الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلك الثاني في وضع حروف العربية
قال الشيخ أبو العباس البونيّ «1» رحمه الله في كتابه «لطائف الإشارات في أسرار الحروف المعلومات» :
يروى عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه أنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، كلّ نبيّ مرسل بم يرسل؟. قال: بكتاب منزّل. قلت: يا رسول الله، أيّ كتاب أنزل على آدم؟. قال: أب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول الله، كم حرف؟. قال: تسع وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى احمرّت عيناه، ثم قال: يا أبا ذرّ، والّذى بعثني بالحقّ نبيّا! ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفا.
قلت: يا رسول الله، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام: لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك؛ من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل على آدم، ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء منّي وأنا بريء منه، ومن لا يؤمن بالحروف وهي تسعة وعشرون حرفا لا يخرج من النار أبدا» .
وهذا الخبر ظاهر في أن المراد منه حروف العربية فقط، إذ قد أجاب صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ رضي الله عنه بحروف: أب ت ث وأثبت منها لام ألف، وليس ذلك في غير
حروف العربية؛ وقضية ذلك أن حروف العربية أنزلت على آدم عليه السلام وهو الموافق لما في أوّل الفصل قبله، لكن في كتاب «التنبيه على نقط المصاحف وشكلها» للشيخ أبي عمرو الدانيّ «1» رحمه الله أنها أنزلت على هود عليه السلام؛ ولا تباين بينهما، لجواز أن تنزل على آدم مرّة وعلى هود أخرى، فربما نزلت الآية على نبيّ ثم نزلت على نبيّ آخر كما قيل في قوله تعالى: حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
«2» إنه ما بعث الله تعالى نبيّا إلّا وأنزل عليه حم عسق
. وقد أنزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
على سليمان عليه السلام ثم أنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وربما أنزلت الآية الواحدة على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين كما في الفاتحة فإنها نزلت مرة بمكة ومرة بالمدينة على أحد الأقوال.
وعلى الجملة فقضيته أنها توقيفيّة وهو الموافق لأحد الأقوال في مطلق الحروف. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أوّل من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان «3» (وبولان قبيلة من طيء) نزلوا مدينة الأنبار «4» ، وهم مرامر ابن مرّة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة «5» ، اجتمعوا فوضعوا حروفا مقطّعة وموصولة، ثم قاسوها على هجاء السّريانية؛ فأما مرامر فوضع الصّور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام؛ ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتعلّمه من تعلمه وكثر في الناس وتداولوه.
ونقل الجوهريّ «1» عن شرقيّ بن القطاميّ «2» : أن أوّل من وضعه رجال من طيىء منهم مرامر بن مرّة «3» وأنشد عليه:
تعلّمت باجاد «4» وآل مرامر
…
وسوّدت أثوابي ولست بكاتب
قال الجوهري: وإنما قال آل مرامر لأنه كان قد سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبي جاد «5» وهم ثمانية. وذكر غيره نحوه فقال: أوّل من اخترعه وألّف حروفه ستة أشخاص من طسم كانوا نزولا عند عدنان بن أدد، وكانت أسماؤهم:
أبجد، وهوّز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، فوضعوا الكتابة والخطّ على أسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفا ليست في أسمائهم ألحقوها بها، وسمّوها الرّوداف، وهي الثاء المثلثة، والخاء، والذال، والظاء، والغين، والضاد المعجمات على حسب ما يلحق من حروف الجمّل، ثم انتقل عنهم إلى الأنبار، واتصل بأهل الحيرة «6» ، وفشا في العرب ولم ينتشر كلّ الانتشار إلى أن كان المبعث.
وقيل: إن نفيسا ونصرا وتيما ودومة بني إسرائيل وضعوا كتابا واحدا وجعلوه سطرا واحدا موصول الحروف كلّها غير متفرق، ثم فرقه نبت وهميسع وقيذار، وفرقوا الحروف وجعلوا الأشباه والنظائر. وعن هشام بن محمد «7» عن أبيه قال:
أخبرني قوم من علماء مصر أن أوّل من كتب الكتاب العربيّ رجل من بني النّضر بن كنانة، فكتبته العرب حينئذ.
وقضية هذه المقالات أنها اصطلاحية.
وفي السيرة لابن هشام: أن أوّل من كتب الخط العربيّ حمير بن سبإ «1» علّمه في المنام؛ قال: وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند سمّي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى هود عليه السلام. وهو مخالف لما تقدّم من كلام أبي عمرو الدانيّ: أن العربي أنزل على هود عليه السلام.
قال السهيلي «2» رحمه الله في «التعريف والإعلام» : والأصح ما رويناه من طريق أبي عمر بن عبد البر «3» رحمه الله يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوّل من كتب بالعربيّة إسماعيل عليه السلام» قال ابن عبد البر: وهذا أصح من رواية «أوّل من تكلّم بالعربيّة إسماعيل» وهذا محتمل للتوقيف أيضا بأن يكون إسماعيل علّمها بالوحي، وللاصطلاح بأن يكون وضعه من نفسه.
ثم أوّل ما ظهرت الكتابة العربيّة بمكة من قبل حرب بن أمية. قال المدائني: حدثني حسان بن عبد الملك الأنصاريّ قال: حدثني سليمان بن سعيد المرّيّ قال: سمعت الفرّاء «4» يقول: حدّثني العمريّ «5» أنه قيل لابن عباس: من.
أين تعلّمتم الهجاء والكتابة والشّكل؟ قال علّمناه من حرب بن أميّة، قيل: ومن أين علّمه حرب بن اميّة؟ قال: من طاريء طرأ علينا من اليمن؛ قيل: ومن اين علّمه ذلك الطاريء؟ قال: من كاتب الوحي لهود عليه السلام.
وذكر أبو عمر والدانيّ في كتاب «التنبيه على النقط والشكل» نحوه. وقيل:
أوّل ما ظهرت باليمن من قبل أبي سفيان بن أمية، عمّ أبي سفيان بن حرب، وأتته من قبل رجل من أهل الحيرة؛ قال أهل الحيرة: أخذناها من أهل الأنبار.
وقال أبو بكر بن أبي داود «1» عن عليّ بن حرب «2» عن هشام بن محمد بن السائب «3» قال: تعلم بشر بن عبد الملك «4» الكتابة من أهل الأنبار، وخرج إلى مكة، وتزوّج الصّهباء بنت حرب «5» . وقيل: إنه لما تعلم أبو سفيان بن حرب الخطّ من أبيه تعلمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من قريش، وتعلمه معاوية ابن أبي سفيان من عمه سفيان.
أما الأوس والخزرج فقد روى الواقديّ «6» بسنده إلى سعد بن سعيد «7» قال:
كانت الكتابة العربية قليلا في الأوس والخزرج، وكان يهوديّ من يهود ماسكة «8»
قد علّمها فكان يعلّمها الصّبيان فجاء الإسلام وفيهم بضعة عشر يكتبون، منهم سعيد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، يكتب الكتابين جميعا العربية والعبرانية، ورافع بن مالك، وأسيد بن حضير، ومعن بن عديّ، وأبو عبس بن كثير، وأوس بن خوليّ، وبشير بن سعد.
قال صاحب «الأبحاث الجميلة في شرح العقيلة» «1» : والخط العربيّ هو المعروف الآن بالكوفيّ، ومنه استنبطت الأقلام التي هي الآن، وقد ذكر ابن الحسين «2» في كتابه في قلم الثّلث «3» : أن الخطّ الكوفيّ فيه عدّة أقلام مرجعها إلى أصلين: وهما التقوير والبسط.
فالمقوّر- هو المعبّر عنه الآن باللّيّن، وهو الذي تكون عرقاته وما في معناها منخسفة منحطة إلى أسفل كالثلث والرقاع ونحوهما.
والمبسوط- هو المعبّر عنه الآن باليابس، وهو ما لا انخساف وانحطاط فيه كالمحقّق، وعلى ترتيب هذين الأصلين الأقلام الموجودة الآن. ثم قد ذكر صاحب «إعانة المنشيء» أن أوّل ما نقل الخط العربيّ من الكوفيّ إلى ابتداء هذه الأقلام المستعملة الآن في أواخر خلافة بني أميّة وأوائل خلافة بني العباس.
قلت: على أن الكثير من كتّاب زماننا يزعمون أن الوزير أبا عليّ بن مقلة «1» (رحمه الله تعالى) هو أوّل من ابتدع ذلك، وهو غلط فإنا نجد من الكتب بخط الأوّلين فيما قبل المائتين ما ليس على صورة الكوفيّ بل يتغير عنه إلى نحو هذه الأوضاع المستقرّة وإن كان هو إلى الكوفيّ أميل لقربه من نقله عنه.
قال أبو جعفر النحاس «2» في «صناعة الكتّاب» : ويقال إن جودة الخط انتهت إلى رجلين من أهل الشأم يقال لهما: الضحّاك، وإسحاق بن حمّاد «3» ، وكانا يخطان الجليل «4» ؛ وكأنه يريد الطّومار «5» أو قريبا منه.
قال صاحب «إعانة المنشيء» : وكان الضحاك في خلافة السّفّاح، أوّل خلفاء بني العباس، وإسحاق بن حمّاد في خلافة المنصور والمهديّ.
قال النحاس: ثم أخذ إبراهيم (يعني السّجزيّ)«6» عن إسحاق بن حماد
الجليل واخترع منه قلما أخفّ منه سماه قلم الثلثين «1» ، وكان أخطّ أهل دهره به، ثم اخترع من قلم الثلثين قلما سماه قلم الثلث.
قال صاحب «الأبحاث الجميلة» : وأخذ يوسف أخو إبراهيم السّجزيّ القلم الجليل عن إسحاق أيضا، واخترع منه قلما أدق منه وكتبه كتابة حسنة فأعجب به ذو الرياستين الفضل بن سهل وزير المأمون، وأمر أن تحرّر الكتب السلطانية به، ولا تكتب بغيره، وسماه القلم الرّياسيّ «2» . قال بعض المتأخرين:
وأظنه قلم التوقيعات.
قال النحاس: ثم أخذ عن إبراهيم السّجزيّ الأحول «3» الثلثين والثلث، واخترع منهما قلما سماه قلم النصف، وقلما أخفّ من الثلث سماه خفيف الثلث، وقلما متصل الحروف ليس في حروفه شيء ينفصل عن غيره سماه المسلسل، وقلما سماه غبار الحلية «4» ، وقلما سماه خط المؤامرات «5» ، وقلما سماه خطّ القصص «6» ، وقلما مقصوعا سماه الحوائجيّ. قال: وكان خطه يوصف بالبهجة والحسن من غير إحكام ولا إتقان، وكان عجيب البري للقلم. وكان وجه
النعجة «1» مقدّما في الجليل. قال: وكان محمد بن معدان يعني المعروف بأبي درجان «2» مقدّما في خط النّصف، وكان قلمه مستوي السّنّين، وكان يشقّ الطاء والظاء والصاد والضاد بعرض النصف؛ ويعطف مثل يا، ويصل كلّ ياء من يساره إلى يمينه بعرض النصف لا يرى فيه اضطراب. وكان أحمد «3» بن محمد بن حفص المعروف بزاقف أجلّ الكتّاب خطّا في الثلث. وكان ابن الزّيّات- في أيام ابن طولون- وزير المعتصم يعجبه خطّه ولا يكتب بين يديه غيره. وانتهت رياسة الخط بمصر إلى طبطب المحرّر جودة وإحكاما.
قال النحاس: وكان أهل مدينة السلام «4» يحسدون أهل مصر على طبطب وابن عبد كان «5» ، يعني كاتب الإنشاء لابن طولون، ويقولون: بمصر كاتب ومحرّر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما.
قلت: ثم انتهت جودة الخط وتحريره على رأس الثلاثمائة إلى الوزير أبي عليّ محمد بن مقلة وأخيه أبي عبد الله «6» .
قال صاحب «إعانة المنشيء» : وولّدا طريقة اخترعاها، وكتب في زمانهما جماعة فلم يقاربوهما. وتفرّد أبو عبد الله بالنّسخ «7» ، والوزير أبو عليّ
بالدّرج؛ وكان الكمال في ذلك للوزير؛ وهو الذي هندس الحروف وأجاد تحريرها، وعنه انتشر الخطّ في مشارق الأرض ومغاربها. ولله قول القائل:
سبق الدّمع في المسير المطايا
…
إذ روى من أحب عنه بقلّه
وأجاد السّطور في صفحة الخدّ
…
ولم لا يجيد وهو ابن مقله
وقول الآخر:
تسلسل دمعي فوق خدّي أسطرا
…
ولا عجب من ذاك وهو ابن مقلة
ثم أخذ عن ابن مقلة محمد بن السمسماني «1» ومحمد بن أسد «2» ؛ وعنهما أخذ الأستاذ أبو الحسن عليّ بن هلال المعروف بابن البوّاب «3» ، وهو الذي أكمل قواعد الخط وتممها واخترع غالب الأقلام التي أسسها ابن مقلة؛ ولما مات رثاه بعضهم بقوله:
واستشعر الكتّاب فقدك سالفا
…
فجرت بصحّة ذلك الأيّام
فلذاك سوّدت الدّويّ وجوهها
…
أسفا عليك وشقّت الأقلام
وممن أخذ عنه محمد بن عبد الملك، وعن محمد بن عبد الملك أخذت الشيخة المحدّثة الكاتبة زينب الملقّبة بشهدة ابنة الإبريّ «4» ؛ وعنها أخذ أمين الدين ياقوت «5» ؛ وعنه أخذ الوليّ العجميّ «6» ؛ وعليه كتب العفيف «7» ؛ وعن