الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما ترتيب الخلافة، فله حالتان:
الحالة الأولى ما كان عليه الحال في الزمن القديم
اعلم أن الخلافة لابتداء الأمر كانت جارية على ما ألف من سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم:
من خشونة العيش، والقرب من الناس، واطّراح الخيلاء، وأحوال الملوك، مع ما فتح الله تعالى على خلفاء السلف من الأقاليم، وجبى إليهم من الأموال التي لم يفز عظماء الملوك بجزء من أجزائها. وناهيك أنهم فتحوا عدّة من الممالك العظيمة التي كانت يضرب بها المثل في عظم قدرها، وارتفاع شأن ملوكها، من ممالك المشرق والمغرب، حتّى ذكر عظماء الملوك عند بعض السلف فقال:«إنما الملك الذي يأكل الشعير ويعسّ «1» على رجليه بالليل ماشيا وقد فتحت له مشارق الأرض ومغاربها» يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن سلّم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية؛ وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:
«الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك» فكان آخر الثلاثين خلافة الحسن.
فلما سلّم الحسن رضي الله عنه لمعاوية بعد وقوع الاختلاف وتباين الآراء، اقتضى الحال في زمانه إقامة شعار الملك، وإظهار أبهة الخلافة، فأخذ في ترتيب أمور الخلافة على نظام الملك لما في ذلك من إرهاب العدو وإخافته.
بل كان ذلك شأنه وهو أمير بالشأم قبل أن يلي الخلافة، حتّى حكى صاحب «العقد» وغيره أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم الشأم في خلافته، وهو راكب على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية أمير على
الشام، فخرج معاوية لملاقاته في موكب عظيم، فلقيه في طريقه في خفّ «1» من القوم فلم يشعر به وتعدّاه طالبا له؛ ثم عرّف ذلك فيما بعد، فرجع وسلّم على أمير المؤمنين عمر، ومشى إلى جانبه، فلم يلتفت إليه وطال به ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فالتفت إليه حينئذ، وقال: أنت صاحب الموكب الآن مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ - فقال: يا أمير المؤمنين، إنا بأرض يكثر فيها جواسيس العدوّ فأحتاج أن أظهر لهم من أبّهة الملك والسلطان ما يزعهم «2» ، فإن أمرتني به، ائتمرت، وإن نهيتني عنه، انتهيت- فقال: إن كان ما قلت حقّا، فإنّه لرأي أديب، وإن كان غير حق، فإنه لخدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك- فقال عبد الرحمن: لحسن يا أمير المؤمنين، ما صدر به هذا الفتى عما أوردته فيه- فقال: لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشمناه.
فلما صارت الخلافة إليه، زاد في حسن الترتيب وإظهار الأبّهة، وأخذ الخلفاء بعده في مضاعفة ذلك والاحتفال به حتّى أمست الخلافة في أغي «3» ما يكون من ترتيب الملك، وفاقت في ذلك الأكاسرة والقياصرة، بل اضمحلّ في جانب الخلافة سائر الممالك العظام، وانطوى في ضمنها ممالك المشارق والمغارب، خصوصا في أوائل الدولة العباسية في زمن الرشيد ومن والاه.
حتّى يحكى أن صاحب عمّوريّة من ملوك الروم كانت عنده شريفة مأسورة في خلافة المعتصم فعذّبها، فصاحت وامعتصماه! فقال لها: لا يأتي المعتصم لخلاصك إلا على أبلق «4» . فبلغ ذلك المعتصم، فنادى في عسكره بركوب الخيل البلق، وخرج وفي مقدّمة عسكره أربعة آلاف أبلق، وأتى عمّوريّة فحاصرها
وخلص الشريفة، وقال: اشهدي لي عند جدّك المصطفي صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك، وفي مقدّمة عسكري أربعة آلاف أبلق.
وقد حكى ابن الأثير في تاريخه: أنه لما وصلت رسل ملك الروم إلى بغداد في سنة خمس وثلاثمائة في خلافة المقتدر، رتّب من العسكر في دار الخلافة مائة وستون ألفا ما بين راكب وراجل، ووقف بين يدي الخليفة سبعمائة حاجب، وسبعة آلاف خادم خصيّ: أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود، ووقف الغلمان المجريّة الذين هم بمثابة مماليك الطباق «1» الآن بالباب، بتمام الزينة والمناطق «2» المحلّاة، وزينت دار الخلافة بأنواع الأسلحة، وغرائب الزينة، وغشّيت جدرانها بالستور، وفرشت أرضها بالبسط، وكان عدّة البسط اثنين وعشرين ألف بساط، وعدّة الستور المعلقة ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألف ستر من الديباج المذهب «3» ؛ وكان من جملة الزينة شجرة من الذهب والفضة بأغصانها وأوراقها، وطيور الذهب والفضة على أغصانها، وأغصانها تتمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفّر بحركات مرتبة، وألقيت المراكب والدبادب «4» في دجلة