نقيض الحكم الذي علقت أنت عليه، إذ انعقاد غير النكاح به يقتضي انعقاد النكاح به، ويشهد لذلك أصل آخر بالاعتبار، وهو لفظ البيع حيث ينعقد به غير البيع، وهو السلم والإجارة، فيصير معارضة وانتقالًا من الاعتراض بفساد الوضع إلى إيراد المعارضة وهو انقطاع.
واعلم أن فساد الوضع أعم من فساد الاعتبار (2)؛ لأن القياس قد يكون صحيح الوضع وإن اعتبر فاسدًا بالنظر إلى أمر خارج، فيلزم من فساد الوضع فساد الاعتبار (3). ولا عكس.
قوله: الرابع: المنع: وهو منع حكم الأصل (4)، ولا ينقطع
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (153).
(2)
قادح المعارضة في الفرع: أن يبين المعترض، ما يقتضي نقيض حكم المستدل في الفرع، إما بنص أو إجماع أو بوجود وصف مانع أو بفوات شرط للحكم. أما معارضة قياس المستدل بالنص أو الإجماع، فإنه يدل على أن ما ذكره المستدل فاسد الاعتبار. أما معارضة قياس المستدل بالوصف -أن ما ذكره المستدل من وصف يقتضي ثبوت الحكم إلا أن عندي وصفًا آخر يقتضي نقيفن الحكم- وهو قادح المعارضة. انظر: إتحاف ذوي البصائر د. النملة (7/ 2269).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 478).
(4)
منع حكم الأصل: أن يمنع المعترض وجود الوصف المعلل به في الأصل والفرع، وليس المراد به منع حكم الأصل فقط، وهو على أربعة أضرب وسيذكرها المصنف. انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 932)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 481)، التحبير للمرداوي (7/ 3565).
به المستدل على الأصح. وله إثباته بطرقه، ومنع وجود المدعى علة في الأصل فيثبته حسًّا، أو عقلًا، أو شرعًا بدليله، أو وجود أثرٍ أو لازم له ومنع علّيته، ومنع وجودها في الفرع فيثبتهما بطرقهما (1).
المنع تكذيب دعوى المستدل (2)، ويرجع تارة إلى الأصل وتارة إلى الفرع.
فالأول (3): ثلاثة أنواع:
أحدها: منع حكم الأصل: نحو قولنا في إزالة النجاسة بالخل: الخل مائع فلا يرفع الحدث، فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن. فيقول الحنفي: لا أسلم الحكم في الأصل، فإن الدهن عندي يزيل النجاسة (4).
ولا ينقطع (5) المستدل على الأصح بمجرد منع حكم
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (153).
(2)
انظر: الواضح لابن عقيل (2/ 218).
(3)
أي: النوع الأول من أنواع المنع والذي يرجع إلى الأصل.
(4)
انظر المثال في منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص (193)، الأحكام للآمدي (4/ 75)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 262)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 188).
(5)
اختلف الفقهاء في انقطاع المستدل بتوجيه منع حكم الأصل على أربعة أقوال، وهذا القول الأول منها وهو قول الجمهور، وهو الذي صححه ابن الحاجب ووافقه المصنف وابن قدامة وابن السبكي، وحكاه ابن مفلح والمرداوي أنه قول أصحابنا والأكثر، وقال الزركشي:"وهو أصحها". =
الأصل. لأنه منع مقدمة من مقدمات القياس فليمكن من إثباته كسائر المقدمات (1). والثاني: ينقطع، لأنه انتقال من حكم الفرع إلى حكم الأصل، فلا يتم مقصوده فينقطع (2). وفيه مذهب ثالث: إن كان المنع جليًّا بحيث يعرفه أكثر الفقهاء صار منقطعا وإن كان خفيًّا بحيث لا يعرفه إلا الخواص فلا (3).
وفيه مذهب رابع: يتبع في ذلك عرف المكان (4)، فإن عَدّوه منقطعًا فذاك وإلا لم ينقطع ويحنث (5).
= انظر: الواضح لابن عقيل (2/ 219)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 933)، منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص (193)، الإحكام للآمدي (4/ 76)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 482)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 189)، أصول ابن مفلح (3/ 1355)، رفع الحاجب لابن السبكي (4/ 428)، تشنيف المسامع للزركشي (3/ 383)، شرح المحلى على جمع الجوامع (2/ 327)، التحبير للمرداوي (7/ 3568)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 246).
(1)
ذكر ابن الحاجب أنه لا ينقطع إجماعًا. انظر: منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص (193)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 189).
(2)
انظر القول الثاني في: الأحكام للآمدي (4/ 75).
(3)
القول الثالث وهو اختيار أبو إسحاق الإسفرائيني. نقله عنه الآمدي في الأحكام الآمدي، وأبي البركات. انظر: الأحكام للآمدي (4/ 75)، المسودة لآل تيمية ص (401)، شرح المحلى على جمع الجوامع (2/ 326)، تشنيف المسامع للزركشي (3/ 383).
(4)
نسبه الآمدي والأصفهاني للغزالي. انظر: الأحكام للآمدي (4/ 76)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 189).
(5)
قال الطوفي في شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 484): "إن كانوا يعدون منع حكم الأصل انقطاعًا، انقطع، وإلا فلا". وعلله الشيخ فهد السدحان بقوله: "لأنه أمر وضعي لا مدخل للشرع والعقل فيه". انظر: أصول ابن مفلح (3/ 1355) هامش (3).
قلنا: لا ينقطع فله إثبات حكم الأصل بطرق من نص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس على أصل آخر (1).
فلو قال المستدل: يجب غسلُ ولوغِ الخنزير سبعًا، قياسًا على الكلبِ، فقال الحنفي المعترض: لا أُسلِّم الحكم في الكلب، وإنما يغسل ثلاثًا أو بأكثر، في قوله المستدل: الدليل على غسل نجاسة الكلب سبعًا، قوله عليه الصلاة والسلام:(إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم. .. )(2) الحديث.
النوع الثاني: منع وجود الوصف المدعى علة في الأصل، كما لو قال المستدل في جلد الكلب: حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعًا فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير. فمنع الخصم وجوب غسل الإناء من الخنزير سبعًا فيثبته المستدل إما حسًا، أو عقلًا، أو شرعًا، بدليله الصالح له في كل مسألة (3). وفي هذا المثال إنما يثبت بدليل شرعي، وإثباته بالحس: كالقتل، والسرقة، والغصب ونحوه، فإنها أمور محسوسة. وكما لو قال: نكحت
(1) إذا منع المعترض حكم الأصل، فلا ينقطع المستدل. وهو توضيح لاختيار المصنف لقول الجمهور. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 486).
(2)
الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار). انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري لابن حجر (1/ 274) كتاب الوضوء؛ ومسلم (1/ 234) كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب برقم (89).
والولوغ: بالفتح: إذا شرب بطرف لسانه، أو أدخل لسانه وحركه. انظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 274).
(3)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 933).
نفسها مع وجود الولي، فلا يصح كما لو أنكحها أجنبي بجامع الإفتيات (1) الضار بالأولياء. فيمنع وجود الإفتيات في الأصل فيقول: هو موجود بدليل الحس. وهو أن نشاهد وجهه متغيرًا، وإثباته بالعقل كوجود الشدّة المطربة في الخمر فإنه يعرف بالعقل، أو نثبته بالاستدلال على وجوده عند وجود أثر من آثاره أو للازم له (2).
فالأول: كدلالة لحوق النسب على عدم وجوب الحد لأن لحوق النسب من آثار الواطئ الذي ليس بحرام (3).
والثاني: كدلالة الثمنية على الذهب والفضة. فلو سلم المعترض وجود الوصف في الأصل ومنع عليته فهو النوع الثالث (4) ويسمى سؤال المطالبة، ويأتي بيانه (5)، كقوله: لا أسلم أن الإسكار علة في تحريم الخمر، وأما المنع الراجع إلى الفرع فهو أن تسلم علة الوصف في الأصل وبمنع وجودها في الفرع (6)
(1) الافتيات: افتأت عليَّ الباطل إذا اختلقه، انظر مادة "فأت" في مختار الصحاح للرازي ص (205)، ومحيط المحيط لبطرس البستاني: ص: (675).
(2)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 933)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 486).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 487).
(4)
أي: منع كون الوصف الذي أتى به المستدل علة.
انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 263)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 487)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 934).
(5)
سيأتي في ص (316).
(6)
انظر النوع الرابع في روضة الناظر لابن قدامة (3/ 934)، الإحكام للآمدي (4/ 76).
كقوله: لا أسلم وجود الإسكار في النبيذ. وقول المصنف: فيثبتهما، أي: العلة، ووجودها في الفرع، وقوله: بطرقهما، فطرق العلة أحد مسالكها المتقدمة، ووجودها في الفرع بأحد طرقه من تنقيح مناط ونحوه (1).
المثال الجامع لأقسام المنع: النبيذ مسكرٌ فكان حرامًا كالخمر. فإن منع المعترض تحريم الخمر إما جهلًا (2)، أو عنادًا، فهو منع حكم الأصل، وإن منع وجودَ الإسكار في الخمر، كان منع وجود الوصف المدعى علّة في الأصل، وإن منع كون الإسكار علة التحريم فهو منع علة الوصف (3)، وإن منع وجود الإسكار في النبيذ فهو منع وجود العلة في الفرع (4).
قوله: الخامس: التقسيمُ، ومحله قبل المطالبة لأنه منع، وهو تسليم، وهو مقبولٌ بعد المنع، بخلاف العكس، وهو: حَصْرُ المعترض مدارك ما ادّعَاه المستدل علّة وإلغاء جميعها (5).
التقسيم في الاصطلاح: "تردّد اللفظ بين احتمالين متساويين، أحدُهما: مسلم يُحصِّل المقصود، والآخر ممنوع وهو يُحصل المقصود". ذكره في تشنيف المسامع (6).
(1) انظر ص (134).
(2)
بالحكم.
(3)
أي: في الأصل.
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 481).
(5)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (153).
(6)
انظر: تشنيف المسامع للزركشي (3/ 394).
وقال التاج: "هو كون اللفظ مترددًا بين أمرين أحدهما ممنوع"(1).
وقال ابن مفلح: "هو احتمال لفظ المستدل لأمرين أحدهما ممنوع"(2)، وأما ما ذكره المصنف (3)، من أن حصر المعترض مدارك مما ادعاه المستدل علة وإلغاء جميعها فإنه تابع فيه الطوفي في مختصره (4). وهو وهم؛ لأن الطوفي قد أقر بالوهم في شرحه (5).
فقال بعد ذكر حد الآمدي: "التقسيم: ترديد اللفظ بين احتمالين مستويين، واختصاص كل احتمال باعتراض مخالف للاعتراض على الآخر"(6). وهذا أولى بتفسير التقسيم المراد ها هنا، والظاهر أنه الذي أراده في الروضة لكنه لم يفصح به غاية الإفصاح، فوهمت فيه عند إلاختصار وذهبت فيه إلى التقسيم المستعمل في تخريج المناط (7).
وموضعه من الأسئلة قبل سؤال المطالبة تأثير الوصف لأن التقسيم منع لوجود اللعلة رأسًا، والمطالبة تسليم لوجود العلة ومنع
(1) انظر: جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 333)، وهذا تعريف ابن الحاجب. انظر: شرح مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 262).
(2)
انظر: أصول ابن مفلح (3/ 1357).
(3)
المراد به: ابن اللحام في المتن.
(4)
انظر: البلبل في أصول الفقه ص (222).
(5)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 492).
(6)
انظر: الأحكام للآمدي (4/ 77).
(7)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 492).
لتأثيرها، والتسليم بعد المنع مقبول لأن فائدة المناظرة رجوع أحد الخصمين إلى قول الآخر بعد إنكاره عند ظهور الحق، بخلاف العكس، وهو: المنع بعد التسليم؛ لأنه إذا اعترف به لا يفيد منعه بعد ذلك لما يؤدي، في انتشار الكلام (1).
والمدارك: جمع مَدرك -بفتح الميم- وهو الطريق الذي يتوصل به إلى إدراك الشيء (2). فإذا حصر المعترض الطرق التي يمكن التّوصّل بها إلى معرفة كون الوصف الذي ادعاه المستدل علّة، وألغاها جميعًا، واستقرَّ ذلك له؛ بطل التعليل، أَذَكَره المستدل وإلا فله تصحيحُ ما ادّعاه بالقدحِ في ما ذكره المعترض، هذا تفسير كلام المصنف وقد علمت ما فيه.
قوله: وشرطه صحة انقسام ما ذكره المستدلّ إلى ممنوع ومسلم، وإلا كان مكابرةً. وحصره لجميع الأقسام، وإلا جاز أن ينهض الخارجُ عنها بغرض المستدلّ، ومطابقته لما ذكره، فلو زاد عليه لكان مناظرًا لنفسه لا للمستدل (3).
يشترط لصحة وروده ثلاثة أمور (4):
أحدهما: انقسام ما ذكره المستدل إلى أمرين فصاعدًا بعضها
(1) انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 935)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 490).
(2)
انظر: مادة "درَك" في لسان العرب لابن منظور (10/ 419).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (153).
(4)
انظر هذه الشروط في: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 935)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 493).
ممنوع وبعضها مسلّم، وإن لم يكن محتملًا لأمرين كان إيراده مكابرة أو لعبًا (1).
كما لو قال: شراب مسكر فكان حرامًا كالخمر، فيقول (2): مسكر شرعي، أو لغوي، أو عقلي؟ ونحو ذلك (3)؛ لأن ما ليس له إلا احتمال واحد يجب حمل اللفظ عليه في أول الأمر، وكذا ما له احتمالان، أحدهما ظاهر يجب حمل اللفظ على ما هو الظاهر، وأما المحتمل لأمرين فكقول المستدل في الصحيح في الحضر (4) وُجد السبب بتعذر الماء فجاز له التيمم، فيقول المعترض: السبب تعذر مطلقًا، أفي سفر أو مرض. الأول: ممنوع فهو منع بعد تقسيم.
الأمر الثاني: حصر لجميع الأقسام التي يحتملها لفظ المستدل، فإن لم يكن تقسيمه حاصرًا، جاز أن يَنهَض القسمُ الباقي، الخارج عنها بفرض المستدل، فينقطع المعترض، كما لو قال المعترض: هذا العدد إما مساوٍ لهذا العدد أو أقل منه، فيقول المستدل: أو أكثر وهو مرادي.
أو يقول المعترض: فعل مأمور به على وجه الفرض، أو على وجه الإباحة؟ فيقول المستدل: بل على وجه الندب وهو مرادي.
(1) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 493)، الأحكام للآمدي (4/ 77).
(2)
أي: المعترض.
(3)
أو يقول: مسكر ذوقي أو حقيقي. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 494).
(4)
أي: عندما لا يجد الماء.
ونحوه قول الحنبلي: الوتر إما فرض وإما نفل، والأول باطل، فتعين الثاني. فيقول الحنفي: لا فرض ولا نفل، بل واجب (1).
الأمر الثالث: مطابقته لما ذكره المستدل، فلو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ (2) المستدل عليهما، وأورد الاعتراض عليهما كان مناظرًا لنفسه لا للمستدل.
مثاله: قول الحنفي في مسألة إجبار البكر البالغة: عاقلة بالغة، فلا تجبر على نكاح الرجل، فيقال: عاقلة بالغة، وهي بكر أو ليست ببكر؟ فهذا تقسيم مردود؛ لأن دليلَ المستدل لم يتعرّض للبكر وجودًا ولا عدمًا، فذِكر المعترض له تقويلٌ للمستدلّ ما لم يقل، أو إعراض عن مناظرته إلى مناظرة المعترض نفسه (3).
قوله: وطريق صيانة التقسيم أن يقول المعترض للمستدل. إن عَنيْت بما ذكرت كذا وكذا، فهو محتمل مسلَّم، والمطالبة متوجهة، وإن عنيتَ غيره، فهو ممتنع ممنوع (4).
طريق صيانة التقسيم عن الفساد أن يجعل المعترض تقسيمه دائر بين قسمين:
أحدهما: يَعُمّ ما سوى القسم الآخر، فلا يخرُج عنه شيءٌ
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 495).
(2)
أي: أن المعترض لا يورد في التقسيم زيادة على ما ذكره المستدل في دليله، فإن زاد في التقسيم على ما ذكره المستدل، لم يصح. شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 495).
(3)
وهذا يبطل التقسيم. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 496).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (154).
من الأقسام، فيقول: إن أردتَ بقولك كذا، فمسلّم، وإن أردتَ غيره، فممنوع؛ لأن لفظ: غيره، يتناول ما عدا القسم المصرح به.
مثاله: أن يقول: هذا العدد مساوٍ أو غير مساوٍ فيتناول غير المساوي [الأقل](1) والأكثر.
ومعنى قوله: فهو محتمل مسلم، أي: إن أردت كذا، فمحتمل تنزيل لفظك عليه، ومُسلم صلاحيته للعلة، والمطالبة متوجهة، أي: أنا أطالبك بالدليل على كونه علةً، إذ لا يلزم من صلاحيته للعلة كونه علة، وإن أردت غير ذلك، فممتنعٌ، أي: يمتنع، ولا يصحّ حملُ لفظك عليه، وممنوع صلاحيته للعلة. والله تعالى أعلم (2).
واعلم أن هذا السؤال رده الجمهور (3) ومنعه بعضهم (4).
(1) هكذا في المخطوط، وفي شرح مختصر الروضة ورد "والأقل".
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (154).
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 497).
(4)
اختلف العلماء في سؤال التقسيم هل يقبل من المعترض أو لا؟ على مذهبين: الأول: مذهب الجمهور: أنه يُقبَل للمعترض أن يورد التقسيم، قال المرداوي في التحبير:"لكن بعد أن يبين المعترض محل التردد". وقال: "وعليه: أصحابنا والأكثر". الثاني: ما ذهب إليه ابن الحاجب وابن الجوزي، أنه لا يقبل، فليس للمعترض إيراد التقسيم. انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 935)، الإيضاح لقوانين الاصطلاح لابن الجوزي (213)، منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص (194)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 188)، التحبير للمرداوي (393)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 252).
قوله: السادس: المطالبةُ: وهي طلب دليل عِليّة الوصفِ من المستدل، ويتضمن تسليم الحكم، ووجود الوصف في الأصل والفرع، وهو ثالث المنُوع المتقدمة (1).
المطالبة: من أعظم الأسئلة الواردة على القياس لعموم ورودها على كل ما يدعى كونه علة وليس مجمعًا عليه (2)، وهي: طلبُ دليل عليّة الوصفِ الجامع بين الأصل والفرع من المستدل (3).
مثاله: قول المستدل في مسألة النبيذ: مسكرٌ، فكان حرامًا كالخمر، أو مكيل، فحَرُم فيه التفاضُل كالبُرّ، فيقول المعترض: ما الدليل على أن الإسكار علّة التحريم؟ وأن الكيل علّة الرّبا؟ والمطالبة بدليل العليّةِ يتضمن تسليم الحكم، وهو تحريم الخمر، والربا في البُر؛ لأن العلة فرع الحكم في الأصل لاستنباطها منه كما سبق (4). وتسليم الفرع يشعر بتسليم أصله ويتضمن أيضًا تسليم وجود الوصف المدعى علة في الأصل والفرع. وهو ثالث المنوع المتقدمة في السؤال الرابع، الراجعة إلى الأصل الموعود هناك
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (154).
(2)
انظر: الأحكام للآمدي (82/ 4)، التحبير للمرداوي (5/ 3577).
(3)
انظر: التمهيد لأبي الخطاب (4/ 125)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 937)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 263)، الأحكام للآمدي (4/ 82)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 334).
(4)
النوع الثالث من المنع وهو منع كون الوصف الذي أتى به المستدل علة، والمطالبة بتصحيح ذلك.
انظر: ص (154).
ببيانه، وجوابه إن بيان عليته بما تقدم من نص كتاب أو سنة أو إجماع أو استنباط (1).
قوله: السابع: النقض، وهو: إبداء العلة بدون الحكم، وفي بطلان العلة به خلاف سبق (2).
النقض نوعان:
أحدهما نقض على العلة: وهو عبارة عن تخلف الحكم مع وجود ما ادعى كونه علة (3).
مثاله: إذا قال المستدل في النباش: سرَق نصابًا كامِلًا من حرز مِثله، فيقطع، كسارق مال الحي، فيقول المعترض: ينتقض بالوالد يسرِق مالَ ولدِه، فإنّ الوصف موجودٌ ولا قطع.
وكذا قوله: قَتل عمد عدوان، فأوجب القصاصَ، ينتقض بقتل الأب ولدَه، والسيدِ عبدَه، والمسلمِ الذِّمّي. فإن الوصف موجود، والقصاص منتفٍ (4)، وفي بطلان العلة به خلاف سبق؛ في قوله: واختلف في اطراد العلة، وهو استمرار حكمها. في
(1) انظر ص (216).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (154).
(3)
انظر هذا السؤال في: العدة لأبي يعلى (177)، اللمع للشيرازي ص (114)، البرهان للجويني (2/ 634)، أصول السرخسي (2/ 233) ، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 937)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 268)، الإحكام للآمدي (4/ 118)، شرح تنقيح الفصول (399)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 138)، أصول ابن مفلح (3/ 1220)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 281).
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 501).
أوائل القياس (1).
قوله: ويجب احتراز المستدل في دليله عن صورة النقض [على الأصح](2)(3) لأنه أقرب إلى الضبط، وأدفع لانتشار الكلام، فيزيد في الوصف الأوّل (4): وليس أبًا، وفي الثاني: خال عن مانع الإيلاد والملك والتفاوت في الدين.
والقول بالوجوب (5) اختاره في الواضح (6) والروضة (7) وأبو محمد البغدادي (8) وذكره عن معظم الجدليين.
وقيل: لانتفاء (9) المعارض ليس من الدليل لحصول العلم أو الظن بدون التعرض له، ولأن الدليل يتم بدونه.
(1) انظر ص (188).
(2)
هكذا في المخطوط، وهي غير موجودة في المطبوع، وموجودة في جميع مخطوطات شرح مختصر أصول الفقه لابن اللحام، ومثبتة في البلبل للطوفي.
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (154).
(4)
كما في المثال السابق بأن يقول: سرق نصابًا كاملًا من حرز مثله، وليس أبا. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 501)، وكذلك المثال الثاني في قتل عمد عدوان.
(5)
اتفق العلماء على استحباب الاحتراز في صورة النقض، واختلفوا في الوجوب على ثلاثة أقوال: الأول: وجوب الاحتراز وهو قول الجمهور، قال المرداوي في التحبير (7/ 3622): وهو الصحيح. انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 940)، الأحكام للآمدي (4/ 89).
(6)
الواضح لابن عقيل (2/ 100).
(7)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 940).
(8)
جاءت النسبة إليه في: أصول ابن مفلح (3/ 1369)، التحبير للمرداوي (7/ 3622)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 292).
(9)
القول الثاني: عدم وجوب الاحتراز.
وقيل (1): يجب إلا في نقض وطرد بطريق الاستثناء. (2)
قوله: ودفعه إما بمنع وجود العلة، أو الحكم في صورته، ويكفي المستدل قوله: لا أعرف الرواية فيها، إذ دليله صحيحٌ، فلا يبطل [بمشكوك](3) فيه (4).
دفع النقض يحصُلُ إما: بمنع وجود العلَّةِ في صورة النقض، أو: بمنع الحكم الذي يدعيه المعترض في صورة النقض.
مثاله (5): قول الحنفي في قتل المسلم بالذمي: قتل عمد عدوان، فوجبَ القصاص، كالمسلم، فينقض الخصم بالمعاهد، [فإنه قتل عمد عدوان] (6) ولا قصاص فيقول: لا أُسلِّم أنه عدوان، فهذا منعُ وجود العلة في صورة النقض، فيندفع النقض، إذ النقض وجود العلة ولا حكم، فإذا لم توجد العلة في صورة النقض فلا نقض.
(1) القول الثالث: وذهب إليه ابن الحاجب واختاره العضد. انظر: مختصر ابن الحاجب وشرح العضد (2/ 268).
(2)
انظر: التحبير للمرداوي (7/ 3623).
(3)
في المخطوط "بمشارك"، والصحيح ما أثبته من مختصر أصول الفقه لابن اللحام المطبوع وهو الموجود في جميع مخطوطات مختصر ابن اللحام، وانظر: البلبل للطوفي ص (223).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (154).
(5)
الطريق الأول لدفع المستدل للنقض: وهو منع وجود العلة. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 503).
(6)
ما بين المعقوفتين مطموس في المخطوط، والمثبت من شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 503).
ثم له أن يقول: إنما تخلف الحكم في هذه الصورة لعدم علته، فهو يدل على صحة ما عللت به عكسًا، وهو انتفاء الحكم لانتفائه (1)، فإن قلت: سلّمت أنه عمد وعدوان، ولكن لا أسلم عدمَ القصاص في المعاهد؛ كان هذا منعًا للحكم الذي ادعاه المعترض في صورة النقض، فيندفع به النقض أيضًا، لأنه لم يثبت تخلف حكم المستدل عن علته. ومسألة قول المستدل في مسألة الثيب الصغيرة: ثيب فلا يجوز إجبارها قياسًا على الثيب البالغ، فينقض المعترض بالثيب المجنونة فإنه يجوز إجبارها، فيقول المستدل: لا أسلم جواز إجبار الثيب المجنونة.
ويكفي المستدل في منع الحكم في صورة النقض قوله في الثيب المجنونة: لا أعرف الرواية فيها بصحة الإجبار، ولا يشترط التصريح بقوله: لا أسلم صحة إجبارها إذ دليله صحيح فلا يبطل لشكوك فيه، لأنه يحتمل أن الحكم لم يتخلف عن العلة في صورة النقض بل ثبت على دفعها فلا يرد النقض، ويحتمل أن يكون على خلافها، والدليل الصحيح لا يبطل بالشك (2).
قوله: وليس للمعترض أن يدُلّ على ثُبوت ذلك في صورة النقض، لأنه انتقال وغصبٌ (3).
ليس للمعترض أن يدل على ثبوت الذي ادعاه في صورة
(1) الطريق الثاني. وفيه يقوم المستدل بمنع ما ذهب إليه المعترض من تخلف الحكم عن العلة في صورة النقض.
(2)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 503).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (155).
النقض من العلة أو الحكم (1)، إذا منعها المستدل، لأنه انتقال من مقام الاعتراض إلى مقام الاستدلال، وغصب لمنصب المستدل، هذا كله فيما إذا منع وجود العلة أو منع الحكم المدعى في صورة النقض.
قوله: أو ببيان مانع أو انتفاء شرط تَخَلَّفَ لأجله الحكم في صورة النقض (2).
فإن سلّم وجود العلة، أو الحكم المدعى في صورة النقض، فلدفع النقض طريقان آخران: بيان مانع أو انتفاء شرط (3).
مثال المانع: إذا قتل الوالد ولده، على علّةِ القتل العمد العُدوان، قيل: تخلّف الحكم هنا لمانع الأبوّة.
ومثال فوات الشرط: لو قال المستدل: سرق نصابًا كاملًا لا شبهة له فيه، فيقطع بالسرقة من غير حرز، فيقول: تخلف الحكم لانتفاء شرطه وهو الحرز (4).
(1) القول الأول وهو للجمهور واكتفى به المصنف، وأما القول الثاني: للمعترض أن يدلل على وجود العلة أو الحكم في صورة النقض؛ لأنه يتحقق به سؤاله ونقضه لقياس المستدل، والقول الثالث: وهو إن تعذّر على المعترض الاعتراض بغير النقض جاز له إثبات العلة في صورته. وهو للآمدي. انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 939)، الإحكام للآمدي (4/ 90)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 503).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (155).
(3)
أن يبين المستدل بأن الحكم الذي تخلف الحكم فيه مع وجود علته بسبب وجود مانع أو انتفاء وفوات شرط.
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 505).
قوله: ويسمع من المعترض نقض أصل خصمه، [فيلزمه](1) العذر عنه، لا أصل نفسه، نحو: هذا الوصف لا يطّرد على أصلي فكيف يلزمُني؟ إذ دليلُ المستدل المقتضي للحكمِ حجة عليه في صورةِ النقض، كمحلّ النزاع (2).
كما لو قال الحنفي في قتل المسلم بالذمي: قتل عمد عدوان، فأوجب القصاص، قياسًا على المسلم، فيقال: ينتقض على أصلك (3) بما إذا قتله بالمثقل، فإن الأوصاف موجودة ولا قصاص عندك أيها المستدل، فيلزمه العذر عنه بما يليق به، من كون تخلف الحكم في صورة النقض إنما هو لوجود مانع أو فوات شرط، ولا يسمع من المعترض بيان تخلف الحكم عن العلة على إبداء النقض على أصل نفسه (4) نحو قول الحنبلي: الذمي كافر فلا يقتل به المسلم قياسً على الحربي، فيقول الحنفي: هذا الوصف لا يطرد على أصلى إذ هو منتقض بالمعاهد، فإنه كافر، ويقتل به المسلم عندي، فكيف تلزمني به
(1) هكذا في المخطوط، وكذلك في البلبل للطوفي، وفي مختصر أصول الفقه لابن اللحام:"فيلزم".
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (155).
(3)
النقض الذي يورده المعترض، إما أن يتجه إلى أصل المستدل، أو يتجه إلى أصل نفسه، أي المعترض. الحالة الأولى: إن توجه النقض إلى أصل المستدل، لزمه الجواب عن سؤال النقض، والاعتذار عن ذلك، ويكتفي بالاعتذار بذكر أي أصل يوافق أصله، ولا يحق للمعترض الاعتراض عليه. وإن لم يجب المستدل ظهر فساد قياسه. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 506).
(4)
الحالة الثانية: إذا توجه النقض إلى أصل نفسه، أي: المعترض.
فلا يقبل ذلك. إذ دليل المستدل المقتضي للحكم -وهو الكفر- في المثال، حجة عليه في صورة النقض، وهو المعاهد، كمحل النزاع وهو الذمي، فيقول المستدل: ما ذكرته من الدليل حجة عليك في الصورتين، ومذهبك في صورة النقض لا يكون حجة في دفع الاحتجاج، وإلا كان حجة في محل النزاع وهو محال، فيندفع النقض (1).
قوله: أو ببيان ورود النقض المذكور على المذهبين، كالعرايا على المذاهب (2).
الطريق الثاني: إن ورود النقض المذكور على المذهبين (3). مذهب المستدل ومذهب المعترض كالعرايا (4) فإنها واردة على علة الربا على المذاهب كلها، لأن تخلف الحكم عنها في معرض الاستثناء، والمستثنى لا يقاس عليه ولا يعارض به، إذ ليس بطلان مذهب المستدل به أولى من بطلان مذهب المعترض.
قوله: وقول المعترض: دليل عِليَّة وصفك موجودٌ في صورة
(1) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 506).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (155).
(3)
من طرق الجواب على النقض أن يبيّن المستدل أن الحكم في صورة النقض، قد ورد مستثنى عن القاعدة عند المعترض والمستدل.
(4)
كما إذا قال المستدل: مكيلٌ، فحرم فيه التفاضل، فأورد المعترض العرايا، إذ هي مكيلٌ، وقد جاز فيه التفاضل بينه وبين التمر المبيع به على وجه الأرض، فيقول المستدل: هذا وارد عليَّ وعليك جميعًا. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 507)، وغاية السول إلى علم الأصول لابن المبرد ص (411).
النقض، غير مسموع، إذ هو نقض لدليل العلّة، لا لنفس العلة فهو انتقال (1).
مثال قول -الحنفي في صوم الفرض-: إذا نوى قبل الزوال أتي بمسمى الصوم، فيصبح كما لو بيت النية، وإنما قلنا: أتى بمسمى الصوم، لأنه عبارة عن الإمساك من أول اللهار إلى آخره مع النية فينتقض المعترض بما أتى إذا نوى بعد الزوال فإنه أتى بمسمى الصوم، فيمنع المستدل وجود العلة فيما إذا نوى بعد الزوال، فيقول المعترض: هذا المنع ينقض دليل المذكور (2) على وجود علة صحة الصوم فيما إذا نوى قبل الزوال.
قوله: ويكفي المستدل في رده أدنى دليل يليق بأصله (3).
فلو قال الحنفي: في قتل المسلم بالذمي قتل عمد عدوان، فأوجب القصاص، كقتل المسلم، فمنع المعترض كون قتل الذمي عدوانًا، فيقول (4): دليل كونه عدوانًا أنه معصوم بعهد الإسلام، فيعترض بأن دليل العدوانية في قتل الذمي موجود في قتل المعاهد فليجب بقتله القصاص على المسلم، فيقول: أنا لم أحكم بالعدوانية في قتل المعاهد لمعارض لي في مذهبي؛ وهو أن
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (155).
(2)
فإذا كان النقض بمنع العلة أو الحكم في صورة النقض أو النقض على المذهبين فإنه انتقال من سؤال إلى آخر. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 508)، الإحكام للآمدي (4/ 89)، مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 268)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 284).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (155).
(4)
أي: المعترض.
المعاهد موقت العهد، بخلاف الذمي فإنه مؤبد العهد، فصار كالمسلم (1).
قوله: والكسر: وهو إبداء الحكمة دون الحكم (2).
النوع الثاني -من النقض-: الكسر، واختلفَ في تعريفه ففي المنهاج:"أنه عدم تأثير أحد جزأي العلة ونقض المؤثر"(3)، وهو قضية كلام الرازي (4)، وعبر الآمدي وابن الحاجب عن هذا بالنقض المكسور (5) -وهو تعبير حسن- وجعلا الكسر:"إبداء الحكمة بدون الحكم وعليه جرى المصنف"(6). قال الآمدي:
(1) فهذا نقض لدليل العلّة، لا لنفس العلّة، فلا يسمع، لأنه انتقال. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 509).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (155).
(3)
انظر: منهاج الوصول مع نهاية السول للأسنوي (4/ 204).
(4)
فيكون معنى التعريف عند الإمام الرازي والبيضاوي وابن السبكي: أن العلة -أو الوصف- مركبة من جزأين: الأول: لا تأثير له في الحكم، ولا يستلزمه بمعنى أن الحكم يوجد بدونه. الثاني: منقوض، أي: يوجد ويتخلف الحكم عنه. انظر: المحصول للرازي (5/ 244)، نهاية السول للأسنوي (4/ 204)، جمع الجوامع لابن السبكي مع حاشية البناني (2/ 303).
(5)
انظر: الإحكام للآمدي (3/ 233)، منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص (196)، شرح مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 221، 269).
(6)
هذا تعريف أكثر الحنابلة وجمهور الحنفية وبعض المالكية، والآمدي، وابن الحاجب كما ذكره المصنف.
انظر: العدة لأبي يعلى (5/ 1454)، اللمع للشيرازي ص (114)، التمهيد لأبي الخطاب (4/ 168)، أصول السرخسي (2/ 233، 283)، الجدل لابن عقيل ص (65)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 940)، شرح مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 269)، الإحكام للآمدي (3/ 231)، أصول ابن مفلح (3/ 1227)، =
"وهو نقض على العلة دون ضابطها"(1). وقال أكثر الأصوليين والجدليين: "الكسر عبارة عن إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وإخراجه عن الاعتبار"(2) أي: تبيين أن أحد جزأي العلة لا أثر له. قال الشيخ أبو إسحاق: "واتفق أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة [به](3)، ويسمونه النقض من طريق المعنى (4). مثاله: قول الحنفي في مسألة العاصي بسفره: مسافر فيترخص في سفره، كالعاصي في سفره، ثم يبين مناسبة السفر للترخص بما فيه من المشقة فيقول المعترض: ما ذكرت من الحكمة وهي المشقة منكسر، أي: منتقض بأصحاب الصنائع الشاقة كالحمالين ونحوهم (5).
قوله: غير لازم، [فَرُدَّ] (6): إذ الحكمةُ لا تَنضبِط بالرأي، فَرُدّ ضبطها إلى تقدير الشارع (7).
= تشنيف المسامع للزركشي (3/ 338)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 46)، التحبير للمرداوي (7/ 3624)، شرح الكوكب لابن النجار (4/ 293)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 281)، نشر البنود للعلوي (2/ 215).
(1)
انظر: الإحكام للآمدي (3/ 230، 336).
(2)
انظر: اللمع للشيرازي ص (114)، المنخول ص (515)، الواضح لابن عقيل (2/ 290)، الجدل لابن عقيل ص (65)، تشنيف المسامع للزركشي (3/ 338).
(3)
ساقطة وأثبتها من الملخص للشيرازي ليستقيم بها المعنى.
(4)
الملخص للشيرازي ص (698)، وشرح اللمع للشيرازي (2/ 894).
(5)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 511).
(6)
ساقطة من المخطوط، وأثبتها من مختصر أصول الفقه لابن اللحام المطبوع.
(7)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (156).
اختلف الناس في هذا (1) هل هو مبطل العلة أم لا؟ والأكثرون (2) على أنه: غير لازم للمستدل، ولا مبطل للعلة، إذ الكلام إنما هو مفروض في الحكمة التي لا تنضبط بنفسها بل بضابط، وحينئذ فلا يخفى أن مقدارها مما لا ينضبط بالرأي، لاختلافه باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال، فيرد ضبطها إلى تقدير الشارع، ودأْب الشارع فيما هذا شأنه، ردُّ الناس إلى المكانة الظاهرةِ الجلية، دفعًا للعسر عن الناس، فيمتنع التعليل بها دون ضابطها، وإذا كانت العلة هي السفر لا الحكمة وورد نقض على الحكمة لم يؤثر ذلك في عِليَّة الوصف فيجب العمل به (3).
(1) اختلف في الكسر هل يصلح أن يكون ناقضًا للعلة أم لا؟ على مذهبين اكتفى المصنف بالراجح عنده وأما القول الثاني وهو أن الكسر يعتبر قادحًا وناقضًا للعلة، وهو مذهب بعض المالكية ونسبه أبو إسحاق الشيرازي إلى أكثر أهل الجدل وقال:"الكسر سؤال صحيح والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة، وقد اتفق أهل العلم على صحته". انظر: الملخص في الجدل ص (699)، الواضح لابن عقيل (291)، التمهيد لأبي الخطاب (4/ 169)، المسودة لآل تيمية ص (429).
(2)
القول الذي اختاره المصنف هو مذهب الحنابلة وهو رأي القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب والإمام الغزالي وابن الحاجب وابن الهمام. واختاره الآمدي ونسبه إلى أكثر الأصوليين. انظر: العدة لأبي يعلى (4/ 1454)، أصول السرخسي (2/ 233)، المنخول ص (515)، التمهيد لأبي الخطاب (4/ 169)، شرح مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 223)، الإحكام للآمدي (3/ 231)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 1144)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 341).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 514).
قوله: وفي اندفاع النقض بالاحتراز عنه بذكر وصفٍ في العلّة لا يؤثر في الحكم ولا يعدم في الأصل لعدمه نحو: قولهم في الاستجمار: حكم يتعلق بالأحْجار، يستوى فيه الثيب والأبكار، فاشترِط [له](1) العدد، كرمي الجمار، خلافُ الظاهر: لا، لأن الطردي لا يؤثر مفردًا، فكذا مع غيره، كالفاسقِ في الشهادة (2).
هذه الجملة مركّبة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ قوله:"خلاف"، والخبر قوله:"وفي اندفاع النقض إلى آخره" وهو مقدّم كقولهم: في المسألة خلاف، ومعنى هذه الجملة؛ أن المعلل إذا احترز عن النقض، بذكر وصفٍ في العلة غير مؤثر في الحكم وجودًا وعدمًا، بحيث لا يتوقف وجودُه على وجودِه، ولا يُعدَم بعدمِه، فهل يندفع النقض عن علته بذلك؟ فيه خلاف (3).
ومثاله: ما ذكره في الأصل (4) فإن قوله: الاستجمار حكم يتعلّق بالأحجار وصف شبهي صحيح. وقوله: يستوي فيه الثيّب والأبكار، لا تأثير له في اشتراط العددِ ولا عدمه، وإنما أُتِيَ به دفعًا لنقض القياس المذكور بحدّ الرّجم، فإنه حكمٌ يتعلّق بالأحجار، فلو اقتصر على هذا الوصف في الاستجمار لوَرَد عليه
(1) هكذا في المخطوط، وفي المطبوع "وفيه".
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (156).
(3)
انظر الخلاف في: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 940)، والإحكام للآمدي (4/ 123)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 269)، وتيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 146).
(4)
انظر ص (131).
حدّ الرجم، فلما قال: يستوى فيه الثيب والأبكار، خرج حد الرجم، وزال النقض به.
فمن قال: يندفع النقض عن العلة بذلك، قال: لأن العلة يشترط إطرادها، فإذا لم يكن الوصف المؤثّر في الحكم مطردًا، ضممْنا إليه وصفًا غير مؤثر ليتحقق اطرادها، وتكون فائدة المؤثّر دفع النقض.
ومن قال: لا يندفع النقض بذلك -هو الصحيح (1) - قال: إنّ الوصف الطردي غير المؤثر والمناسب لا يعتبر إذا كان مفردًا، فكذلك لا يعتبر مع غيره من الأوصاف المعتبرة، كالفاسق في الشهادة، لا تقبل شهادته وحده، فيما تقبل فيه شهادة الواحد، كذلك لا تقبل شهادته مع غيره فيما يعتبر فيه شهادة أكثر من واحد.
وحاصل الجملة المذكورة أنّ النقض هل يندفع بذكر وصف طردي في العلة؟ فيه خلاف، الأصح: لا، لأن الطرديّ لا يصلُحُ للاستقلال في العلة المفردة، فلا يصلح للإعانة في العلة المركبة (2).
قوله: ويندفع بالاحتراز عنه بذكر شرط في الحكم عند أبي الخطاب، نحو: حرّان مكلّفان محقونا الدم، فجرى بينهما القصاص في العمد، كالمسلمين؛ إذ العمد أحد أوصاف العلة
(1) انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 940)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 515).
(2)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 514).
حكمًا، وإن تأخر لفظًا، والعبرة بالأحكام لا الألفاظ، وقيل: لا؛ إذ قوله: في العمد، اعترافٌ بتخلف حكم علّته عنها في الخطأ، وهو نقضٌ.
والأول: أصح (1).
يعني إذا احترز عن نقض العلة بذكر شرط في الحكم بأن قيّده بشرط أو وصفٍ؛ هل يندفع النقض بذلك أم لا؟ فيه خلاف بين أبي الخطاب (2) وغيره.
مثاله: أن يقول المعلل: حران مكلفان محقونا الدم، فجرى بينهما القصاص في العمد كالمسلمين، فمن زعم أن النقض لا يندفع بذلك، قال: لأن العلة هي الأوصاف المذكورة قبل الحكم، فيجب [ثبوت](3) الحكم حيث ثبتت، فتقييد الحكم بعد ذلك بشرطٍ أو وصفٍ يدل على فسادها، إذ لو صحت، لما احتاج إلى الاحتراز بتقييد الحكم، فإن العلة تقتضي أنه حيث وجد حران مكلفان محقونا الدم يجري بينهما القصاص حتى في قتل الخطأ وشبه العمد لكن ذلك باطل بإجماع، فلما انتقضت
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (156).
(2)
الخلاف في المسألة: ذهب أبو الخطاب إلى أن النقض يندفع بذلك، واختاره ابن تيمية والمرداوي والفتوحي. انظر: التمهيد لأبي الخطاب (4/ 165)، المسودة لآل تيمية ص (430)، التحبير للمرداوي (7/ 3624)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 292).
(3)
ساقطة من المخطوط، وأثبتها ليستقيم المعنى. وهي مثبتة في: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 516).
[العلة](1) بذلك، كان احترازه في الحكم بذكر العمد لاحقًا لها بعد فسادها، فلم يؤثر في تصحيحها، كما إذا ولغ كلب في قُلّتَيْ ماءٍ إلا رطلين (2)، ثم وضع فيه رطل ماء لم يكن ذلك مؤثرًا في زوال نجاسته بالولوغ السابق (3).
ومن زعم اندفاع النقض (4) لذلك، قال: الشرط الذي قيد به الحكم هو أحد أوصاف العلة حكمًا، وإن تأخر في اللفظ، حتى كأنه قال في هذا المثال: حران مكلفان محقونا الدم قتل أحدهما الآخر عمدًا، فجرى بينهما القصاص كالمسلمين، وإذا كان هذا التقدير في المعنى (5) وجب اعتبارُه، لأن العبرة في الأصل إنما هى بالأحكام لا بالألفاظ، وهذا أصح (6).
وقد حصل بما ذكرناه الجواب عما احتج به الخصم إلا عن مسألة القلتين، والفرق بينها وبين مسألة النزاع: أن الماء اللاحق للماء بعد التنجيس في هذه الصورة (7) لا يرفع عنه حكم
(1) ساقطة من المخطوط، وأثبتها ليستقيم المعنى. وهي مثبتة في: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 517).
(2)
الرطل: بالفتح والكسر، رَطَل الشيء: رازه ليعرف وزنه، وهي وحدة قياس تساوي اثنتا عشرة أوقية، وتساوي 2.5 كجم تقريبًا. انظر: الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان لابن الرفعة ص (56).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 516).
(4)
انظر: القول الثاني في روضة الناظر لابن قدامة (3/ 941)، والتحبير للمرداوي (7/ 3623).
(5)
أي: في هذا المثال.
(6)
انظر: التمهيد لأبي الخطاب (4/ 165).
(7)
وعبارة الطوفي في شرح مختصر الروضة أوضح (3/ 517): "أن الماء =
التنجيس، بخلاف مسألتنا، فإن أجزاء الجملة الواحدة يرتبط بعضها ببعض، فلا يستقر لبعضها حكم حتى تكمل، فظهر الفرق وصار هذا كسائر التوابع اللفظية (1).
قوله: الثامن: القلب: وهو تعليق نقيض حكم المستدل على علّته بعينها (2).
معنى القلب: أن المعترض يقلب دليل المستدل، ويبين أنه يدل عليه لا له (3). وسيأتي أمثلته وتفاصيله.
قوله: ثم المعترضُ تارة يُصحّح مذهبه، كقول الحنفي: الاعتكاف لبثٌ محضٌ فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة، فيقول المعترض: لبثٌ محضٌ فلا يعتبر الصوم في كونه قربة كالوقوف بعرفة (4).
= لا ارتباط بين أجزائه المنفصل بعضها عن بعض، فإذا حصل فيما دون القلتين منه نجاسة استقر له حكم التنجيس".
(1)
التوابع اللفظية: لغة: التوابع جمع تابع: وهو اللاحق. واصطلاحًا: التابع: هو لفظٌ متأخرٌ دائمًا يتقيد في نوع إعرابه بإعراب اسم معين متقدم عليه. والتوابع اللفظية اصطلاحًا خمسة وهي على الترتيب: النعت، عطف البيان، التوكيد، البدل، عطف نسق.
قال ابن مالك:
يَتْبَعُ في الإعرابِ الأسماءَ الأُوَلْ
…
نعتٌ، وتوكيدٌ، وعطفٌ، وبَدَلْ
انظر: شرح ابن عقيل على الألفية (2/ 70)، المعجم المفصل في النحو العربي د. عزيره فوّال (1/ 384).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (156).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 519).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (156).
هذا مثال لتصحيح مذهبه من غير تعرض لمذهب غيره (1)، ومعنى قول الحنفي: إن الوقوف بعرفة لا يكون لمجرده قربة بل لا بد له من اقتران الإحرام والنية به، كذلك الاعتكاف، لا يكون قربة حتى يقترن به غيره من العبادات، وليس ذلك غير الصوم بالإجماع. إذ لم يشترط أحد مقارنة غير الصوم للاعتكاف، ومعنى قول المعترض: إن الوقوف بعرفة لا يشترط لصحته الصوم، فكذا لا يشترط للاعتكاف عملًا بالوصف الجامع وهو كون كل منهما لبثًا محضًا، فالمستدل أشار بعلته إلى اشتراط الصوم بطريق الالتزام، والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه (2).
قول: وتارةً يبطل مذهب خصمه كقول الحنفي: الرأس ممسوح؛ فلا يجب استيعابه بالمسح، كالخف، فيقول المعترض: ممسوح؛ فلا يُقدَّر بالربع، كالخف. وكقوله في بيع الغائب: عقد معاوضة فينعقد مع جهل العوض، كالنكاح، فيقول خصمُه: فلا يُعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح، فيُبطل مذهب المستدل لعدم أولويّة أحد الحكمين بتعليقه على العلة المذكورة (3).
هذا مثال لإبطال مذهب خصمه من غير تعرض لتصحيح مذهب نفسه.
فإن أحمد ومالكًا: يوجبان استيعاب الرأس بالمسح وقد أبطله الحنفي في قياسه، فيقلب المعترض بقوله: فلا يقدّر بالربع
(1) ينقسم القلب باعتبار كونه قادحًا إلى ثلاثة أقسام، وهذا القسم الأول منه.
(2)
روضة الناظر لابن قدامة (3/ 943)، رفع الحاجب للسبكي (4/ 469)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 520).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (156).
-لأن أبا حنيفة يقصر على مسح ربع الرأس- ولا يلزم من ذلك صحة مذهب المعترض لجواز أن يكون الصواب في مذهب الشافعي وهو أجزاء ما يسمى مسحًا، ولو على شعرة أو ثلاث شعرات. والقالب إذا قصد إبطال مذهب المستدل تارة يبطله صريحًا، كما قيل: في مسح الرأس (1).
وتارة يبطله بطريق الالتزام كالمثال الثاني، فإن النكاح يصح مع جهل الزوج بصورة الزوجة، وكونه لم يرها، فكذلك في البيع بجامع كونهما عقد معاوضة. فيقول الخصم: هذا الدليل ينقلب، بأن يقال: عقد معاوضة فلا يُعتبر [فيه](2) خيار الرؤية كالنكاح، فإن الزوج إذا رأى الزوجة ولم تعجبه لم يجز له فسخ النكاح، فكذلك المشتري: لا يكون له خيارٌ إذا رأى المبيع في بيع الغائب بمقتضى الجامع المذكور، والخصم لم يصرح هاهنا ببطلان مذهب المستدل، لكنه دل على بطلانه ببطلان لازمه عند الخصم، وهو هذا الشرط بموجب قياسه على النكاح بطل مشروطه فهو إبطال له بالملازمة لا بالتصريح. فيبطل مذهب المستدل بتوجيهه لعدم أولوية أحد الحكمين، وهو الحكم الذي ادعاه المستدل، والحكم الذي ادعاه المعترض القالب (3).
(1) كقول الحنفي: ممسوح فلا يجب استيعابه بالمسح كالخف، فيقول المعترض: هذا ينقلب عليك بأن يقال: ممسوح فلا يقدو بالربع كالخف.
ينظر المثال في: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 521).
(2)
ساقطة من المخطوط، وأثبتها ليستقيم المعنى. وهي مثبتة في: شرح مختصر الروضة.
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 522).
قوله: والقلب معارضة خاصة، فجوابه جوابها، لا بمنع وجود الوصف؛ لأنه التزمه في استدلاله، فكيف يمنعه؟ (1).
يعني أن قلب الدليل نوع من المعارضة، فهو معارضةٌ خاصة، لأن النوع أخص من جنسه (2).
والفرق بين المعارضة والقلب: أن المستدل في المعارضة لم يعلل بوصف المعترض، ولا التزمه، واعتمد عليه، فجاز له منعه، بخلاف القلب، فإنّ المستدل التزم في قياسه صحة ما علل به المعترض وهو اللبثُ والمسح وعقد المعاوضة، فليس له في جواب القلب منعه، لأنه هدم لما بناه، ورجوع عما التزمه واعتراف بصحته، فلا يقبل منه (3)، فكلّ قلب معارضةٌ وليس كل معارضة قلبًا، وإذا ثبت أنّه نوع معارضة فجوابه جوابها إلّا في منع وجود الوصف، مثل أن يقول في مسألة مسح الرأس: لا نسلّم أنّ الخفّ لا يتقدّر بالربع، فيمنع حكم الأصل في قلب المعترض، وأما منع الوصف فإنه يجوز في المعاوضة، ولا يجوز في القلب، مثل أن يقول: لا نُسلّم أن الاعتكافَ والوقوفَ لبثٌ محض، أو لا نسلم أن مسح الرأس والخف مسح، أو لا نُسلّم
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157).
(2)
لأن المعارضة تسليم دليل الخصم، وإقامة دليل آخر على خلاف مقتضى دليل المستدل، فالعلة والأصل مغايران لما عند المستدل، أما القلب فإن الأصل والعلة واحد، هما الأصل والعلة نفسهما عند المستدل. ويتجه هذا في القلب: عند من يرى أنه يعد قادحًا لأن معظم العلماء أرجعه إلى المعارضة.
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 523).
أنّ البيعَ والنكاح عقْد معَاوضة (1). لأنه قد التزمه، واعترف بصحته كما تقدم (2).
قوله: التاسع: المعارَضَة. وهي: إمّا في الأصل ببيان وجود مقتضٍ للحكم فيه، فلا يتعين ما ذكره المستدلّ مقتضيًا، بل يحتمل ثبوته له، أو (3) لما ذكره المعترضُ، أو لهما، وهو أظهر الاحتمالات، إذ المألوف من تَصرّف الشرع مراعاة المصالح كلها، كمن أعطى فقيرًا قريبًا غلب على الظن إعطاؤه لسببين (4).
المعارضةُ مفاعلةٌ من عَرَصْ له يَعْرِضُ: إذا وَقَف بين يديه، أو عارضه في طريقه ليمنعه النفوذ فيه (5)، فكأنّ المعترضَ يقِف بين يدي المستدل أو يوقف حجّته بين يدي دليله، ليمنعه من النفوذ في إثبات الدعوى.
وهي قسمان: معارض في الأصل، ومعارض في الفرع (6).
أما المعارضة في الأصل، ففي قبولها قولان: من ردّها بنى
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 523).
(2)
انظر ص (235).
(3)
ساقطة من مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157)، وأثبتها من شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 1527).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157).
(5)
انظر: مادة "عرض" في: المصباح المنير للفيومي ص (153).
(6)
روضة الناظر لابن قدامة (3/ 394)، الإحكام للآمدي (4/ 93)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 270)، شرح مختصر الروضة للطوفي (سم 527)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 158)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 294).
ذلك على أنه لا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين (1). والمختار قبولها وتحصل المعارضة، ببيان وجود معنى آخر مقتض للحكم المذكور في الأصل غير المعنى الذي أبداه المستدل فيه، فلا يتعين حينئذ ما ذكره المستدل من العلة بل يحتمل أن يكون ثبوت الحكم لما ذكره المستدل (2)، ويحتمل أن يكون لما ذكره المعترض (3) ويحتمل أن يكون لهما (4) ويكون كل واحد منهما جزء علة، وهذا أظهر الاحتمالات، إذ المألوف من تصرف الشرع باستقراء موارد تصرفه ومصادرها مراعاة المصالح كلها إذا كان الوصفان مناسبين، فالظاهر تعليق الحكم عليهما تحصيلًا لمصلحتهما، كمن أعطى فقيرًا قريبًا له، يحتمل أنه أعطاه لفَقرِه، ويحتمل أنه أعطاه لقرابَتِه، ويحتمل أعطاه لهما (5).
قوله: ويلزمُ المستدل حذفَ ما ذكره المعترض، بالاحتراز عنه في دليله على الأصحّ، فإن أهملَه، وَرَدَ معارضةً (6).
يعني أن الوصفَ الذي أبداهُ المعترض في الأصل؛ هل يلزم المستدلّ الاحترازَ عنه في دليله بحذفه أم لا؟ فيه قولان للجدليين سبق توجيههما (7) في نظير هذه المسألة في سؤال
(1) انظر ص (149).
(2)
أي: الوصف الذي أبداه المستدل.
(3)
أي: الوصف الذي أبداه المعترض.
(4)
أي: الوصفين جميعًا.
(5)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 528).
(6)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157).
(7)
القول الأول: أنه لا يحتاج المستدل حذفه، والقول الثاني: أن المستدل =
النقض، فإن أهمل المستدلّ ذلك -ولم يحترز عما ذكره المعترض- ورد عليه معارضةً، أي: كان للمعترض أن يعارضه به، فيرد على المستدل ويلزمه جوابه.
مثل أن يقول الحنفي -في رفع اليدين في الركوع-: ركن غير الإحرام، فلا يُشرَع فيه رفع اليدين، كالسجود، فإن لم يحترز عن الإحرام، وإلا عارضه به الخصمُ، بأن يقول: ركن، فشُرعَ فيه الرفع كالإحرام (1).
قوله: فيكفي المعترض في تقريرها، بيان تعارض الاحتمالات المذكورة، ولا يكفي المستدلّ في دفعها إلا بيان استقلالِ ما ذكره بثبوتِ الحكمِ (2).
يعني أن المعترضَ يكفيه في تقرير المعارضة بيانُ مطلقِ تعارض الاحتمالات المذكورة، وهي ثبوت الحكم لما علّل به المستدل، أو لما أبداه هو، أو لمجموع الوصفين (3)، سواء كانت الاحتمالاتُ متساويةً، أو بعضها راجحًا، وبعضها مرجوحًا.
وأما المستدلّ فلا يكفيه في دفع المعارضة إلا أن يُبيِّن أن
= يلزمه حذف ما ذكره المعترض. انظر ص (222) من هذه الرسالة في سؤال النقض.
(1)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (13/ 530).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157).
(3)
هذا مما يؤيد الاحتمال الثالث، وهو أن الحكم ثبت بالوصفين معًا، وهو ما اختاره المصنف والطوفي وابن قدامة. انظر: روضة الناظر لابن قدامة (3/ 394)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 530).
الوصفَ الذي علّل به مستقلّ بثبوت الحكمِ بحيث لا يتوقف ثبوت الحكم على وصف المعترض ولا غيره (1).
قوله: إما بثبوت علّيّة ما ذكره بنصّ، أو إيماءٍ ونحوه، من الطرق المتقدمة، أو ببيان إلغاء ما ذكره المعترضُ في جنس الحكم المختلف فيه، كإلغاء الذكوريّة في جنس أحكام العتق، أو بأنّ مِثل الحكمِ ثبتَ بدون ما ذكره فيدلّ على استقلالِ علّة المستدل (2).
هذا بيان الطّرق التي يُبيّن بها المستدلّ استقلال ما علّل به الحكم (3).
أحدها: إثبات عليّة ما ذكره، بالنص، أو إيماء النص، أو غير ذلك، من طرق إثبات العلة المتقدم ذكرها (4).
مثال النص: أن يعلِّل المستدلّ قتل المرتدةِ بتبديل الدين فيعارضُه المعترض بزيادة وصف الرجولية؛ لكونها مظنة الإقدام على القتال في معاونة أهل الحرب، فيدعي المستدل استقلال بديل الدين بالعلية ويثبته، بما روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من بدل دينه فاقتلوه).
ومثال الإيماء: كما لو علَّل المستدلّ في الربا بالطعم،
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 531).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157).
(3)
وبهذه الطرق يحصل جواب المعارضة في الأصل.
(4)
أي: مسالك العلة لأنها ثابتة لا يمكن الاعتراض عليها، أو إبطالها.
فاعترض بالكيل، فتبين استقلال الطعم بقوله عليه السلام:(لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء) فإنه إيماء إلى كون الطعم علة لامتناع التفاضل إذ الحكم المرتب على الوصف يشعر بالعلة.
الطريق الثاني: بيان إلغاء ما ذكره المعترض من الوصف في جنس الحكم المختلف فيه، وإن كان مناسبًا لغيره، فإن الذكورية ملغاة في جنس أحكام العتق كما مر (1).
الطريق الثالث: أن يبين المستدل أنّ مثل الحكم المتنازع فيه ثبت بدون ما ذكره (2) المعترض. مثاله: لو قال المستدلّ في العبد: مسلم مكلفٌ فصحّ أمانه كالحرّ، فيقول المعترض: لا أسلّم أن الإسلامَ والتكليفَ كافيان في التعليل، بل لا بد من الحرية معهما، فالحرية جزء علة، فيبين المستدل ثبوت الأمان بدون الحرية في أمان العبد المأذون له، إذ هو صحيح عند الحنفية مع انتفاء الحرية فيه، فدل على عدم اعتبارها.
قوله: فإن بيّن المعترض في أصل ذلك الحكم المدّعَى ثبوته بدون ما ذكره مناسبًا آخر، لزم المستدل حذفَه (3).
هذا من توابع الجواب الأخير، فإن المستدل إذا استدل على أمان العبد، واعترضه الخصم بالحر، وألغاه المستدلّ بالمأذون له (4)، كأصل بأن قاس عليه المستدلّ، فإذا بيّن
(1) انظر ص (238).
(2)
أي: أن الوصف الذي ذكره عديم التأثير في الحكم. فيستقل بما ذكره المستدل.
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157).
(4)
أي: في الققال حيث صح أمانه بدون الحرية.
المعترض أن في المأذون له، وذلك المناسب هو الإذن، لأن السيد بإذنه له قد أقامه مقامه في القتال والنظر في مصالح الحرب، وذلك يدل على أنه علم منه الكفاية في ذلك، وحينئذٍ يكون الإذن دليلًا على صلاحية هذا المأذونِ له لإعطاء الأمان، فالحريّة وإن انتفت حقيقتها فقَد خلفها صفة تُحَصِّل مقصودها، وتَدلّ عليها، فحينئذٍ يلزم المستدل إبطال هذا المناسب، وإلا كان معارضًا بوصف الإذن كما عُورض بوصف الحرية.
وسبيله في إلغائه: أن يبيّن مثلًا صحة الأمان من العبد في صورة بدون الإذن، وللمعترض إبداء وصف مناسب في تلك الصورة، وعلى المستدل إلغاؤه، وهلُمّ جرًّا في إبداء المناسب من المعترض، وإلغائه من المستدلّ، حتى ينقطع الإلغاء من المستدلّ، أو إبداءُ الوصف من المعارِض (1).
قوله: ولا يكفيه إلغاءُ كلٍّ من المناسبين بأصل الآخر، لجواز ثُبوت حكم كل أصل بعلةٍ تخصه، إذ العكس غير لازمٍ في الشرعيات (2).
زعم بعض الجدليّين أن المعترضَ إذا أبدى في صورة الإلغاءِ مناسبًا آخر غير ما عرض به في أصل القياس، كَفى في جوابه إلغاء كلٍّ من المناسبين اللذَيْن (3) أبداهما المعترض بالأصل
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 536).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (157).
(3)
في الأصل الذي والصحيح ما أثبته ليستقيم به الكلام، وهو الموجود في شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 538).
الآخر، مثل أن يُلغي الحرية في مسألة الأمان بمسألة المأذون، حيثما اكتفى المعترض فيه بالإذن، ولم يعتبر حقيقة الحرية، ويلغي الإذن بأمانِ الحرّ حيثما صحّ ولم يتصور فيه وجود الإذن، وإذا ألغى كل واحد من المناسبين، سقطت المعارضة من الأصلين وبقي قياس المستدل سالمًا عن معارض، فتبيّن ها هنا أن هذا الجواب لا يصحّ بناء على جواز تعدد العلل في الأصول، فيثبتُ حكم كل أصل بعلة غير علة الأصل الآخر، كأمان الحر بعلة الحرية، وأمان المأذون بعلة الإذن، لأن عكس العلة الشرعية غيرُ لازم كما سبق، ولا يجب انتفاءُ الحكم في أحد الأصلين، لانتفاء علته في الأصل الآخر (1).
قوله: وإن (2) ادعى المعترض استقلال ما ذكره مناسبًا، كفى المستدلَّ في جوابه بيانُ رجحان ما ذكره هو بدليلٍ، أو تسليمٍ (3).
يعني: أَنّ المعترضَ إذا عارض المستدلّ بوصفٍ في الأصل، فإن لم يدّع استقلاله بالحكم بانضمامه إلى ما ذكره المستدل، كالحرية مع الإسلام، والتكليف في مسألة الأمان، فقد مَرَّ الكلام عليه (4)، وإن ادعى استقلاله بالحكم كوصف الرُّجوليّة
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 538).
(2)
في المخطوط "وإذا" والصحيح ما أثبته من شرح مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158)، وهو المثبت في جميع مخطوطات مختصر أصول الفقه لابن اللحام.
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158).
(4)
انظر ص (239).
في المرتد كفى المستدل في جواب المعترض بيان رجحان ما ذكره المستدل، بدليل يدل على رجحانه، أو بتسليم المعترض، ولا يلزمه بيانُ عدم مناسبة ما ذكره المعترض، لأن المقصود بيان رجحان ما ذكره هو وأولويته، مثل: أن يبين أن تعليل قتل المرتد بتبديل الدين، أرجح من تعليله بوصف الرجولية، وبيان ذلك بطريق سهل يسير.- والله تعالى أعلم (1).
قوله: وأما في الفرع، بذكر ما يمتنعُ معه ثبوتُ الحكم فيه، إما بالمعارضةِ بدليل آكد من نصٍّ أو إجماعٍ، فيكون ما ذكره المستدلّ فاسد الاعتبارِ، كما سبق (2).
هذا القسم الثاني من المعارض، فإن الأول في الأصل، وهذا في الفرع وهو يكون بأمرين:
أحدهما: ذِكرُ دليل آكد من قيالس المستدلّ من نص أو إجماع يدلّ على خلاف ما دلّ عليه قياسه، فيتبيّن أن ما ذكره المستدل فاسد الاعتبار لمخالفته النّص أو الإجماع، وهذا فسادُ الاعتبار، كما سبق (3) في موضعه.
مثاله لو قال: الحنفي -في رفع اليدين في الركوع والرفع منه-: ركن من أركانِ الصلاةِ، فلا يُشرع فيه رفع اليدين، كالسجود، فيقول له الخصم: هذا على خلاف الحديثِ الصحيح من رواية ابن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع يديه في
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 538).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158).
(3)
انظر: فساد الاعتبار ص (208).
[ثلاثة](1) مواطن: عند الإحرام، والركوع، والرفع منه) (2) فيكون قياسك على خلافه؛ فاسد الاعتبار لمخالفة النّصّ، أو يقول: نقل عن ابن عمر في جماعة من الصحابة أنهم كانوا يرفعون أيديَهم ولم يُنكره منكِر، فيكون إجماعًا سكوتيًا، وقياسُك على خلافه، فيكون فاسد الاعتبار (3).
قوله: وأما بإبداء وصفٍ في الفرعِ مانعٍ للحكم فيه، أو للسببية (4).
هذا الأمر الثاني؛ الذي تكون به المعارضة، وهو أن يُبدي المعترض في فرع قياس المستدل، وصفًا يمنع ثبوتَ الحكم فيه، أو يمنع سببية وصف المستدل، أي: يمنعُ كون وصفه سببًا لثبوت الحكم (5).
مثال منع الحكم: أن يقول المستدلّ في المثال المذكورة ركن، فلا يشرع فيه رفع اليدين، كالإحرام، فقد منع الحكم وهو
(1) في المخطوط "ثلاث" والصواب أثبته من الحديث، وهو الذي عليه قاعدة الأعداد.
(2)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري لابن حجر (2/ 219) كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع برقم (736، 737)، ومسلم في صحيحه (1/ 292) كتاب الصلاة، باب رفع اليدين حذو المنكبين برقم (390) كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 539).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158).
(5)
والحاصل أن المعترض يبيّن ما يمنع علّة المستدل، أو يثبت الحكم وفرعه. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 540).
مشروعية رفع اليدين، وقاسه على أصل آخر وهو حقيقة القلب، وهو نوع معارضة كما تقدم (1).
ومثال منع السببية أن يقول الحنبلي -في المرتدة-: بدّلت دينها فتُقتلُ كالرجل، ويقول الحنفي: أنثى فلا تقتل بكفرها (2)، كالكافرة الأصلية.
قوله: فإن منع الحكم، احتاج في إثبات كونه مانعًا إلى مثل طريق المستدل في إثبات حكمه من العلة والأصل وإلى مثل علته في القوة (3).
فإذا قال المستدل -في المثال المتقدم-: ركنُ، فلا يرفع يديه فيه، كالسجود، فالسّجود الذي هو الأصل ركن، والعلة وصف شبهي، وهو كون الركوع ركنًا كالسجود، فيقول المعترض: ركنٌ فيرفع فيه اليدين كالإحرام، فالإحرام الذي هو الأصل ركنٌ، والعلة أيضًا وصف شبهي، وذلك لأن المعارض يجب أن يكون مقاومًا للمعارَض -بفتح الراء- ولا يُقاومه إلا إذا ساواه في أوصافه الخاصة (4).
قوله. وإن منع السببيّة، فإن بقي منه احتمال الحكمة ولو على بعدٍ، لم يضر المستدلّ لإلفنا من الشرع اكتفَاءهُ بالمظنّة، ومجرد احتمال الحكمة فيحتاج المعترض إلى أصلٍ يشهد
(1) انظره في ص (234).
(2)
بيّن أن تبديل الدين ليس سببًا لقتل المرأة.
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 540).
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 541).
لما ذكره بالاعتبار، وإن لم يبق لم يَحتج إلى أصلٍ، إذ ثبوت الحكم تابعٌ للحكمة وقد علم انتفاؤها (1).
يعني أن المعترض إذا منع سببية الوصف الذي علل به المستدل، فإما أن يبقى احتمال وصف المستدل مع ما أبداه المعترض، أو لا يبقى، فإن بقيَ احتمال الحكمة ولو على بعد أي: ولو كان احتمالًا بعيدًا، لم يضر ذلك المستدلّ لأن احتمال حكمة وصفه باقٍ، والوصف مَظِنّةٌ له.
وقد ألفنا من الشارع أنه يكتفي في ثبوت الحكم بوجود مَظِنّته، ومجرد الذي أبداه بالاعتبار حتى يقوى على إبطال وصف المستدل، فإذا قال المستدلّ - في النبيذ -: مسكرٌ، فكان حرامًا كالخمر، فيقول الحنفي: غير مقطوع بتحريمه، أو غير مجمع على تحريمِه، فلا يَحرم كالخلّ واللّحن، فيقال: الحكمة في الإسكارِ باقية على ما لا يخفى، والمسكر مظنّة لها، وذلك كافٍ في ثبوت التحريم، عملًا بوجود المظِنة حتى تأتي أيها المعترض بشاهدٍ على اعتبار وصفك، وهو أن ما ليس مقطوعًا بتحريمه أو مجمعًا على تحريمه لا يكون حرامًا، وإن لم تبق حكمةُ وصف المستدلّ مع ما أبداه المعترض لم يحتج المعترض إلى أصل يشهد لما ذكره بالاعتبار، لأن ثبوت الحكمِ تابع لبقاء الحكمة، لأنها المقصود به، وهو وسيلة إليها، وقد علم انتفاؤها، ومع انتفاء المقصودِ لا فائدة في بقاء الوسيلة (2).
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158).
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 543).
فإذا قال المستدلّ في -ضمان العبد- (1): مال لمعصوم فيضمن بكمال قيمتِه كالبهيمة، فالحكمة فيه ظاهرة، وهي تحصيل العدل بجبر ما فات من مال المالك بقيمة الفائت. فيقول المعترض: إنسانٌ معصومٌ، فلا يزيد بَدَلُه على الألف كالحرّ، فتكون هذه حكمة مقاوِمةٌ، أو مقارِبةٌ للأولى؛ من جهة أن الشرع قدّر بدل الإنسان المعصومِ ألفًا، فالزيادة عليه افتئات عليه وطعن في حكمته، وهذا إنسان معصومٌ، فلا يحتاج المعترض هاهنا إلى أصل يَشهَد لما ذكره بالاعتبار لمقاومته وصف المستدلّ بنفسه، لكن للمستدلّ أن يرجح وصفه (2)، بأن شبه الماليةِ في العبد أمكن من شبه الحرية، فتكون في باب الضمان، أشبه بالبهيمة منه بالحرّ (3).
قوله: وفي المعارضة في الفرع ينقلبُ المعترضُ مستدلًا على إثبات المعارضة، والمستدلّ معترضًا عليها بما أمكن من الأسئلة (4).
لا شك أن كل واحد من الخصمين مانع لمقصود خصمه، مثبتٌ لمقصوده هو. فإذًا للمعارضة جهتان:
إحداهما: جهة منع مقصودِ المستدلّ فيحتاجُ المعترض فيها
(1) هذا المثال في قياس الأشباه، فإن الأشباه قد تتعادل فلا تبقى حكمة شبهة المستدل. شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 543).
(2)
أي: يرجح وصفه على وصف المعترض بأن يقول: ما ذكرته متّجهٌ، لكن ما ذكرته أنا أرجح.
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 544).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158).
إلى تقدير ذلك المنع بالدليل، مثل أن يستدلّ الحنبلي على عدم كراهة سؤر الهرة: وهو قوله عليه السلام: (الهرة سبع)(1) فعمله (بحديث الإصغاء)(2) في الطهارة، وبهذا الحديث في الكراهة جمعًا بين الحديثين، إذ هو أولى من إلغاء أحدهما وإعمال الآخر.
الجهة الثانية للمعارضة: إثبات مطلوب المعترض، كما ذكر من إثبات كراهية سؤر الهرة فهو من جهة الأولى مانعٌ، ومن هذه
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة الإمام أحمد في المسند (2/ 242)، وابن أبي شيبة (1/ 32)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 272)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 386، 387)، والدارقطني (1/ 63)، والحاكم في المستدرك (1/ 183). قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وعيسى بن المسيب تفرد عن أبي زرعة إلا أنه صدوق ولم يجرح قط. وتعقبه الذهبي بقوله: قال أبو داود: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. والحديث ضعفه الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/ 19) برقم (534).
(2)
عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري، أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات). هذا لفظ الإمام مالك كما في الموطأ (1/ 50) كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء برقم (12)، وأخرجه أبو داود (1911) في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة برقم (75)، والترمذي (1/ 153) في الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة برقم (92)، والنسائي (1/ 178) في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة برقم (340)، وابن ماجة (1/ 131) في الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك برقم (367)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1/ 29).
الجهة مستدلٌّ، فبالضرورة يحتاج المستدلّ إلى أن ينقلب معترضًا على استدلال المعترض، ليسلم له دليله، فيعترض عليه بما أمكن مِن الأسئلة الواردةِ على النصّ، أو القياس مما سبق. فيقول هاهنا: لا نُسَلِّم صحة الحديث المذكور، سلمناه؛ لكن السَّبُعِيَّةُ فيه ليست حقيقة، بل مجازًا شبهًا صوريًا. كما يقال للطويل: نخلةٌ لاشتباههما في الطول. سلمناه؛ لكن حديثنا أصح وأثبتُ فيرجح، والمرجوحُ مع الراجحِ عدمٌ في الحكم، وأشباه ذلك من الأسئلة على النّصّ.
وإن كانت المعارضة قياسًا، اعترض المستدلّ عليه بأسئلة القياس المذكورة: الاستفسارُ، وفسادُ الوضع، والاعتبارُ، والمنع ونحوه من الأسئلة (1).
قوله: العاشر: عدم التأثير (2).
التأثير: إفادة الوصف أَثَره، فإذا لم يُفِده، فهو عدم التأثير (3).
قوله: وهو ذكر ما يَستغْنِي عنه الدليلُ في ثبوت حكم الأصل، إمّا لطرديته نحو: صلاة لا تقصر فلا يُقدم
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 544).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158).
(3)
انظر تعريفه في: التمهيد لأبي الخطاب (4/ 125)، الواضح لابن عقيل (2/ 136)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 951)، الإحكام للآمدي (4/ 85)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 266)، شرح تنقيح الفصول للقرافي ص (401)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 134)، التحبير للمرداوي (403)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 264).
[أذانها](1) على الوقت، كالمغرب إذ باقي الصلوات تُقصر، فلا تُقدّم على الوقت، أو لثبوت الحكم بدون شرطه، كالبيع بدون الرؤية، لا يصح بيعُه كالطير في الهواء، فإن الطير في الهواء ممنوعٌ وإن رُئِيَ (2).
عدم التأثير: ذكر وصف، أو أكتْر تَستَغنِي عنه العلّة في ثبوت حكم أصل القياس، إمّا لكون الوصف طرديًّا لا يناسب ترتّب الحكم علي كما سبق (3)، أو لكون الحكم ثبت بدونه.
مثال الأول (4): قول القائل: الفجر صلاةٌ لا تُقصر، فلا يُقدَّم أذانها على وقتها، كالمغرب، وذلك لأن باقي الصلوات تُقصَر ولا يُقدَّم أذانها على وقتها، فبقى قوله: لا تُقصَر؛ وصفًا طرديًّا، لأنه غير مناسب لتقديم الأذان على الوقت، ولا عدمه.
ومثال الثاني (5): قوله: في بيع الغائب، مبيع لم يَره العاقد، فلم يصحّ كالطير في الهواء، وذلك لأنّ عَدَمَ الرؤية هاهنا لا يؤثَر في الأصل، وهو بيع الطَّيْر، لأن بيع الطير في الهواء ممنوع، أي: لا يصحّ، وإن كان مرئيًا.
وعدمُ التّأثِير هاهنا من جهة العكس كما تقدم (6)، لأن تَعْلِيل
(1) ساقطة من مختصر أصول الفقه لابن اللحام المطبوع.
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (158).
(3)
انظر ص (146).
(4)
وهو عدم تأثيره لكونه طرديًّا.
(5)
وهو ما يَستَغنِي عند الدليل لثبوت الحكم بدونه.
(6)
انظر ص (235).
عدم صحّة بيعِ الغائبِ بكونِه غير مرئي، يقْتَضِي أنّ كلّ مرئي يجوز بيعه، وقد بَطُلَ بيْع الطّير في الهواءِ (1).
قوله: نعم [إن](2) أشار (3) بذكر الوصف إلى خلو الفرع مِن المانع، أو اشتماله على شرط الحكم دفعًا للنقض، جاز، ولم يكن من هذا الباب (4).
يعني هذا الكلام أنّ الوصفَ المذكورَ في الدليل، إنّما يكون عديمَ التأثير إذا لم يُفد فائدة أصلًا، أمّا إذا كان فيه فائدةٌ، دفع النقض؛ بأن يشير إلى أن الفرع خالٍ مما يَمنَع ثبوت الحكم فيه، أو إلى اشتمال الفرعِ على شرط الحكم، فلا يكون عديمَ التأثير.
مثاله: أن يقولَ المستدلّ في مسألة تبييت النِّية: صومٌ مفروض، فافتقر إلى التبييت قياسًا على القضاء، فإنّ كونه مفروضًا يتحقّق به شرط النية في الفرع، وهو صوم رمضان، وأنه خالٍ مما يَمنَع ثبوتَ التبييت فيه، ويندفع به النقض بالنّفل إذ لو قال: صوم، فافتُقر إلى التّبييت لانْتَقَض بالنّفل، لأنه صومٌ، ولا يفتقِر إلى التّبْييت مع أن فرضية الصوم بالنسبة إلى تبييت النية طرديّ لا مناسبَةَ فيه له (5).
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 547).
(2)
ساقطة وأثبتها ليستقيم المعنى. وهي مثبتة في مختصر أصول الفقه لابن اللحام، والبلبل في أصول الفقه.
(3)
أي: المستدل.
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
(5)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 550).
قوله: وإن أشار الوصف إلى اختصاص الدليل ببعض صور الحكم جاز، إن لم تكن الفتيا عامة، وإن عمت لم يجز لعدم وفاء الدليل الخاص بثبوت الحكم العام (1).
يعني أن وصف المستدلّ إذا أشار إلى اختصاص الحكم ببعض صوره، فلا يخلو: إما أن تكون فتياه -يعني جوابه- عامًّا أو لا، فإن كان عامًا: لم يَجُز، لأن الدليل الخاص لا يفي بثبوت الحكم العام.
مثاله: إذا قيل للمالكي: هل يجوز أن تُزوِّج المرأة نفسَها؟ فيقول: نعم. فإذا قيل: لِمَ؟ قال: لأن عامة الناس أكفاءٌ لها، فلا يُفضِي ذلك إلى لحوق النقصِ والعارِ بها غالبًا، كما لو زوَّجها وليُّها، فإن العلّة ها هنا تُشِير إلى اختصاصِ جواز ذلك بالدَّنيّة من النساء، فلا يجوز ذلك، لأن جوابه بجوازِ تزويجها نفسها خرج عامًا، لم يفرق بين الدَّنيّة والشّريفة، وتعليله خاص. والجواب العام لا يحصل بالتعليل الخاص.
وإن لم تكن الفُتيا عامة، كما لو قال: يجوز ذلك في بعض النساء، ويجوزُ في الجملة، وعلّل بالتعليل المذكور، جاز ذلك وأفاد جوازَ فرض الكلام في بعض صُوَر السؤال، وهو جواز تزويج الدَّنيّة نفسَها دون الشريفة فرقًا بينهما، كما هو مذهب مالك.
قوله: الحادي عشر: تركيب القياس من المذهبين نحو قوله
(1) أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
في البالغة: أُنثى، فلا تُزوِّجُ نفسَها، كابنة خمسة عشر (1).
المراد بالمذهبين، مذهبُ المستدلّ أو مذهب المعترض، والقياس المركب قد تقدم الكلام عليه في الكلام على حكم الأصل (2)، وتقدم له مثال ومثاله هنا: أن يقول الحنبلي في المرأة البالغة: أُنثى، فلا تُزوّج نفسها بغيرِ ولي كابنة خمسة عشر سنة (3).
قوله: إذ الخصمُ يَمنع تزويجَها نفسَها لصغرِها، لا لأنوثَتِها، ففي صحة التمسك به خلافٌ (4).
الخصم ها هنا هو الحنفي، لأنه يمنع تزويج بنت خمس عشْرة سنة لصغرها، لا لكونها أنثى، فاختلفت العلّة في الأصل (5)، لأن الإمام أحمد والإمام الشافعي يعتقدان [أنّ](6) ابنة خمس عشرة سنة لا تزوج نفسها لأنوثتها (7)، والإمام أبو حنيفة يعتقد أنها لا تزوج نفسها لصغرها، إذ الجارية عنده إنما تَبلُغ لتسع عشرة سنة، وفي رواية عنه لثمان عشرة سنة كالغلام فعلى كلا الروايتين (8) العِلَّتان موجودتان فيها، والحكم متفق عليه، وإنما الخلاف في العلّة ثم في صحة التمسك به خلاف.
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
(2)
انظر: ص (135).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 552).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
(5)
والتركيب هنا: أن يتفق الخصمان على حكم الأصل، ويختلفان في علّته.
(6)
ساقطة وأثبتها من شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 553).
(7)
انظر: المبدع (8/ 171، 176)، روضة الطالبين للنووي (7/ 11).
(8)
انظر: بدائع الصنائع للكاساني (3/ 576).
وجه الإثبات: أن حاصِل سؤالِ التركيبِ يَرجِع إلى النِّزاع في الأصل، لأن النزاع في علتِه، كالنزاع في حكمه، وقد سبق أن القياس يجوز على أصل مختلف فيه، فإذا منعه المعترض، أتبته المستدلّ بطريقهِ، وصح قياسُه، فكذلك هاهنا. ووجه النفي: أنه فرار عن فقهِ المسألة المتنازَع فيها إلى النزاعِ في مقدارِ سنّ البلوغ وهي مسألةٌ أخرى، فهو انتقال من الخصمين جميعًا، فلا يصح التمسك به والأول أولى (1).
الثاني عشر: القول بالموجَب (2).
هو بفتح الجيم، أي: القول بما أوجَبه دليلُ المستدلّ. وأما الموجِب -بكسر الجيم- فهو الدّليل المقتضي للحكم (3).
قوله: وهو: تسليم الدّليل مع منع المدلول، أو تسليم مقتضى الدليلِ مع دعوى بقاء الخلاف (4).
يعني القول بالموجب له تعريفان بأيهما عُرِّف حصل المقصودُ لكن التعريف الثاني أحق، لأن تسليم الخصم إنما هو لمُقتَضى الدليل وموجَبه، لا لنفسِ الدليل، إذ الدليلُ ليس مرادًا لذاته، بل لكونِه وسيلةً إلى معرفة المدلول.
مثاله إذا قال الشافعيّ: فِيمن أتى حدًا خارجَ الحرمِ، ثم لجأ إلى الحرم: يُستوفَى منه الحدّ، لأنه وُجِد سبب جواز
(1) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 555).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 555).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
الاستيفاءِ منه، فكان جائزًا، فيقول الحنبلي والحنفي: أنا قائلٌ بموجب دليلك. واستيفاء الحد جائز، وإنما أُنازع في جواز هتك حرمة الحرم، وليس في دليلك ما يقتضي جوازَه، فهذا قد سلّم للمستدِلّ مقتضى دليله. وهو جواز استيفاءِ الحدّ، وادّعى بقاء الخلافِ في شيءٍ آخر، وهو هتك حُرمة الحرَم (1).
قوله: وهو آخر الأسئلة، وينقطع المعترض بفساده، والمستدلّ بتوجيهه (2).
القول بالموجَب آخرُ الأسئلة الواردة على القياس [على](3) ما يقتضيه ترتيبها، وينقطع المعترض بفساده، لسلامة الدليل حينئذٍ عن معارض، وينقطع المستدلّ بتوجيهه، لأنه إذا صح، تَبَيَّن أن دليل المستدلّ لم يتناول محل النزاع (4).
قوله: إذ بَعْد تسليم العِلّة والحكم لا يجوزُ النزاع فيهما (5).
القول بالموجب في تسليم العلّة والحكم، وبعد تسليمها من المناظر لا يجوز له النزاع فيهما فيكون آخر الأسئلة لذلك (6).
قوله: ومورده، إما النفي، نحو: قوله في القتل بالمثقل: إنّ
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 555).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
(3)
غير موجود في المخطوط، وأثبتها ليستقيم المعنى، وهي المثبتة في شرح مختصر الروضة.
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 556).
(5)
ساقطة وأثبتها من مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (159).
(6)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (556).
التّفاوت في الآلة لا يمنع القصاص، كالتفاوت في القتل، فيقول الحنفيّ: سلّمت، لكن لا يَلزَم من عدم المَانع ثبوتُ القصاص، بل من وجود مقتضيه أيضًا، فأنا أنازع فيه (1).
يعني: المحل الذي يرِدُ فيه القول بالموجب من الأحكام، أو من الدعاوى، إما النفي أو الإثبات هكذا ذكره المصنف تبعًا للطوفى في مختصره (2) لكنه قال في شرحه: وأجودُ من هذا أن يقال: القول بالموجب، إما أن يردَ من المعترض دفعًا عن مذهبه، أو إبطالًا لِمذهب المستدلّ باستيفاء الخلاف مع تسليم مقتضى دليله، وذلك لأن الحكم المرتَّب على دليل المستدلّ، إما أن يكون إبطالَ مدرك الخصم، أو إثبات مذهبه هو، فإن كان الأوّل (3): فالقول بالموجَب يكون من المعترض دفعا عن مأخذه، لئلا يَفسُد.
وإن كان الثاني (4): فالقول بالموجَب من المعترض إبطالًا لمذهب المستدل، وذلك لأنّ المستدلّ والمعترض كالمتحاربين كلّ واحد منهما يَقصِد الدفع عن نفسهِ، وتعطيل صاحبهِ، وهذا التقسيم لمورد القول بالموجَب هو الصحيح (5)
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(2)
انظر: البلبل في أصول الفقه (229).
(3)
أي: أن يرد على دليل يبطل به مذهب الخصم.
(4)
أي: أن يرد على دليل يثبت به المستدل مذهبه.
(5)
انظر: التمهيد لأبي الخطاب (4/ 186)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 954)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 279)، شرح تنقيح الفصول للقرافي ص (402)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 124).
المذكور في كتب الأصول (1)، ثم قال (2): أما تقسيمي أنا له إلى نفيٍ وإثباتٍ فلأنّي ظننت أنّ ذلك هو مقصود التقسيم، ورأيت المثال على وفقه في أصل المختصر (3)، فقوى الظن بذلك، ولم أكن عند الاختصار تأملته في كتب الأصول. انتهى (4).
مثال الأول وهو القول بالموجَب إذا وردَ من المعترض دفعًا عن مذهبه (5): أن يقول الحنبلي في وجوب القصاص بالقتل بالمثقل: التّفاوت في الآلة لا يمنع القصاص، كالتفاوت في القتل؛ فإنه لو ذبحهُ، أو ضرب عُنُقه، أو طَعَنَه برمح، أو رماهُ بسهم، لم يمتنع القِصاص بذلك، لا يمنع القصاص بالتفاوت في الآلة محددة كانت أو مثقلة، وهذا تَعرّضٌ من المستدلّ بإبطال مأخذِ الخصم، إذ الحنفيّ يرى أن التفاوت في الآلة يمنع القصاص، لأن المثقل لما تَقاصَر تأثيره عن المحدد أوْرث شُبهةً، والقِصاص يدرأ بالشبهة، فيقول الحنفيّ دافعًا عن مذهبهِ: سلّمتُ أنّ التّفاوت في الآلة لا يَمنع القِصاص، لكن لا يلزمُ من عدمِ المانعِ للقِصاصِ ثبوتُه، بل إنما يلزمُ ثبوته من وجودِ مقتضيه، وهو
(1) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 557).
(2)
ما زال الكلام للطوفي.
(3)
صرح به بقوله: "أعني أنه منقسمٌ إلى نفي كما في مثال القصاص، وإلى إثبات كما في مثال الزكاة". انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 558).
(4)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 559).
(5)
انظر: العدة لأبي يعلى (5/ 1462)، التمهيد في لأبي الخطاب (4/ 186)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 954)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي (2/ 279)، شرح تنقيح الفصول للقرافي ص (402)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 124)، شرح المحلى لابن حزم (2/ 316).
السبب الصالِح لإثباته والنزاع فيه، ولهذا يجبُ القصاصُ عندي بالقتل بالسيف، والسكين ونحوها، من الآلات مع تفاوتها، لكن لما كانت صالحة للإزهاق بالسريانِ في البدنِ بخلافِ المثقلِ (1).
قوله: وجوابه ببيان لزوم الحكم في محل النزاع مما أذكره، (2) إن أمكن، أو بأن النزاع مقصورٌ على ما يَعْرِض له بإقرارٍ، أو اشتهارٍ، ونحوه (3).
جواب القول بالموجب بطرق، أحدها: أن يُبين المستدلّ لزومَ حكم محل النزاع [بوجود](4) مقتضيه ممّا ذكره في دليله إن أمكن بيانه، فيقول: يَلزَم من كون التفاوت في الآلة لا يمنع القِصاص، ووجود مُقتضَى القِصاص: إمّا بناءً على أنّ وجودَ المانع وعدمَه قيامُ المقتضي، إذ لا يكون الوصف مانعًا بالفعل إلا لمعارضة المُقتضِي، وذلك يستدعي وجودَه، أو بأن يقول المستدل: إذا سلمت أن تفاوتَ الآلة لا يمنعُ القصاص فالقتلُ المُزهِق هو المقتضي، والتقدير أنه موجود (5).
الثاني: أن يبيّن المستدلّ أن النزاعَ إنما هو فيما يعرض له، إما بإقرارٍ أو اعترافٍ من المعترض بذلك.
مثل أن يقول: إنما الكلام في صحةِ بيعِ الغائب، لا في
(1) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 559).
(2)
هكذا في المخطوط، وهو المثبت في البلبل، وشرح مختصر الروضة، وفي المطبوع "ذكر".
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(4)
ساقطة وأثبتها ليستقيم المعنى من شرح مختصر الروضة.
(5)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 559).
ثبوت خيارِ الرؤية فيه، ووقع الاستدلال على ذلك، أو باشتهار بين أهل العُرف أنّ مثل هذه المسألة إنما جَرَت العادة أن يقعَ النّزاع فيها في كذا لصحة البيع هاهنا، فلا يُسمَع من المعترض العدول عنه؛ لأنه في الأوّل إنكار لما اعترف به، وفي الثاني نوع مراوغة ومغالطةٌ ودعوى جهل بالمشهوراتَ.
ومن أمثلة هذا أن يقول المستدلّ: الدَّين لا يمنعُ الزكاةَ، ووطء الثَّيّب لا يمنع الرد بالعيب، فيقول المعترض: أُسلّم أنه لا يمنع، لكن لِمَ قلت: إنّ الزكاةَ والرّد يَثبُتان؟ فيقال: هذا القول بالموجَب لا يسمع، لأن محلّ النزاع في هذه المسائل ونحوها مشهورٌ، وهو أنّ النّزاع في الزكاة هل تجب مع الدين؟ ووطء الثيب هل يجوز معه الرّد؟ مع الشهرة لا يقبل العدول عن المشهورِ، ولا دعوى خفائه (1).
قوله: وأما الإثبات، نحو: الخيل حيوان يُسابَق عليه، فتجبُ فيه الزكاةُ كالإبل، فيقول: نعم زكاة القيمة (2).
هذا التقسيم الثاني من القول بالموجب وهو أن يرد من المعترض إبطالًا لمذهب المستدل، فماذا قال الحنفي في وجوب الزكاة في الخيل: حيوان يُسابَق عليه، فتجب فيه الزكاة كالإبل، فيقول المعترض: أقول بموجَب ذلك، وهو أن تَجِبَ فيها زكاةُ القيمةِ إذا كانت للتجارة (3).
(1) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 561).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 561).
قوله: وجوابه بأن النزاع في زكاة العين، وقد عرّفنا الزكاة باللام، فَيُصرَف إلى محل النزاع (1).
وجواب هذا القسم أن يقول المستدل: النزاعُ إنما كان في زكاة العين خصوصًا، وقد عرفنا الزكاةَ باللام، فيعود إلى المعهود، فينصرف إلى محل النزاع (2)، وأيضًا فلفظ الزكاة يعم زكاة العين والتجارة، فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة فهو غير متحد، لأن موجب الدليل التعميم.
فالقول ببعض الموجب لا يكون قولًا بالموجب بل ببعضه.
قوله: وفي لزومِ المعترض إبداءُ مستندِ القول بالموجَب خلاف (3).
يعني أن المعترض إذا قال بموجب دليل المستدل، هل يجب عليه أن يذكر مستند القول بموجبه؟ مثل أن يقول: التفاوتُ في الآلة لا يمنعُ القِصَاص، ولكن لا يجب لانتفاء السبب، فيه قولان (4).
أحدهما: يجب؛ إذ لو لم يجب عليه ذكر مستند القول بالموجب، لأتى به نكدًا أو عنادًا على المستدلّ ليُفحِمَه.
والقول الثاني: لا يجب، لأن المعترض عَدلٌ، وهو أعرفُ بمذهبه ومأخذه، فوجب تقليده في ذلك، وإلا كان مطالبته بالمستند تكذيبًا له.
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(2)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 561).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(4)
انظر الأقوال في: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 563).
قوله: ويرد على القياس منع كونه حجة أو في الحدود والكفارات والمظان كالحنفية (1).
يعني يرد على القياس أسئلة أُخَر، مثل: أن القياس في نفسه ليس حُجّةً شرعيّةً كمذهب الظاهريّة، أو ليس حجّة في الحدودِ، والكفاراتِ، والمظانّ، يعنى الأسباب كما هو مذهب الحنفية، وقد سبق (2). وسبق جوابه في أقسام العلّة (3).
قوله: والأسئلة راجعةٌ إلى منع، أو معارضة، وإلا لم تسمع (4).
جميع الأسئلة المذكورة على تعددها راجعةٌ عند التحقيق إلى منعٍ أو معارضةٍ، وإلا لم تسمعْ (5)، وذلك لأن عرض المستدلّ الإلزام بإثبات مدعاه لبدليل، وعرض المعترض عدم الالتزام يمنعه عن إثباته به، والإثبات به يكون بصحة مقدماته ليصلح للدلالة، والمعترض يمنع مقدمات الدليل ليسلم مذهبه -أعنى المعترض- من إفساده له أو تعارض في الحكم، وفي الدليل بما يقاومه أو يترجح عليه ليضعف قوته عن إفساد مذهب المعترض.
قوله: وذكر بعضهم أنها خمسة وعشرون (6).
(1) مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(2)
انظر: صـ (202).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 565).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(5)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 566).
(6)
مختصر أصول الفقه لابن اللجام ص (160).
ممن ذكروا ذلك الآمدي في المنتهى (1) فقال: الاستفسارُ، فسادُ الاعتبار، فسادُ الوضع، منعُ حكم الأصل، التقسيمُ، منعُ وجود العلّة في الأصل، المطالبةُ بتأثير الوصف، عدمُ التأثير، القدحُ في مناسبة الوصف، منعُ صلاحيةِ إفضاء الوصف إلى الحكمة المطلوبة، منعُ ظهور الوصف مع انضباطه، النّقضُ، الكسرُ، المعارضةُ في الأصل، التركيبُ، التعديةُ، منع وجود العلّة في الفرع، المعارضةُ في الفرع بما يقتضي حكم المستدل، الفرقُ، اختلافُ الضابطِ بين الأصل والفرع مع اتحاد الحكمة، اتحادُ الضابط مع اختلاف الحكمة، عكس الذي قبله، اختلاف الفرع والأصل، قلبُ الدليل، القول بالموجَب (2).
قوله: وترتيبها أولى اتفاقًا، وفي وجوبه خلاف (3).
ترتيب الأسئلة: هو جعل كل سؤال في رتبته على وجه لا يفضي بالمعترض إلى المنع بعد التسليم، واتفقوا على أن ترتيبها على هذا الوجه أولى (4)، وهو صحيح، لأن المنع بعد التسليم
(1) منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص (192).
(2)
انظر: مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد للإيجي (2/ 256)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 567).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(4)
انظر نقل الاتفاق في: الكافية في الجدل للجويني ص (132)، الإحكام للآمدي (4/ 116)، مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد للإيجي (2/ 280)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 569)، شرح الكوكب لابن النجار (4/ 351)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 168)، نهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3612)، الفائق لابن قاضي الجبل (4/ 363)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 357)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 240).
قبيح، فأقل أحواله أن يكون التحرّز منه أولى. أما وجوبه فاختلفوا فيه على قولين (1):
منهم من أوجبه نفيًا للقبح المذكور، ونَفي القبحِ واجبٌ.
ومنهم من لم يُوجبه، نظرًا إلى أنّ كلّ سؤالٍ مستقلّ بنفسه له حكم نفسه، وجوابه مرتبط به، فلا فرق إذن بين تقدمهُ وتأخرهُ، والمقصود إفحام الخصم، وهو حاصل مع الترتيب وعدمه (2).
تنبيه: ليس المرادُ بالوجوبِ هنا الوجوب الشرعي الذي يأثم بتركهِ، بل المراد الوجوب الاصطلاحي، الذي يكونُ تاركه مذمومًا في اصطلاح النُّظّارِ، فهو قادحٌ في الفضيلةِ (3) والله تعالى أعلم.
قوله: وفي كيفيته أقوال كثيرة، والله تعالى أعلم (4).
أي في كيفية الترتيب، وقد تقدم أن ترتيب الآمدي (5)
(1) انظر: الإحكام للآمدي (4/ 116)، مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد (2/ 280)، المسودة لآل تيمية ص (437)، نهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3613)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 247)، أصول ابن مفلح (3/ 1408)، شرح المحلى على جمع الجوامع (2/ 329)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 350)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 357).
(2)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 569).
(3)
شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 573).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(5)
انظر: الإحكام للآمدي (4/ 116).
خلاف ترتيب المصنف، وذكر النيلي (1) في شرح جدل الشريف (2) أربعة عشر: الاستفسارُ، فسادُ الاعتبار، فسادُ الوضع، المنعُ، التقسيمُ، المطالبةُ، النقضُ، القولُ بالموجَب، عدمُ التأثير، الفرقُ، المعارضةُ، التعديةُ، التركيبُ، هكذا ذكر أنها أربعة عشر، وإنما أورد هذه الثلاثة عشر (3).
وذكر ابن المنِّي من هذا الخلاف جملة في جدله المسمى: جَنّة المُنَاظِر وجُنّة النّاظِر (4) واختار منها فساد الوضع ثم فساد الاعتبار، ثم الاستفسار، ثم المنع، ثم المطالبة، ثم الفرق، ثم النقض، ثم القول بالموجَب، ثم القلب.
وأبو محمد البغدادي اختار فساد الوضع، ثم الاعتبار، ثم الاستفسار، ثم المنع، ثم المطالبة. وهو منع العلّة في الأصل، ثم الفرق، ثم النقض، ثم القول بالموجب، ثم القلب، ورد التقسيم إلى الاستفسار أو الفرق فإن عدم التأثير مناقشة لفظية (5).
(1) جاءت النسبة إليه في شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 567)، والتحبير للمرداوي (7/ 3690). لم أقف له على ترجمته في المصادر التي بين يدي.
(2)
هكذا ورد اسم هذا الكتاب عند الطوفي في شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 567)، وابن بدران في المدخل (1/ 365)، ولم أجد عنه أكثر من هذا فيما وقفت عليه.
(3)
جاءت النسبة إليه في: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 567).
(4)
جاءت النسبة إليه في شزح مختصر الروضة للطوفي (3/ 570)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 351).
(5)
انظر: أصول ابن مفلح (3/ 1410).
تنبيه: هذه الواردةُ على القياسِ، ليسَ المرادُ من ورودِها على القياس أنها تَرِد على كل قياس، لأن من الأقيسةِ ما لا يَرِد عليه بعضُ الأسئلةِ المذكورِةِ، كالقياس مع عَدَم النص، والإجماع، لا يَتّجِه عليه فسادُ الاعتبارِ، إلّا من ظاهريٍّ ونحوه من منكري القياس، واللفظ البيّن لا يردُ عليه سؤالُ الاستفسار، والوصفُ المناسبُ من وجهٍ واحدٍ لا يرد عليه فسادُ الوضع، وإنما المرادُ أنّ الأسئلةَ الواردةَ على القياسِ؛ لا تخرجُ عن هذه (1). والله تعالى أعلم.
قوله: الاستصحاب، دليل ذكره المحققون إجماعًا (2) الاستصحابُ (3): دليلٌ عند علمائنا (4)، والشافعية (5)(6)، وذكرهُ
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 573).
(2)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(3)
الاستصحاب لغة: طلب الصحبة، وكل شيء قارن أو لازم شيئًا فقد صاحبه. انظر: مادة "صحب" في معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 335). واصطلاحًا: التمسك بدليل عقلي أو شرعي لم يظهر عنه ناقلٌ مطلقًا. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 147)، والتحبير للمرداوي (8/ 3753).
(4)
انظر: العدة لأبي يعلى (4/ 1262)، التمهيد لأبي الخطاب (4/ 251)، الواضح لابن عقيل (2/ 310)، روضة الناظر لابن قدامة (2/ 508)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 147)، المسودة لآل تيمية ص (488)، أصول ابن مفلح (4/ 1433)، شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 403).
(5)
انظر: شرح اللمع للشيرازي (2/ 986)، المستصفى للغزالي (1/ 27)، الإحكام للآمدي (4/ 127)، تشنيف المسامع للزركشي (3/ 417)، البحر المحيط للزركشي (6/ 17)، شرح المحلى على جمع الجوامع (2/ 347).
(6)
كالمالكية، وبعض الحنفية خلافًا لأكثر الحنفية وبعض المتكلمين. انظر: المعتمد للبصري (2/ 325)، إحكام الفصول للباجي (2/ 700)، أصول السرخسي (2/ 217)، =
القاضي إجماعًا (1) -وكذا أبو الطيّب الشافعي (2) - قال: وقد ذكره الحنفية (3).
وذكر الآمدي بطلانه عن أكثر الحنفية (4) وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين (5).
وكذا ذكره أبو الخطاب في مسألة القياس أنه ليس دليلًا (6)، واختاره بعض علمائنا (7).
واستصحاب أمر وجودي أو عدمي، عقلي أو شرعي
= بذل النظر للأسمندي ص (672)، شرح مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد للإيجي (2/ 284)، شرح تنقيح الفصول للقرافي ص (447)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 176)، تقريب الوصول لابن جزي (391)، نشر البنود للعلوي (2/ 253).
(1)
انظر: العدة لأبي يعلى (4/ 1262).
(2)
جاءت النسبة إليه في: البحر المحيط للزركشي (6/ 20).
(3)
اختلف الحنفية في حجية الاستصحاب ووجوب العمل به. الأول: أنه ليس بحجة أصلًا. وهو لأكثر الحنفية، كما نسبه البخاري في كشف الأسرار للبخاري (3/ 377). الثاني: أنه حجة لإبقاء ما كان على ما كان حتى يجب الحمل به في حق نفسه، وهو لبعضهم. الثالث: قال أبو منصور الماتريدي: إنه حجةٌ على الخصم في الشرعيات. انظر تفصيل الخلاف في: أصول الفقه للامشي ص (188)، أصول السرخسي (2/ 223)، بذل النظر (673)، بديع النظام لابن الساعاتي (2/ 612)، ميزان الأصول للسمرقندي ص (659)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 176)، فواتح الرحموت لابن عبد الشكور (2/ 359).
(4)
انظر: الإحكام للآمدي (/ 127).
(5)
انظر: المعتمد للبصري (2/ 325).
(6)
انظر: التمهيد لأبي الخطاب (3/ 399).
(7)
انظر: المسودة لآل تيمية ص (489).
سواء (1)، نحو: لا يَجب الوتر لأنهُ الأصل (2)، وكذا صلاةُ سادسَة، لأن السمع لما دل على خمس صلوات بقيت السادسة غير واجبة، لا لتصريح السمع بنفيها، لأن لفظه قاصر على إيجاب الخمسة، لكن كان وجوبها منفيًا، ولا مثبت للوجوب فيبقى على النفي الأصلي، وإذا أوجب عبادةً على قادر، بقيَ العاجزُ على ما كان عليه، ولو أوجبها في وقت بقيت في غيره على البراءة الأصلية (3).
قوله: وإنما الخلاف في استصحاب حكم الإجماع (4) في محلّ الخلافِ، والأكثرُ ليس بحجة (5)،
(1) قال الطوفي: أمّا الإثبات فالعقل قاصرٌ عنه، أي: أن العقل لا يدلّ على ثبوت الحكم الشرعي، بناءً على أن العقل هادٍ ومرشد، لا مشرّع وموجب، وأمّا النفي، أي: نفي الحكم الشرعي، فالعقل دلّ عليه، فيستصحب. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 152).
(2)
انظر: أصول ابن مفلح (4/ 1433).
(3)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (2/ 505).
(4)
عرّفه أبو يعلى بقوله: أن تُجمع الأمة على حكم، ثم تتغيّر صفة المجمَع عليه، ويختلف المجمعون فيه. انظر: العدة لأبي يعلى (4/ 1265).
(5)
مذهب الحنفية وأكثر الشافعية كالشيرازي، والغزالي، وجماعة من المالكية منهم: الباقلاني، وأكثر الحنابلة كابن قدامة، والطوفي وابن مفلح. قال المرداوي في التحبير: والأصح الذي عليه الأكثر من أصحابنا وغيرهم أنه ليس بحجة. انظر: العدة لأبي يعلى (4/ 1265)، إحكام الفصول للباجي (2/ 701)، أصول السرخسي (2/ 223)، التمهيد لأبي الخطاب (4/ 254)، شرح اللمع للشيرازي (2/ 987)، المستصفى للغزالي (2/ 223)، روضة الناظر لابن قدامة (2/ 509)، الإحكام للآمدي (4/ 36)، البحر المحيط للزركشي (6/ 202)، أصول ابن مفلح (4/ 1435)، تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 177).
خلافًا للشافعي (1)، وابن شاقلا، وابن حامد (2)(3).
مثاله: أن يقول في المتيمم إذا رأَى الماء في أثناء الصلاةِ: الإجماعُ منعقدٌ على صحةِ صلاتِه ودوامها، فنحن نَستَصْحب ذلك حتى يأتي دليل يزيلنا عنه، ، وهذا فاسدٌ، لأن الإجماع إنما دلّ على دوامها حال العدم (4).
وأما في حالِ الوجود: فهو مختلفٌ فيه، ولا إجماع مع الخلاف، واستصحاب الإجماع عند انتفاء الإجماع محال، وهذا كما أن العقل دلّ على البراءةِ الأصلية، بشرط: عدم دليل السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع، وهذا؛ لأنّ كل دليل يضاده نفس الخلاف لا يمكن استصحابه معه، والإجماع يضاده نفس الاختلاف فلذلك صحّ استصحابه معه (5).
قوله: ونافي الحكم يَلزَمُه الدليل (6)
(1) انظر: النسبة إلى الإمام الشافعي في: المستصفى للغزالي (1/ 224)، الإحكام للآمدي (4/ 127).
(2)
جاءت النسبة إليهما في المسودة لآل تيمية ص (343)، وأصول ابن مفلح (4/ 1435)، والتحبير للمرداوي (8/ 3763).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(4)
انظر: العدة لأبي يعلى (4/ 1265)، التمهيد لأبي الخطاب (4/ 255)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 509)، البلبل في أصول الفقه (179)، المسودة لآل تيمية ص (1/ 341)، أصول ابن مفلح (4/ 1434)، التحبير للمرداوي (541).
(5)
روضة الناظر لابن قدامة (2/ 511).
(6)
هذا مذهب الجمهور من الحنفية وأكثر الشافعية وأكثر الحنابلة والمتكلمين والفقهاء. نقله الجويني عن الباقلاني في التلخيص للجويني: (3/ 139) بقوله: =
خلافًا لقوم (1)، وقيلَ: في الشرعيات (2) فقط (3).
قال قوم: لا دليل عليه مطلقًا لأمرين:
أحدهما: أن المدّعَى عليه الدَّليل، لا دليل عليه (4).
والثاني: أنّ الدّليل على النفي متعذّر، فكيف يُكلف ما لا يمكن؟ كإقامة الدليل على براءةِ الذمةِ.
ولنا قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} (5).
= "ما صار إليه المحققون من الأصوليين أن من نفى حكمًا عقليًّا أو شرعيًّا، فهو في توجه الطلبة عليه بإقامة الدليل، نازل منزلة المثبت". انظر: العدة لأبي يعلى (4/ 1270)، التبصرة للشيرازي ص (530)، إحكام الفصول للباجي (2/ 700)، أصول السرخسي (2/ 224)، التمهيد لأبي الخطاب (4/ 263)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 511)، الإحكام للآمدي (4/ 131).
(1)
القول الثاني: وهو أن من نفى حكمًا شرعيًّا أو عقليًّا فليس عليه إقامة الدليل، وهو قول بعض أهل الظاهر نسبه إليهم الباجي في إحكام الفصول (2/ 700)، المستصفى للغزالي (1/ 132).
(2)
القول الثالث: وهو التفصيل فإن كان الحكم عقليًّا فيلزم النافي الدليل، وإن كان شرعيًّا فلا يلزم النافي له الدليل وهذا ما ذهب إليه ابن قدامة. انظر: التبصرة للشيرازي ص (530)، التلخيص:(3/ 139)، العدة لأبي يعلى (4/ 1271)، المستصفى للغزالي (1/ 132)، روضة الناظر لابن قدامة (3/ 511)، البحر المحيط للزركشي (6/ 22)، الوصول إلى الأصول لابن برهان (2/ 258).
(3)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (160).
(4)
أي: أن البينة على المدعي، ولم يجعل الشارع البينة على المدَّعى عليه.
(5)
سورة البقرة: آية (111).
والمعنى؛ أن يقال للنافي: ما ادّعَيت نفيهُ علمته، أم أنت شاك فيه؟ فإن أقرّ بالشكّ: فهو مدعي بالجهل، وإن ادّعى العلم فإما أن يكون بنظر أو بتقليد، فإن كان بتقليد فهو -أيضًا- معترفٌ بِعمَى نفسهِ، وإنّما يدّعي البصيرة لغيره، وإن كان عن نظرٍ: فيحتاج إلى بيانه.
ولأنه لو سقط الدليل عن النافي؛ لم يعجز المثبت عن التّعبير عن مقصود إثباتهِ بالنفي فيقول: بَدلَ قولهِ: "مُحدَثٌ""ليْس بقديم" وبَدل قوله: "قادر""ليس بعاجز".
وقولُهم: إن المدّعَى عليه لا دليل عليه: عنه أجوبةٌ.
أحدها: المنع، فإن اليمين دليل، لكنها قصُرت عن الشهادة، فَشُرِعَت عند عدمِها.
الثاني: أن المدّعَى عليه، إنما لم يحتجْ إلى دليل؛ لوجودِ اليد التي هي دليل بالملك.
الثالث: أنه إنما لم يجب عليه، للعجز عنه، إذ لا سبيلَ إلى إقامةِ دليلٍ على النفي، فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه الشاهد من أول وجودِه إلى وقت الدعوى، فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولًا وفعلًا، بمراقبة [اللحظات](1) وهو محال (2)، ومن قال بلزومه في الشرعيات استدلّ بما تقدم، وأما العقليات:
(1) في المخطوط "التخاطب"، والصحيح ما أثبته ليستقيم المعنى، وهي الموجودة في تحقيقات روضة الناظر. انظر: روضة الناظر لابن قدامة تحقيق د. السعيد ص (159)، وتحقيق د. النملة (2/ 515).
(2)
انظر: روضة الناظر لابن قدامة (2/ 515).
فيمكن نفيها: فإن إثباتها يُفضي إلى محال، وما أفضى إلى المحال محال، ويمكن الدليل عليه بدليل التلازم: فإن انتفاء أحد المتلازمين، دليل على انتفاء الآخر. كقوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان (2). والله تعالى أعلم (3).
قوله: مسألة: شرعُ مَن قبلِنا، هل كان نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم متعبّدًا بشرع مَنْ قبلهِ قبل بعثته مطلقًا؟ أو آدمَ أو نوح أو إبراهيمَ أو موسَى أو عيسَى عليهم السلام، أو لم يكن متعبّدًا بشرع من قبله؟ أقوال (4):
الأول (5): قال به الحلواني (6)
(1) سورة الأنبياء، آية (22).
(2)
من منهج القرآن إثبات الوحدانية بدليل التلازم، أو ما يسمى بدليل التمانع، فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان، لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وفساد السموات والأرض لازمٌ لوجود إلهين فأكثر، فانتفاء الفساد فيهما يدل على انتفاء إلهية أخرى. انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 168).
(3)
روضة الناظر لابن قدامة (2/ 517).
(4)
مختصر أصول الفقه لابن اللحام ص (161).
(5)
يشير إلى القول عن أكثر الحنابلة وأغفل المصنف المذاهب الأخرى، انظرها في الحاشية القادمة، وبناءً على القول بأن نبينا قبل بعثته متعبّد بشرع من قبله مطلقًا، وهو الذي عليه الجمهور وصححه المرداوي في التحبير، فالقائلين بذلك اختلفوا هل كان متعبدًا بشرع معين أم لا؟ ثم اختلفوا في هذا المعين هل هو شرع آدم أو نوح أو إبراهيم. انظر تفصيل الخلاف في المسألة في: التحبير للمرداوي (8/ 3769)، وأصول ابن مفلح (4/ 1438).
(6)
جاءت النسبة له في: المسودة لآل تيمية ص (182).
والقاضي (1) وذكره (2) عن الشافعية (3) وأن أحمد أومأ إليه (4) واختار ابن عقيل الرابع (5)، وذكره عن الشافعية (6).
وجه الأول: ما ثبت في الصحيح (7)، عن عائشة رضي الله عنها:
(1) انظر: العدة لأبي يعلى (3/ 765).
(2)
نسبه القاضي للشافعية في: العدة لأبي يعلى (3/ 766).
(3)
للشافعية في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا بشرع من قبله. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدًا بشرع من قبله، وهو مذهب جمهور المتكلمين، وا ختيار الشيرازي، والغزالي، والآمدي. انظر: المعتمد للبصري (2/ 336)، وقواطع الأدلة للسمعاني (2/ 224). والثالث: التوقف، وهو المختار عندهم، صرح بذلك المحلي كما في شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 352) أنه المذهب الصحيح. انظر: اللمع للشيرازي ص (63)، شرح اللمع للشيرازي (1/ 528)، المستصفى للغزالي (1/ 255)، الإحكام للآمدي (3/ 140)، البحر المحيط للزركشي (6/ 41)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 352).
(4)
انظر: العدة لأبي يعلى (3/ 765)، المسودة لآل تيمية ص (184). وسيأتي نص هذه العبارة في ص (265).
(5)
والمراد أن ابن عقيل اختار أنه متعبّد صلى الله عليه وسلم بشريعة إبراهيم. انظر: الواضح لابن عقيل (4/ 194).
(6)
أشار ابن عقيل إلى قول الشافعية في: الواضح لابن عقيل (4/ 172).
(7)
هذه رواية مسلم (1/ 139) في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله من حديث طويل أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؟ أخبرته أنها قالت (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله
…
) الحديث. وانظر: صحيح البخاري مع فتح الباري لابن حجر (1/ 30)، كتاب بدء الوحي باب: أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم. برقم (3).